التقوى في العمل
ظاهراً وباطناً
سماحة السيد كمال الحيدري
التقوى هي حفظ النفس عمّا يؤثِم ؛ بترك المحظور ، ويتمّ ذلك بترك بعض المباحات (1) ، ومن خلال الإشارة إلى ترك بعض المباحات يُفهم أنّ المراد من المحظور هو الأعمّ من المحرّم والمكروه ، فضلاً عن الإتيان بالمطلوب واجبه ومندوبه .
ولكن حيث إنّ التقوى ذات مراتب ، فكلّ إنسان يتّقي بحسب مرتبته المعرفية والسلوكية ، وهذه التقوى بتفرّعها على انقسام العمل إلى ظاهريّ وباطنيّ ، تنقسم هي الأخرى إلى تقوى ظاهرية وأخرى باطنية .
فمن يرغب بالفحشاء ويمنع نفسه عن الانصياع لصوت هواه في العلن ، فذلك
يتمتّع بتقوى ظاهرية في هذا المورد ، والذي يرغب بالفحشاء ويمنع نفسه من
الانصياع لهواه في السرّ والعلن ، فذلك إنسان يتمتّع بتقوى ، يمكن أن نصطلح
عليها بالتقوى البرزخية ، وهي أرفع درجة من الظاهرية فحسب ، ولكن في هذا
المورد فحسب أيضاً ، وأمّا من انقطعت في نفسه حبائل الرغبة بالفحشاء ، فلا
يجد في نفسه الداعي لذلك مع قدرته على الفعل ، فذلك إنسان يتمتّع بالتقوى
الباطنية ، وهي التقوى الحقيقية المفضية إلى تجلّيات الحقّ في قلبه .
إنّ الامتناع عن ارتكاب الفحشاء في العلن خُلقٌ كريم ، والامتناع عنها في
السرّ والعلن خُلقٌ أكرم ، ولكنّهما غير قاضيين على ذلك المرض النفسي
البذيء ، الذي يحرِّك صاحبه دائماً باتّجاه الفحشاء ، باحثاً عن نقطة ضعف
يفقد الإنسان توازنه فيها ، فلابدّ من القضاء على أصل الرغبة بالفحشاء ،
وحصول النفرة منها ظاهراً وباطناً ليكون الإنسان متّقياً حقّاً في مورده
هذا .
إنّ التقوى الحقيقية الحقّة تمثِّل مرتبة معرفيـة ، ومقاماً معنوياً يندرج
في السقف الأوّل من مجموع المراتب الأخلاقية ، بل هي رئيس الأخلاق الكريمة
على حدّ تعبير أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حيث يقول :
(( التقى رئيس الأخلاق ))
(2) .
إنّ هذا التوقّي المعرفيّ السلوكي بمرتبته الأعلائية هذه يُشكِّل سُلّماً
متيناً يُفضي بصاحبه إلى حاضرة الفطرة الطاهرة .
إنّ الامتناع عن الفحشاء سرّاً وعلناً مع الاشتغال القلبي بها ، يمنع
الإنسان عن السقوط الخلقي ، ويدفع عنه جملة من الآثار الوضعية المقيِّدة
لحركة الإنسان نحو الفضيلة ، ولعلّ امتناعه ذلك يكون مُوجباً لتوفيقات
معنوية مرتبطة بأثر الترك نفسه ، ولكن ذلك كلّه لا يُعطي الضمانة لطالب
المعرفة الحقّة أبداً في العود إلى فطرته الأولى .
إذاً فلابدّ من التقوى الحقيقية الحقّة في العمل ظاهره وباطنه ؛ ليتسنّى
لنا العود إلى حاضرتنا الأولى تحصيلاً للمعارف الإلهية الأولى ، يقول
السيّد الآملي : ( إنّ التقوى هي أحسن الوسائل لإفاضة النور ، تُوجب إمكان
مطالعة ومشاهدة حقائق العالم ، وأسرار الإنسان ، ومعارف القرآن )
(3) .
