التبعات السلبية للفجور في الدنيا
سماحة السيد كمال الحيدري
نجد القرآن الكريم يؤكّد بوضوح الآثار الدنيوية المترتّبة على الفجور والانحراف عن الصراط المستقيم ، قال تعالى : (( وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى٭ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى )) (1) ، حيث دلّت الآية أنّ المكذِّب وغير المتّقي ، يجد صعوبة وضنكاً وعدم تيسير في حياته ، ولكنّه لا يعرف سبب ذلك .
من هنا قالت الآيات الكريمة : (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ٭ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ٭ قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى٭ وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى )) (2) .
قال الراغب في المفردات : ( العيش : الحياة المختصّة بالحيوان ، وهو أخصّ من الحياة ، لأنّ الحياة تقال في الحيوان وفي الباري وفي المَلَك ، ويشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش منه ، قال تعالى : (( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) (3) , (( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ )) (4) ، وقال في أهل الجنّة : (( فَهُوَ فِي عِيشَة رَاضِيَة )) (5) ، وقال (عليه السلام) : (( لا عيش إلاّ عيش الآخرة )) ) (6) .
والضنك هو الضيق من كلّ شيء ، ويستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، يقال : مكان ضنك ، ومعيشة ضنك ، وهو في الأصل مصدر ، ضَنُك يضنُك من باب شرف يشرف ، أي ضاق .
وقوله تعالى : (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي )) (7) ، يقابل قوله في الآية السابقة (( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ )) (8) ، وكان مقتضى المقابلة أن يقال - ومن لم يتبع هداي - وإنّما عدل عنه إلى ذكر الإعراض عن الذكر ، ليشير به إلى علّة الحكم ، لأنّ نسيانه تعالى والإعراض عن ذكره ، هو السبب لضنك العيش والعمى يوم القيامة ، وليكون توطئة وتمهيداً لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة مَن نسيه في الدنيا .
والمراد بذكره تعالى : الدعوة الحقّة ، وتسميتها ذكراً ، لأنّ من اللازم إتباعها ، والأخذ بها ذكره تعالى ، وقوله (( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً )) أي ضيّقة ، وذلك أنّ من نسي ربّه ، وانقطع عن ذكره ، لم يبق له إلاّ أن يتعلّق بالدنيا ، ويجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له ، ويهتم بإصلاح معيشته والتوسّع فيها والتمتّع بها ، والمعيشة التي أوتيها في الدنيا ، لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة ، لأنّه كلّما حصل منها واقتفاها ؛ لم ترض نفسه بها ، ونزعت إلى ما هو أزيد وأوسع من غير أن تقف منها على حدّ ، فهو دائماً في ضيق صدر وحنق ممّا وجد ، متعلّق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهمّ والغمّ والحزن والقلق والاضطراب ، والخوف بنزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وكيد كائد وخيبة سعي وفراق حبيب .
ولو أنّه عرف مقام ربّه ، ذاكراً غير ناس ، أيقن أنّ له حياة عند ربّه ، لا يخالطها موت ، ومُلكاً لا يعتريه زوال ، وعزّة لا يشوبها ذلّة ، وفرحاً وسروراً ورفعة وكرامة لا تقدَّر بقدر ، ولا تنتهي إلى أمد ، وأنّ الدنيا دار مجاز ، وما حياتها في الآخرة إلاّ متاع (( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ )) (9) ، فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قُدِّر له من الدنيا ، ووسعه ما أوتيه من المعيشة من غير ضيق وضنك (10) .
قال تعالى : (( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )) (11) ، حيث نبّهت الآية المباركة أنّ الإنسان لا مفرّ له إلاّ بالتوجّه إليه تعالى ، لأنّ ذكره هو الذي يريح القلب ، وينجيه من القلق والاضطراب ، لأنّ الإنسان لا همّ له في حياته الدنيا إلاّ الفوز بالسعادة والنعمة ، ولا خوف له إلاّ أن تحيط به النقمة والشقاء ، والله سبحانه هو السبب الوحيد الذي بيده زمام الخير وإليه يرجع الأمر كلّه ، وهو القاهر فوق عباده ، والفعّال لما يريد ، وهو ولي عباده المؤمنين به ، اللاجئين إليه ، فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث ، الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة ، المتحيّرة في أمرها وهي لا تعلم أين تريد ولا أنّى يراد بها .
فكلّ قلب ـ على ما يفيده الجمع المحلّى باللام من العموم ـ يطمئن بذكر الله ، ويسكن به ما فيه من القلق والاضطراب ، نعم إنّما ذلك في القلب الذي يستحقّ أن يسمّى قلباً ، وهو القلب الباقي على بصيرته ورشده ، وأمّا المنحرف عن أصله ، الذي لا يبصر ولا يفقه ، فهو مصروف عن الذكر ، محروم عن الطمأنينة والسكون ، قال تعالى : (( فإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )) (12) .
وقال : (( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا )) (13) ، وقال : (( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ )) (14) . وفي لفظ الآية ما يدلّ على الحصر ، حيث قدّم متعلّق الفعل ، أعني قوله: (( بِذِكْرِ الله )) على الفعل ، فيفيد أنّ القلوب لاتطمئن بشيء غير ذكر الله سبحانه ، لأنّه تعالى هو الغالب غير المغلوب الغني ذو الرحمة ، فبذكره سبحانه وحده تطمئن القلوب (15) .
ــــــــــــــــــــ
(1) الليل: 8 ـ 9.
(2) طه: 124 ـ 127.
(3) الزخرف: 32.
(4) الأعراف:10.
(5) الحاقة:12.
(6) المفردات، مادّة «عيش».
(7) طه: 124.
(8) طه: 123.
(9) الرعد: 26.
(10) الميزان في تفسير القرآن، ج14 ص224.
(11) الرعد: 28 .
(12) الحج: 46.
(13) الأعراف: 179.
(14) التوبة: 67.
(15) الميزان، مصدر سابق، ج11 ص355.
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .