الاختيار الإنساني ومشكلة تضادّ المصالح
سماحة السيد كمال الحيدري
من الخصائص التي تميّز بها الإنسان عن كثير من المخلوقات هي : أن الإنسان كائن مختار ، ويعني ذلك أنه كائن هادف ، أي يعمل من أجل هدف يتوخّى تحقيقه بذلك العمل ، فهو يحفر الأرض ؛ من أجل أن يستخرج ماء ، ويطهي الطعام ؛ من أجل أن يأكل طعاماً لذيذاً ، ويجرّب ظاهرة طبيعية ؛ من أجل أن يتعرّف على قانونها وهكذا ، بينما الكائنات الطبيعية البحتة تعمل من أجل أهداف مرسومة من قِبل واضع الخطّة ، لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخّى تحقيقها.
فالرئة والمعدة والأعصاب في ممارسة وظائفها الفسيولوجية تعمل عملاً هادفاً ، ولكن الهدف هنا لا تعيشه هي من خلال نشاطها الطبيعي والفسيولوجي الخاصّ ، وإنما هو هدف الصانع الخبير .
ولما كان الإنسان كائناً هادفاً ترتبط مواقفه العملية بأهداف يعيها ويتصرّف بموجبها ، فهذا يفترض ضمناً أن الإنسان في مواقفه العملية هذه ليس مسيّراً وفق قانون طبيعيّ صارم ، كما تسقط قطرة المطر في مسار محدّد وفقاً لقانون الجاذبية ، لأنه في حالة من هذا القبيل ، لا يمكن أن يكون هادفاً ، أي يعمل من أجل هدف يعيش في داخل نفسه .
فلكي يكون الإنسان هادفاً ؛ لابدَّ أن يكون حرّاً في التصرّف ، ليتاح له أن يتصرّف وفقاً لما تنشأ في نفسه من أهداف ، فالترابط بين المواقف العملية والأهداف هو القانون الذي ينظّم ظاهرة الاختيار لدى الإنسان ، كما أن الهدف بدوره لا يوجد بصورة عشوائية ، فإن كلّ إنسان يحدّد أهدافه وفقاً لما تتطلّبه مصلحته وذاته من حاجات ، وهذه الحاجات تحدّدها البيئة والظروف الموضوعية التي تحيط بالإنسان ، غير أن هذه الظروف الموضوعية لا تحرّك الإنسان مباشرة ، كما تحرّك العاصفة أوراق الشجر ، لأنّ هذا يعطّل دوره ككائن هادف . فلابدَّ للظروف الموضوعية إذن من تحريك الإنسان ، عن طريق الإثارة والإيحاء بتبنّي أهداف معيّنة ، وهذه الإثارة ترتبط بإدراك الإنسان للمصلحة في موقف عملي معيّن ، ولكن ليست كلّ مصلحة تحقّق إثارة للفرد ، وإنما تحقّقها تلك المصالح التي يدرك الفرد أنها مصالح له بالذات .
وحين ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية يمكننا تقسيمها إلى فئتين :
إحداهما : مصالح الإنسان التي تقدّمها الطبيعة له ، بوصفه كائناً خاصّاً كالعقاقير الطبية مثلاً ، فإن من مصلحة الإنسان الظفر بها من الطبيعة ، وليست لهذه المصلحة صلة بعلاقاتها الاجتماعية مع الآخرين ، بل الإنسان بوصفه كائناً معرّضاً للجراثيم الضارّة بحاجة إلى تلك العقاقير ، سواء كان يعيش منفرداً أم ضمن مجتمع مترابط .
الفئة الأخرى : مصالح الإنسان التي يكفلها له النظام الاجتماعي بوصفه كائناً اجتماعياً يرتبط بعلاقات مع الآخرين ، كالمصلحة التي يجنيها الإنسان من النظام الاجتماعي حين يسمح له بمبادلة منتوجاته بمنتوجات الآخرين ، أو حين يوفّر له ضمان معيشته في حالات العجز والتعطّل عن العمل . وسوف نطلق على الفئة الأولى اسم المصالح الطبيعية ، وعلى الفئة الثانية اسم المصالح الاجتماعية .