إنّ كلّ عمل صغيراً كان أو كبيراً ، له صورتان ووجودان يتمثّلان بالظاهر
والباطن ، وقد عرفت ذلك ، فالصلاة ـ مثلاً ـ صورتها الظاهرية هي الأركان
المخصوصة بها من قيام وركوع وسجود و... ، وأمّا صورتها الباطنية فهي الخشوع
وحضور القلب ، ومعنى حضور القلب ـ كما عرفت أيضاً ـ هو عدم الالتفات إلى
الأغيار وأنت في تفصيلات الصلاة ، فلا يكون المُصلّي مصلِّياً وقلبه فريسة
لرغبات وشهوات وهموم وتمنّيات وأحلام يقظة ، ولا ريب أنّ ذلك الباطن
الحضوريّ الشهودي ، لا طريق له سوى ذلك الظاهر الأركاني ، فلا الظاهر وحده
ذو قيمة حقيقية ، ولا الباطن يكون بدون ذلك الظاهر ، فلابدّ من الجمع
بينهما في أداء العمل الواحد ، أمّا أن يأتي بظاهر الصلاة وقلبه منصرف عن
قبلة الحقّ إلى قبلات الباطل (( فَمَاذَا بَعْدَ
الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ))
(4) ، فإنّه يكون قد أتى بباطن آخر ، بل
ببواطن أخرى كلّها محظورة الحضور ومحرمة الظهور ، وهذا خلاف صريح للتقوى .
بعبارة أخرى : إنّ هذا المُصلّي لغير الله تعالى قد حفظ التقوى الظاهرية
الصرفة ، بتوجّه بدنه صوب القبلة الحقّة ، ولكنّه لم يحفظ توجّه بوصلة
القلب نحو الحقّ ، فزاغ وعصف بها الهوى باتّجاهات مختلفة ، وحطّ بها طائر
الخيال على أغصان زائفة ، فأيّ صلاة صُلّيت هذه ؟ ! وأيّ معبود قُصِدَ فيها
؟ ! .
إنّ التجافي عن دار الغرور ينبغي أن ينعكس ظلّه على الباطن ، فينصرف كلّه
عن الكلّ إلى الكلّ (5) ، لتكون التقوى
الحقّة المفضية إلى الفطرة الأولى والمُفضية هي الأخرى إلى عالم النور .
ولا ريب أنّ ركوع القلب وسجوده باتّجاه القبلات المختلفة الأخرى إنّما ؛ هو دليل الأنس بها والوحشة عن قبلة الحقّ سبحانه ، فلا يُجمع في قلب واحد توجّهان وقبلتان ، إحداهما للحقّ والأخرى لسواه ، فإنّ الأُنس بالله تعالى مُستبطن للوحشة عمّا سواه ، ومن توهّم الجمع بين الأُنسين معاً ما عرف الأُنس بالله قطّ .
فإذا ما اتّقى العبد ربّه بذلك النحو الطارد للأغيار ظاهراً وباطناً في
سائر أعماله ، فسوف يكون موضعاً لقبوله ومحبّته ، ومَن قُبلت بضاعتهُ
وازدان بمحبّته صار موضعاً لمعرفته الحقّة ، وهذا هو الهدف الأعلائيّ الذي
نصبو إليه بتوسّط نافذة الفطرة ، التي لا يلج عالمها العبد ؛ إلاّ
بآليّاتها الحقّة ، ومنها التقوى في العمل ظاهراً وباطناً ، كما عرفت .
إنّ هذه التقوى الحقيقية المبتنية على مراعاة الظاهر والباطن في العمل ،
كفيلة بتحقيق سُنّتين إلهيّتين عظيمتين ، حيث جُعلت شرطاً في تحقّقهما ،
أمّا السنّة الإلهية الأولى فهي تعليم الله تعالى إيّانا ؛ قال تعالى:
(( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ))
(6) .
إنّه تعليم من قِبل عالم الغيب والشهادة الذي ((
لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرضِ
وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ... ))
(7) ، ومن الواضح أنّ التعليم الإلهي سواء كان بواسطة إلهام أو نكت
في القلب أو وحي أو شهود فهو لا يخرج عن دائرة العلم اللدنّي ، ذلك العلم
الذي تتّسع به الرقعة الوجودية لكلّ عالم مُتحقّق به .
ولك أن تتأمّل مليّاً لتُدرك جلالة هذا العلم والتعليم والمعلِّم ، ولا ريب أنّك تُدرك معنا أنّ من خصوصيّات المعلِّم الكامل إدراكه وعلمه المسبق باستعدادات وقابليّات مريديه ، وحكمته التامّة المقتضية لوضع كلّ شيء في موضعه المناسب له ، فلا يُفضي لمريديه شمّة علم ؛ إلاّ بما يصلح حالهم في أُولاهم وأُخراهم ، وهل يُقاس بالعليم الحكيم ـ جلّت عظمته ـ شيء أو يُقاربه شيء في علمه وحكمته ؟ ، لقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول : (( لا أعلم إلاّ ما علّمني ربّي )) (8) و (( أدّبني ربّي فأحسن تأديبي )) (9) ، وأيّ علم يحتاجه العبد إذا تكفّل الله سبحانه بتعليمه وتأديبه ؟ .
وأمّا السنّة الإلهية الأخرى التي تكفّلت التقوى الحقيقية بتحقيقها ، والتي لا تقلّ عظمة عن الأولى ، فهي جعل الفرقان للعبد المتّقي يفرّق به بين الحقّ والباطل على صعيد الاعتقاد والعمل والرأي ؛ قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً )) (10) ، أولئك الذين ينعمون بنور إلهيّ ، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم .
وينبغي الالتفات إلى أنّ الأعمال كافّةً لها ظاهر وباطن ، لا خصوص الأعمال العبادية ، ومن ثمّ ينبغي اشتمالها على قصد الحقّ وحده ، بأدائها وإن كانت أكلاً وشرباً وما شابه ذلك .
وحيث إنّ التقوى هي الضابط الفعلي في صدق التوجّه والسلوك والعمل ، فإنّه قد عُدّ العمل القليل مع التقوى خيراً من العمل الكثير بدونها ، كما أنّ قليل العمل مع التقوى خيرٌ من كثير العمل بلا تقوى (11) ، بل (( لا يقلّ عمل مع تقوى ، وكيف يقلّ ما يُتقبّل )) (12) .
ولا يستخفّنَّ أحد بصغيرة أو كبيرة من سائر أعماله ، فأيّاً كان عمله ولو كان مقدار ذرّة خيراً أو شرّاً فإنّ له أثره ، فإن كان خيراً فخير ، وإن كان شرّاً فشرّ ، وينبغي أن يُعلم أنّ كلّ إقبال على طاعة وإعراض عن سيّئة ؛ يُوجب جلاءً ونوراً للقلب يستعدّ به لإفاضة علم يقينيّ ، ولكنّ هذين الأمرين ـ الإقبال والإعراض ـ قلبيّان لا ظاهريّان فحسب ، فيكون المقصود واحداً لا غير ، وهو الواحد الأحد .
ولا ريب أنّ الإقبال والإعراض القلبيّين لا يتجلّيان إلاّ بالتقوى
الحقيقية الحقّة ، وذلك هو الإحسان في العمل ((
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
المُحْسِنِينَ )) (13) .
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ، تحقيق صفوان عدنان الداوودي ، انتشارات ذوي القربى ، الطبعة الثالثة : ص881 ، باب (وقى) .
(2) نهج البلاغة نسخة المعجم المفهرس ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ، الطبعة الخامسة ، 1417 هـ ، قم : قصار الحكم ، رقم (410) .
(3) تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضمّ للسيّد حيدر الآملي ، تقديم وتحقيق وتعليق السيّد محسن الموسوي التبريزي ، نشر المعهد الثقافي نور على نور ، الطبعة الأولى ، قم : ج1 ، مقدّمة الطبعة الثانية .
(4) يونس : 32.
(5) إنّها كلمة عظيمة بليغة ، أراد بها سيّدنا الأستاذ ضرورة الانصراف القلبيّ الكلّي من قِبل العبد ـ فلا يبقى في قلبه خاطر أو هاجس أو إشارة خارجة عن دائرة الانصراف هذه ـ عن الكلّ الإمكاني بقضّه وقضيضه وأحرامه وشراشره إلى الكلّ الحقيقي وهو الله وحده ، إذ لا شيء سواه ولا وجود حقّيّ إلاّ هو ، فهو بكلّ شيء متفرّد ولا شريك له ، فلابدّ أن يُقصد وحده إذ لا شريك له ، فهو لا شريك له في الوجود ، ولا شريك في الخالقية ، ولا شريك له في الرازقية ... ولا شريك له في المقصودية أيضاً ، فانتبه .
(6) البقرة : 282.
(7) سبأ : 3.
(8) بحار الأنوار ، مصدر سابق : ج17 ص 229.
(9) المصدر السابق : ج16 ص 21.
(10) الأنفال : 29.
(11) عن المفضّل بن عمر قال : كنت عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فذكرنا الأعمال ، فقلت أنا : ما أضعف عملي! فقال (عليه السلام) : (( استغفر الله )) ، ثمّ قال لي : (( إنّ قليل العمل مع التقوى خيرٌ من كثير العمل بلا تقوى )) ، قلت : كيف يكون كثيرٌ بلا تقوى ؟ قال (عليه السلام) : (( نعم ، مثل الرجل يُطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطئ رحله ـ أي : كثير الضيافة وقضاء حوائج المؤمنين ـ فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه ، فهذا العمل بلا تقوى ، ويكون الآخر ليس عنده ، فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه )) . أصول الكافي لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي ، دار الكتب الإسلامية ، الطبعة السادسة ، طهران : ج2 ص 76 ح 7.
(12) المصدر السابق : ج2 ص 75 ح 5.
(13) يوسف : 90.
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .