تهذيب الأخلاق والغايات الحسنة
  • عنوان المقال: تهذيب الأخلاق والغايات الحسنة
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 14:49:33 3-10-1403

يبتني هذا المسلك على حثّ الإنسان ودفعه وإيجاد الداعي فيه إلى القيام بالأعمال الحسنة وإلى إصلاح نفسه من خلال الجزاء والمصالح الدنيوية من جاه أو مال أو ثناء أو ذكر حسن، وعلى تحذيره من القيام بالأعمال السيّئة وذمّها من خلال بيان المساوئ والمضارّ الدنيوية المترتّبة عليها.
ولهذا الجزاء المترتّب على العمل خصوصيتان، هما:
الأولى: أنّه جزاء دنيوي، ومن الواضح أنّ مثل هذا الجزاء مهما طال به الزمن فهو منقطع الآخر وإلى زوال.
الثانية: أنّه جزاء اعتباري لا حقيقي، فالثناء الجميل والذكر الحسن والسمعة الطيبة وما شاكل ذلك كلّها أمور اعتبارية لتنظيم الحياة الاجتماعية ليس إلاّ.
ومع هذا، فلو رجع الإنسان إلى واقعه لوجد الكثير منّا يقوم بجملة من أعماله ـ شاء أم أبى ـ لأجل هذا الجزاء، بشهادة أنّه لو لم يترتّب على أعماله ذلك الثناء الجميل والمدح لشخصه ولم يتحقّق ذلك البُعد له لترك العمل ولم يداوم عليه، ولا يشذّ عن هذا إلاّ الأوحدي من الناس الذي يقول: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا}.1
ولأضرب لذلك مثالاً عن نفسي، فلو درّس أحد درس الأخلاق في نفس هذا المكان، وكان من حيث المستوى والإمكانية العلمية بنفس الدرجة التي أنا عليها ـ لكي لا أجد في ضعفه مبرّراً لعدم ارتياحي ـ أقول: لو جاء مثل هذا الأستاذ وذهب أكثر طلاّبنا إليه وحضروا درسه ولم يبق معي إلاّ ثلاثة أو أربعة طلاّب، فهل أتأذّى وأشعر بعدم الراحة أم لا؟ لا أدري، فإذا كان الأمر مرتبطاً بتكليف إلهي وبخدمة الناس، فإنّ هؤلاء قد استبدلوا بي شخصاً آخر مثلي، وجزاهم الله خيراً إذ رفعوا المسؤولية عن عنقي مع حصولي على الثواب (ونيّة المرء خير من عمله)،2 فهل ينبغي لي أن أتأذّى أم أفرح؟ ومَنْ منّا يفرح؟ فهل نحن نعمل لمعارف أهل البيت عليهم السلام حقّاً أم لأجل السمعة؟ امتحن نفسك، وقف عندها طويلاً، ولا تذهب إلى مكان بعيد، فإنّ الكثير منّا مبتلٍ بهذا وقد لا يلتفت إليه.
وللشيخ المطهريّ قدس سره كلمة قيّمة هنا، إذ يقول: «كثير من الناس يحبّ الإسلام ولكن بشرط أن يكون هو حجّة الإسلام، فلو قال غيره هذا الإسلام الذي يقوله هو لا يقبله».
ومن هنا قال الإمام الخميني قدس سره: (لو اجتمع الأنبياء جميعاً في مكان واحد لما اختلفوا، لأنّه لا أحد منهم يقول: (أنا)، بل كلّ منهم يقول: (هو)، و(هو) واحد فلا معنى لأن يقع الاختلاف بينهم، بل يقع التنازع والاختلاف حينما تصير الأعمال للـ (أنا) وهي متعدّدة). والقرآن صريح في ذلك: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْر اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}،3 وهذا ضابط مهمّ وخطير يضعه القرآن الكريم بيدك لتعرف هل العمل من عند الله عزّ وجلّ أو من عند غيره.
ولابد من التنبيه هنا، أنّ الاختلاف المرفوض الذي نتحدّث عنه هو الاختلاف الذي ينشأ بين المؤمن وأخيه المؤمن داخل الأمّة الواحدة وذلك بفعل «الأنا» وإلاّ فإنّ الاختلاف بين الحق والباطل هو من وظائف وتكاليف المسلم; يقول تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.4
وعلى كلّ حال، فإنّ منشأ الاختلاف داخل الأمّة الصالحة هو (الأنا)، ولعلمائنا قول: بأنّ هذه «الأنا» هي التي أسقطت إبليس عن ذلك المقام الرفيع، فقد صلّى إبليس قبل سقوطه ركعتين لله في السماء في ستّة آلاف سنة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام عنها: (لا يُدرى أمن سنـي الدنيا أم من سنـي الآخرة)5 التي لو حوّلت إلى أيّام حسب ما نعدّ {وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ}6 لكانت أمراً خيالياً، حتى لو فرضنا أنها (الستّة آلاف) كانت هي الواقع لا أنّها لكثرة وأنّ الواقع كان أكثر منها بكثير، ومع ذلك فإنّ هذا الذي صدر منه مثل هذا العمل، طلب منه سبحانه وتعالى طلباً حيث أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فقال في جوابه (أنا) فأسقطته (أناه) من ذلك المقام.
كلّ ذلك لنعتبر نحن فلا نفكّر بأننا قد ضمنّا لأنفسنا ضماناً بما نعمله من أعمال نعتقد بأنّها مانعتنا عن السقوط، فإن (أنا) واحدة تُسقط وتُحبط كلّ عمل عمله الإنسان مهما امتدت سنواته، وبالعكس فقد يطوي الإنسان من خلال عمل واحد صغير مسافة الألف سنة بخطوة واحدة، فلا تتصوّروا بأنّ الإنسان يصل بكمّ أعماله؛ في الحديث القدسيّ: {.. من تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه باعاً، ومن تقرّب إليّ باعاً مشيت إليه هرولةً}7 فقد يدخل الإنسان إلى المسجد وهو كافر فاجر من أهل النار بنيّة صالحة فيتحوّل إلى مؤمن صالح، ويخرج آخر وهو كافر فاجر وإلى النار وقد دخل مؤمناً صالحاً.
فلا الكمّ منظور في الأعمال ولا صورتها وظاهرها بل المدار على نيّة العمل وحقيقته وباطنه. وعلى هذا تفسّر ضربة عليّ عليه السلام يوم الخندق التي ساوت عبادة الثقلين ـ وفي بعض الروايات فضّلتهما ـ وما ذلك إلاّ بسبب باطن عمل الإمام عليه السلام ونيّته وإخلاصه، وإلاّ قد لا تفرق تلك الضربة من حيث الظاهر والعمل الخارجي عن ضربة أيّ شخص آخر يضربها ويقتل بها عمر بن عبد ودّ.
واعلموا أنّ الإخلاص في العمل كالكبريت الأحمر في ندرته، ولا إخلاص إلاّ بمعرفة ولذا قال عليّ عليه السلام: {أوّل الدين معرفته}.8 والمطلب أخطر ممّا قد يُتصور، ويشتدّ فيمن يريد سلوك طريق العلم والعلماء (إذ يغفر ]الله[ للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً)9 وقد يكتفى بالعدد المعلوم من الركعات وبصيام ثلاثين يوماً وآيتين من القرآن الكريم بالنسبة لعوام الناس ولا يكون ذلك كافياً لطالب العلم، لأنّ المعرفة إذا اختلفت اختلف الحساب.
(وهذا المسلك هو المأثور من بحث الأقدمين من يونان وغيرهم فيه (أي في علم الأخلاق). ولم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامّة الناس عن المذموم والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه...).10
فهو إذن مسلك الفلاسفة وعلماء الأخلاق السابقين ولم يستعمله القرآن، والسرّ في ذلك أنّ القرآن الكريم لا يمكن أن يدعو الناس إلى هذا الأمر على أساس دنيوي وجزاء زائل اعتباري.
كما أنّ مثل هذا الأساس إنّما يصلح ظاهر العمل لا باطنه فإنّ الثناء الجميل والذكر الحسن ـ مثلاً ـ يتوقّف على ظاهر العمل لا باطنه، ومثل هذا مثل ذلك الشخص الذي كان يصلّي في المسجد ويحسن القراءة، حتّى إذا مدح قراءته من كان جالساً إلى جواره التفت إليه قائلاً: وأنا مع ذلك صائم، فلأنّه كان يعيش مع الظاهر اضطرّ إلى إعطاء الظاهر والتصريح به مع أنّ حقيقة الجزاء تكمن في باطن العمل لا ظاهره.
وهاهنا مسألة مهمّة لابدّ من الإشارة إليها، وهي أنّ الإسلام لم يهمل ظاهر العمل، كما قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس، بل أوجد له قوانين محكمة ودقيقة ثمّ وجّه الإنسان بعد ذلك إلى اتخاذ هذا الظاهر معبَراً إلى الحقيقة وإلى بواطن الأعمال.
 
________________________________________
(1) الدهر: 9.
(2) المحاسن للبرقي، دار الكتب الإسلامية، قم : 260 / 315 .
(3) النساء: 82.
(4) الفتح: 29.
(5) نهج البلاغة، ص287 ، الخطبة القاصعة.
(6) الحج: 47.
(7) صحيح البخاري، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وآله.
(8) نهج البلاغة، الخطبة الأولى .
(9) خاتمة المستدرك للنوري، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث: ج5 ص247.
(10) الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص355.