ولكي يتمكّن الإنسان من توفير مصالحه الطبيعية والاجتماعية ؛ يجب أن يجهّز بالقدرة على معرفة تلك المصالح وأساليب إيجادها ، وبالدافع الذي يدفعه إلى السعي في سبيلها ، فالعقاقير التي تستحضر للعلاج من السلّ مثلاً توجد لدى الإنسان ؛ حين يعرف أن للسلّ دواءً ويكتشف كيفية استحضاره ، ويملك الدافع الذي يحفّزه على الانتفاع باكتشافه واستحضار تلك العقاقير ، كما أن ضمان المعيشة في حالات العجز بوصفه مصلحة اجتماعية ، يتوقّف على معرفة الإنسان بفائدة هذا الضمان وكيفية تشريعه ، وعلى الدافع الذي يدفع إلى وضع هذا التشريع وتنفيذه ، فهناك إذن شرطان أساسيان لا يمكن بدونهما للنوع الإنساني أن يظفر بحياة كاملة تتوفّر فيها مصالحه الطبيعية والاجتماعية :
• أن يعرف تلك المصالح وكيف تُحقَّق .
• أن يملك دافعاً يدفعه بعد معرفتها إلى تحقيقها .
ونحن إذا لاحظنا المصالح الطبيعية للإنسان ، كاستحضار عقاقير للعلاج من السلّ ، وجدنا أن الإنسانية قد زُوّدت بإمكانات الحصول على تلك المصالح ، فهي تملك قدرة فكرية تستطيع أن تدرك بها ظواهر الطبيعة والمصالح التي تكمن فيها ، وهذه القدرة وإن كانت تنمو على مرّ الزمن نموّاً بطيئاً ، ولكنّها تسير على أي حال في خطّ متكامل في ضوء الخبرة والتجارب المستمدّة ، وكلّما نمت هذه القدرة ؛ كان الإنسان أقدر على إدراك مصالحه ، ومعرفة المنافع التي يمكن أن يجنيها من الطبيعة .
وإلى جانب هذه القدرة الفكرية تملك الإنسانية دافعاً ذاتياً يضمن اندفاعها في سبيل مصالحها الطبيعية ، فإن المصالح الطبيعية للإنسان تلتقي بالدافع الذاتيّ لكلّ فرد ، فليس الحصول على العقاقير الطبية مثلاً مصلحة لفرد دون فرد ، أو منفعة لجماعة دون آخرين . فالمجتمع الإنساني دائماً يندفع في سبيل توفير المصالح الطبيعية بقوّة ، من الدوافع الذاتية للأفراد التي تتفق كلّها على الاهتمام بتلك المصالح وضرورتها ، بوصفها ذات نفع شخصيّ للأفراد جميعاً .
وهكذا نعرف أن الإنسان ركّب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصّاً يجعله قادراً على توفير المصالح الطبيعية ، وتكميل هذه الناحية من حياته عبر تجربته للحياة والطبيعة .
وأما المصالح الاجتماعية : فهي بدورها تتوقّف أيضاً كما عرفنا على إدراك الإنسان للتنظيم الاجتماعي الذي يصلحه ، وعلى الدافع النفسي نحو إيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه .
فما هو نصيب الإنسان من هذين الشرطين بالنسبة إلى المصالح الاجتماعية ؟ وهل جهّز الإنسان بالقدرة الفكرية على إدراك مصالحه الاجتماعية ، وبالدافع الذي يدفعه إلى تحقيقها ، كما جُهّز بذلك بالنسبة إلى مصالحه الطبيعية ؟
ولنأخذ الآن الشرط الأول ، فمن القول الشائع أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كلّ مصالحه الاجتماعية ، وينسجم مع طبيعته وتركيبه العامّ ، لأنه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكلّ خصائصه ، والطبيعة الإنسانية بكلّ محتواها .
ويخلص أصحاب هذا القول إلى نتيجة هي : أن النظام الاجتماعي يجب أن يوضع للإنسانية ، ولا يمكن أن تترك الإنسانية لتضع لنفسها النظام ما دامت معرفتها محدودة ، وشروطها الفكرية عاجزة عن استكناه أسرار المسألة الاجتماعية كلّها . وعلى هذا الأساس يقدمون الدليل على ضرورة الدين في حياة الإنسان ، وحاجة الإنسانية إلى الرسل والأنبياء ، بوصفهم قادرين عن طريق الوحي على تحديد المصالح الحقيقية للإنسان في حياته الاجتماعية وكشفها للناس .
غير أن المشكلة في رأينا تبدو بصورة أكثر وضوحاً حين ندرس الشرط الثاني ، فإن النقطة الأساسية في المشكلة ليست هي كيف يدرك الإنسان المصالح الاجتماعية ؟ بل المشكلة الأساسية هي : كيف يندفع هذا الإنسان إلى تحقيقها وتنظيم المجتمع بالشكل الذي يضمنها ؟ ومثار المشكلة هو : أن المصلحة الاجتماعية لا تتّفق في أكثر الأحايين مع الدافع الذاتي ، لتناقضها مع المصالح الخاصّة للأفراد .
فإن الدافع الذاتي الذي كان يضمن اندفاع الإنسان نحو المصالح الطبيعية للإنسانية ، لا يقف الموقف نفسه من مصالحها الاجتماعية ، فبينما كان الدافع الذاتي يجعل الإنسان يحاول إيجاد دواء للسل ، لأنّ إيجاد هذا الدواء من مصلحة الأفراد جميعاً ..
نجد أن هذا الدافع الذاتي نفسه ، يحول دون تحقيق كثير من المصالح الاجتماعية ، ويمنع عن إيجاد التنظيم الذي يكفل تلك المصالح أو عن تنفيذه ، فضمان معيشة العامل حال التعطّل ؛ يتعارض مع مصلحة الأغنياء الذين سيكلَّفون بتسديد نفقات هذا الضمان ، وتأميم الأرض يتناقض مع مصلحة أولئك الذين يمكنهم احتكار الأرض لأنفسهم ، وهكذا كلّ مصلحة اجتماعية فإنها تمنى بمعارضة الدوافع الذاتية من الأفراد الذين تختلف مصلحتهم عن تلك المصلحة الاجتماعية العامّة .
وفي هذا الضوء ، نعرف الفارق الأساسي بين المصالح الطبيعية ، والمصالح الاجتماعية ، فإن الدوافع الذاتية للأفراد لا تصطدم بالمصالح الطبيعية للإنسانية ، بل تدفع الأفراد إلى إيجادها واستثمار الوعي التأملي في هذا السبيل ، وبذلك كان النوع الإنساني يملك الإمكانات التي تكفل له مصالحه الطبيعية بصورة تدريجية ، وفقاً لدرجة تلك الإمكانات التي تنمو عبر التجربة .
وعلى العكس من ذلك المصالح الاجتماعية ، فإن الدوافع الذاتية التي تنبع من حبّ الإنسان لنفسه ، وتدفعه إلى تقديم صالحه على صالح الآخرين ، تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان استثماراً مخلصاً في سبيل توفير المصالح الاجتماعية ، وإيجاد التنظيم الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم .
وهكذا يتّضح أن المشكلة الاجتماعية التي تحول بين الإنسانية وتكاملها الاجتماعي هي : التناقض القائم بين المصالح الاجتماعية والدوافع الذاتية ، وما لم تكن الإنسانية مجهّزة بإمكانات للتوفيق بين المصالح الاجتماعية ، والدوافع الأساسية التي تتحكّم في الأفراد ، لا يمكن للمجتمع الإنساني أن يظفر بكماله الاجتماعي .
وهكذا تبقى المشكلة كما هي مشكلة مجتمع ، يتحكّم فيه الدافع الذاتي ، وما دامت الكلمة العليا للدافع الذاتي الذي تمليه على كلّ فرد مصلحته الخاصّة ، فسوف تكون السيطرة للمصلحة التي تملك قوّة التنفيذ ، فمن يكفل لمصلحة المجتمع في زحمة الأنانيات المتناقضة أن يصاغ قانونه وفقاً للمصالح الاجتماعية للإنسانية ، مادام هذا القانون تعبيراً عن القوّة السائدة في المجتمع ؟ !
ولا يمكننا أن ننتظر من جهاز اجتماعيّ ، كالجهاز الحكومي أن يحلّ المشكلة بالقوّة ، ويوقف الدوافع الذاتية عند حدّها ، لأنّ هذا الجهاز منبثق عن المجتمع نفسه ، فالمشكلة فيه هي : المشكلة في المجتمع بأسره ، لأنّ الدافع الذاتي هو الذي يتحكّم فيه .
ونخلص من ذلك كلّه ، إلى أن الدافع الذاتي هو : مثار المشكلة الاجتماعية ، وأن هذا الدافع أصيل في الإنسان لأنه ينبع من حبّه لذاته .
فهل كُتب على الإنسانية أن تعيش دائماً في هذه المشكلة الاجتماعية النابعة من دوافعها الذاتية ، وفطرتها وأن تشقى بهذه الفطرة ؟ !
وهل استثنيت الإنسانية من نظام الكون ، الذي زُوّد كلّ كائن فيه بإمكانات التكامل ، وأودعت فيه الفطرة التي تسوقه إلى كماله الخاصّ ، كما دلّت على ذلك التجارب العلمية إلى جانب البرهان الفلسفي ؟ !
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .