أخلاقنا بين النظرية والسلوك
  • عنوان المقال: أخلاقنا بين النظرية والسلوك
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 15:19:12 3-10-1403

الحمدُ للهِ المـُتجلّي فـى كتابهِ لتعليمِ النفوسِ و تزكيتِها, و الصلاةُ علي رسولهِ المنعوتِ بالخُلقِ العظيمِ, و علي آلِه و من اتّبَعهُ بالقولِ القويمِ, نتولّي مَن تولاّهُ اللهُ ونَتبرّءُ ممّن تبرّءَ مِنهُ.
أمّا بعدُ, فهذهِ وَجيزةٌ حولَ الأخلاقِ بينَ النظرِ و العمِل و نُبَذٍ من الدليلِ و العلاجِ نرجو من اللهِ سبحانَه ان يُعَلّمنا ما هو الصَواب و يُوفّقنا إلي ما لهُ الثَواب. ولْنقدِّم مقدَّماتٍ و أصولاً يُعتَمدُ عليها و يُركَنُ إليها و يُوثَقُ بها لاتّضاح ما هو المبهَمُ فـى فنّ الأخلاقِ فيما يَلى.
المقدَّمَةُ الأولي إنّ علمَ الأخلاقِ من العلومِ الانسانيّة حيثُ تَتضاربُ الآراءُ فيه حَسَب تَضارُبِها فـى معرفةِ الانسانِ و أنّه ما هُو, كما أنَّ الانسانَ موجودٌ خاصٌّ من النظامِ العالَمى فتتفاوتُ الأنظارُ فيه حَسَبَ تفاوتِها فـى معرفةِ العالَم مِن حيثُ هُوَ, فمن ذهَبَ الي أنّ كلَ موجودٍ, فهو مادّىٌ محسوسٌ, و انّ ما ليسَ بمادّىٍ و لا محسوسٍ فليس بموجودٍ بل هو خُرافـىٌ منبوذٌ وراءَ الظَهرِ, فهو يَتخيّلُ أنّ طريقَ المعرفةِ منحصرةٌ فـى الحسِّ و التجربةِ, و أنّ الانسانَ مادّىٌ صرف يَذهبُ بالموتِ جُفاءً و يُتْركُ سُديً, و أنه خُلِقَ عَبثاً و لا يُهلِكُه إلاّ الدهرُ, يموتُ و يحييٰ و ما له مبدأٌ و لا معادٌ. و مَن ذَهبَ الي أنّ الموجودَ علي قسمينِ مادىٍ و مجرّدٍ, و أنّ الانسانَ مؤلَّفٌ من بَدنٍ مادّىٍ و من روحٍ مُجرّدٍ لا يَنْفَدُ بالموتِ و لا يفني به, و أنّه يَبقي بعد الموتِ فهو يَعلمُ أنّ للانسانِ هدفاً سامياً منزّهاً عن العَبَثِ و أنّ لَهُ و لِلعالَمِ مَبدأً مُجرّداً عَليماً قَديراً حَكيماً ليس كمثلهِ شَىءٌ, و أنّ طريقَ المعرفةِ مُنْشَعِبةٌ الي الحِسّ و التجربةِ و الي العقلِ و التجريدِ.
المقدَّمةُ الثانيةُ: إنّ اللهَ سبحانَه واحدٌ لا مَثيلَ لَهُ, و إنّ أوصافَه الكماليةَ الذاتيةَ عينُ ذاته, كما أنّها أيضاً مُتّحدةٌ ذاتاً و إن كانتْ مُتفاوَتةً مفهوماً, و إنّ عِلمَه الأزلـّىَ الأبدىَ حقٌّ قَراحٌ لا يَشوبُه جَهلٌ, و لا يَعتريه سَهوٌ, و لا يَعتورهُ نِسيانٌ, و لا يَعرِضُه تَبدّلٌ و لا تَحوّلٌ, و انّه ربٌّ للعالمينَ من الانسانِ و غيرِه, و إنّ ربوبيَّته باعطاءِ كلِ ذى حقٍ حَقَّه, و بهدايتِه الي مَقصدِه, و بإرائتِه مسلَكهُ الـمُوصِلَ الي مقصودِه, و إنّ هِدايَتَه للانسانِ تارةً بإلهامهِ العقلىِّ و أخري بإنزالِه النَقلِّى, فهو سُبحانَه يَهدى الانسانَ بالوحىِ المستكشَفِ بالعقلِ تارةً, و بالنقلِ أخري فالوحىُ للأنبياءِ و المرسلينَ, و لا يُعادِلهُ شَىءٌ من العلومِ أصلاً, لأنّه بالشهودِ العينـىِّ لا بالحُصولِ المـَفهومىِّ, مَعصوماً عن الخطأ, كما أنّ هؤلاءِ المبعوثينَ أيضاً مَعصومونَ عن الخطيئةِ, بِخِلافِ ما لغيرِهم من العُلماءِ الذين تَكونُ علومُهم بالحصولِ المفهومىِّ لا الشهودِ العينـىِّ أولاً, و مشوباً بالسهوِ و الخطأِ ثانياً, كما أنّهم ليسوا بِمعصومينَ عن الخطيئةِ ثالثاً. فالانسانُ يَنالُ بالعقلِ البرهانـىِّ و بالسمعِ الـمُعتبرِ ما ألهمهُ اللهُ و ما أُنزِلَ إليه بواسطةِ الأنبياءِ و المرسلينَ(عليهم السلام).
المقدَّمة الثالثةُ: إنّ الدينَ الإلهىَّ لهُ مبدأٌ فاعلىٌ واحدٌ, و له مبدأٌ قابلىّ فاردٌ, و حيث إنّ اللهَ الذى هو المبدأُ الـمُفيدُ للدين, واحدٌ لا تعدّدَ فيه, و المبدأُ المستفيدُ له و هى الفِطرةُ الانسانيّةُ التـى لا اختلافَ فيها و لا تَخلّفَ, واحدٌ لا كثرةَ فيه, فلابدَّ و أن يكونَ الدينُ واحداً كما قال سبحانَهُ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ﴾1, و حيثُ إنّ الانسانَ فـى كلِ عَصرٍ و مِصرٍ و جِيلٍ له خصوصيةٌ لا توجَدُ فـى غيرِ ذلك, فلذا جعلَ اللهُ سبحانَه له شِرعةً و مِنهاجاً مُختلفاً, فأصلُ الدينِ و خُطوطُه الجامعةُ و المشتركُ فيها واحدٌ لا تَعدَّد فيهِ, لما أنّ أصلَ الفطرةِ الانسانيةِ واحدةٌ لا تَبدّلَ فيها و لا تَحوّلَ لها, و شَرائعُه و مَناهِجُه مُتعدّدةٌ مُتكثّرةٌ لتعدّدِ الخصوصياتِ العَصريّة, و تَكثّرِ المختصّاتِ المِصرّية, فالثابتُ المشتركُ لما هو الثابتُ المشتركُ, و المتغيّرُ المختصُّ لما هو المتغيّرُ المخصوصُ.
المقدَّمةُ الرابعةُ: إنّ كِيانَ الدينِ و أصولَ الأخلاقِ و قَواعدَ الفِقِه و الحقوقِ و ما الي ذلكَ من الأحكامِ و الحِكَم مخلوقٌ لله وحدَه, و صادرٌ منه و لا غير, و لا شريكَ للهِ سُبحانَه فـى تأسيسِ الأصولِ و تَشريعِ الشرائعِ و المناهجِ, و إنّ معرفةَ الدينِ و سائرَ شُؤنِه بالأصالةِ لا تَتحقّقُ إلاّ بالوحىِ للنبـىِّ(صلّي الله عليه و آله و سلّم) و بعدَ ذلكَ ينكشفُ لغيرِ النبـىِّ(صلّي الله عليه و آله و سلّم) تارةً بالعقلِ البرهانـىِّ, و أخري بالنقلِ الـمَوثُوقِ به, و تارةً ثالثة بالجمعِ بَينهما. و من هنا يَظهرُ أنّ البشرَ بما هو بَشرٌ عادىٌ لا بما أنّ اللهَ وَهَبَهُ عَقلاً كاشفاً لما يَحكُمُ به اللهُ, لا حكمَ له معتدّاً به أصلاً, و لا قانونَ يُعتَمدُ عليهِ أبداً, و لا ركنَ يُوثَقُ به قَطعاً, لأنّ البشرَ المنقطعَ عن العقلِ الموهوبِ له, الكاشفِ لما عن اللهِ, معزولُ الحكمِ رأساً, حيثُ إنّ اللهَ أخرجه من بطنِ أمّهِ و هو لا يَعلمُ شيئاً, كما أنّ مِن البشرِ مَن يَبلغُ الي أرذلِ العمرِ و لا يعلمُ مِن بعد علمٍ شيئاً, فهو أى البشرُ العادىّ محفوفٌ بالجهلينِ, كما أنّه نفسَه محفوفٌ بالعدمينِ, حيث أنّه لم يكُ شيئاً قبلَ الخلقِ, و لا يكونُ شَيئاً بعدَ الفَناءِ, اذ لا بقاءَ إلاّ لوجههِ تَعالي شأنُه, فالبشرُ بما أنّه بشرٌ عادىٌ لم يُوْهَبْ له العقلُ الكاشفُ لما عن اللهِ سبحانَه, إذ لا معرفةَ له أصلاً, فكما أنّه لا حكمَ إلاّ للهِ فكذلكَ لا معرفةَ إلاّ لَهُ تعالي.
و الـمَيزُ بين وجودِ الدينِ و ناموسِ الخُلْق و ما الي ذلك, و بينَ معرفةِ الدينِ و كشفِ الأخلاقِ و نحوِ ذلكَ, هو أنّ الأوّلَ أى تأسيسُ قواعدِ الدينِ و تدوينُ أصولِ الأخلاقِ, و جعلُ الطريقِ الي الهدفِ السامى مختصٌ به تعالي, و لم يجعلْ لغيرهِ فيهِ نَصيباً. و أنّ الثانـى أى معرفةُ تلكَ القواعدِ الدينيةِ, وهذه الأصولِ الخُلْقيّةِ فهو له تعالي أوّلاً و بالذاتِ, و يَهبَهُ اللهُ سبحانَه بالوحىِ للأنبياءِ و المرسلينَ(عليهم السلام) ثانياً, و لِغيرِهم بالعقلِ البرهانـىِّ أو النقلِ الـمَوثُوقِ به ثالثاً.
بعد اتّضاحِ تلكَ الأصولِ المهمّةِ فـى طىِّ هذه المقدّماتِ يَتَيسِّرُ القولُ بأنّ هويةَ الانسانِ ليست ما هو الدارجُ فـى الالسنِ و الكتب من أنه حيوانٌ ناطقٌ, بل ما هو, إلاّ حىٌّ متألّهٌ, فأىّ علمٍ صائبٍ و خُلقٍ صاعدٍ و عملٍ صالحٍ يُوجِب تَألـَّههُ و تَوَغُّلَه فـى معرفةِ اللهِ و أسمائِه الحُسني و صِفاتهِ العُليا يَستلزمُ حياتَهُ حتّي يصيرَ مَظهراً للحىِّ الذى لا يموتُ, و أىُّ اعتقادٍ و وصفٍ و عملِ طالحٍ يوجبُ اِلْحادَه و تَوغُّله فـى الايمانِ بما لم يُنزل اللهُ عليهِ من سلطانٍ عَقلىّ أو نَقلىّ يَستلزمُ مَوتَهُ حتّي يَصيرَ ميّتَ الأحياءِ, لأنّ حياةَ الروحِ بالمعرفةِ الصائبةِ و الايمانِ الواصبِ الخالِص, و مماتَهُ بالجهلِ العلمىِ و الجهالةِ العمليّةِ. و حيثُ إنّ الانسان مؤلّفٌ من روحٍ مجرّدٍ ثابتٍ و هو الأصلُ فـى هويّتِه, و من بدنٍ مادّىٍ متغيّرٍ و هو الفرعُ فيها, فكمالُه الخُلْقىّ إنّما هو فـى معرفةِ ما هو الأصلُ فـى هويّتِه, و ما هو الفرعُ فيها أوّلاً, و ما هو الذى ينبغى لَهُ بلحاظِ روحِه و بدنِه ثانياً, و ما هو المسلكُ الصحيحُ فـى تحصيلِ كمالِه الروحىِّ و البدنـِى ثالثاً, و ما هو الهدفُ السامى والمقصدُ النهائىّ لذلكَ المسلكِ السالِم رابعاً, و ما هو الموجبُ و المقتضى و السببُ و الشرطُ لذلكَ, و ما هو الدافعُ و الرافعُ و المانعُ و الضارُّ خامساً, و لنشرْ الي نَزْرٍ من ذلكَ و نقول: إنّ الانسانَ لا يَنعدمُ بالموتِ لأنـّه كادحٌ الي ربّه كدحاً فيلاقيه, لأنـّه يذوقُ الموتَ لا أنّ الموتَ يذُوقُه, حيثُ قال اللهُ سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾2, لا أنَّ كلَ نفسٍ يَذوقُها الموتُ, فالموتُ مَذُوقٌ و مهضومٌ و مضمَحِلٌّ و فانٍ رأساً, و الانسانُ الذائقُ له هاضمٌ و باقٍ لأنّه مهاجرٌ الي ربِّه, و منتقلٌ من دارٍ الي دارٍ, حتّي ينتهيَ الي دارِالقرارِ الّتي لا انتقالَ منها الي غيرِها أبداً, فهذا الموجودُ الذى لا يتطرّقُ إليهِ النَفادُ, و لا يَنسحِبُ إليه العدمُ, لابدّ له من زادٍ يَتزوّدُ بهِ و مِنهُ, و ليسَ هو إلاّ كمالُه العلمىّ و جمالُه العملىّ المبحوثُ عنهما فـى الحكمتينِ العلميّةِ و العمليّةِ. فالخُلقُ يُفيد العملَ ما استفاده هو من العقيدةِ الحاصلةِ من المعرفةِ و الاعتقادِ, و هو أمر مجرّدٌ ثابتٌ لأنّه زادُ الروحِ المجرّدِ الذى لا زوالَ له بإذنِ اللهِ سبحانَه, فالحىُّ المتألّهُ أى الانسانُ بما أنّه انسانٌ يَخاطِبُه اللهُ بهذا العنوانِ, لا يَري الموتَ إلاّ قنطرةً يَعبُر بها من الدنيا الي الآخرةِ, و حيثُ إنّه مربوبٌ للهِ سبحانَه, و مُلْهَمُ بما ألهمهُ من الفجورِ و التَقوي, يَسلك فـى معرفةِ الحقائقِ مسلكَ الحِسّ و التجربةِ لما ثَبَتَ له أنـّه: «مَن فَقَد حسّاً فَقَد علماً», أى علماً مستفاداً من ذلك المسلكِ, و يَسْلك أيضاً فـى معرفتِها مسلكَ العقلِ و التجريدِ لما ثبتَ له أنّ العلومَ المتعارفةَ التـى تبتنـى عليها الآراءُ النظريّةُ هي الأسسُ للمعارفِ العقليةِ, مضافاً الي استنادِ التجربةِ بالتجريدِ, و أنه لولا أصلُ التناقضِ الذى ينالُه العقلُ التجريدىُ لا الحسُّ التجربـىّ لما أمكنَ الاستدلالُ بالتجربةِ أصلاً, و يَسْلُك أيضاً فـى معرفةِ تلك الحقائقِ مَسلَك القلبِ و التزكيةِ لِمٰا ثبَتَ له أنّه: مَن فقَدَ تقويً فَقد شهوداً خاصاً مستفاداً منه, كما قال الله سبحانه: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾3 فالنورُ الفارقُ بين الحقِ و الباطلِ, و المائزُ بين الصدقِ و الكذبِ, و الفاصلُ بين الخيرِ و الشّرِّ, و الحاكمُ بينَ الحَسَنِ و القبيحِ, و الحاجزُ بينَ الطيّبِ و الخبيِث, انَّما يَشتعلُ و يَتَوقَّدُ و يتلألأُ من مصباحِِ التَقَويٰ و مشكاتِه و سراجِه, فهذه هى طرقُ معرفةِ الحقائقِ و مسالُكها التـى أسَّسها الدينُ الإلهىّ الُموحيٰ الي الأنبياء(عليهم السلام), المُسستَكشَفُ لغيرهِ بالعقلِ تارةً و بالنقلِ أخري.
و الذى يتحصّلُ من هذهِ المسالكِ و المناهِجِ أمورٌ نأتـى ببعضِها, و هو أنَّ للانسانِ بما أنّهُ انسانٌ حياةً يَترتَّبُ عليها آثارُها المطلوبةُ, من الرُقّىِ والصعودِ الي الصَمَدِ الحقِ الذى ليسَ كمثلهِ شىءٌ, بالتقرّبِ من ثوابِه و الابتهاجِ برحمتِه و الالتذادِ بنعمتِه؛ و موتاً لا يَترتَّبُ عليهِ شىءٌ من تلكَ المآثرِ المرغوبِ فيها, و هكذا لهُ صحةً و مرضاً و استقامةً و اعوجاجاً. فالحىُّ المتألُّه أى الانسانُ بما أنّه انسانٌ لديَ اللهِ و رسولهِ و ملائكتهِ و أوليائهِ المقرّبينَ يَستجيبُ دعوةَ اللهِ و رسولهِ لما يُحْيِيه, أي يُجيبُ أمرَ اللهِ و رسولهِ و يَمتثلُ أحكامَه و يجتنبُ مناهيَهِ حتي يَحييٰ حياةً طيّبةً لها بركاتٌ خاصّةٌ, و يَصحُّ و يسَلَم من أىِّ مرضٍ بيّنهُ اللهُ فـى كتابِه مِن مَرضِ الالحادِ و الشركِ و الكفرِ و النفاقِ, كما قال سبحانَه: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً﴾4, و مِن مَرَضِ السياسةِ المشؤُمة و الرغبةِ الي أهلِ الضلالِ و الكفرِ كما قال تعالي: ﴿فَتَرَي الَّذِينَ فـى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَي أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَي اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَي مَا أَسَرُّوا فـى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾5, و مِن مَرضِ الطمعِ الي ما يُنافـى العفَافَ كما قالَ اللهُ سبحانَه: ﴿... فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فـى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾6. إذ الوحىُ شافٍ بإذنِ اللهِ, و القرآنُ شِفاءٌ بإذنِه كما قالَ اللهُ سبحانَه: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فـى الصُّدُورِ﴾7, و قال تعالي: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾8. و لا مِريةَ فـى أنّ مرضَ الصدرِ أضرُّ من مرضِ البدنِ, كما قال علىُ‌‌بن‌أبـى‌طالب(عليه السلام): «أَلاَ وَ إِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ وَ أَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ وَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ»9, فالخُلُق السىُّء مَرضٌ روحىٌ و لِعلاجِه دواءٌ بَيّنُه الشرعُ المكشوفُ بالعقلِ البرهانـىِّ, و النقلِ المَوثُوقِ به, و للدّواءِ شِفاءٌ أفادَه كذلك, و بعدَ الشِفاءِ رحمةٌ خاصّةٌ لمن اسْتَشفيٰ بالقرآنِ, كما هو المستفادُ من قولهِ تعالي: ﴿...رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾10. فإذا عَرفَ الانسانُ نفسَهُ بأنّه موجودٌ رابطٌ لا استقلالَ لهُ أصلاً, و هو عينُ الربطِ الي الموجودِ المستقلِ الغنـىِّ عمّا سواه، اي اليه سبحانه, فهو ممّن عَرفَ نفسَهُ فعرفَ ربَّهُ, و حيثُ إنّ اللهَ موجودٌ بحتٌ لا مجالَ للعدمِ إليهِ, مطلقٌ لا قيدَ مَعه, صرفٌ لا شوبَ فيه, حقٌّ لا باطلَ إيّاه, بسيطٌ لا تركيبَ فيه, يعرفُ أنّ جميعَ ما سواهُ صرايا وجودِه, و مَرائى ظهورِه فَلاٰ يَري لغيرهِ استقلالاً, بل يري الكلَّ مفتقراً الي اللهِ, و متوكّلاً عليهِ, و صائراً اليه, و واثقاً بهِ, فهو أى الحىُّ المتألـ‌ّهُ لا يَعتمدُ علي نفسهِ, و لا علي غير اللهِ, لاستواءِ الكلِ فـى الربطِ اليهِ, و الافتقارِ و الالتجاءِ به, فلا يَعْبدُ إلاّ إيّاهُ, و لا يَظْلِمُ أحداً, و لا يَستعمُر و لا يَسْتَثمرُ و لا يَسْتَعبدُ و لا يَسْتحمُر بشراً, لأنَّ الناسَ كلَّهم عندَ هذا الموحّدِ الكاملِ المتخلّقِ بالتوحيدِ المتأدّبِ بآدابِه، سواسيةٌ كأسنانِ المشِطِ. كما أنَّ جميعَ الحالاتِ عندَه سواءٌ لأنّ اللهَ سبحانُه عالُم الغيبِ و الشهادةِ, عليمُ السرِّ و العَلَنِ, خبيرُ الخبيئتِه و الطليعةِ, بصيرُ التليدِ و الطارفِ, مُطّلِعُ السالفِ و الآنفِ, و شاهِدُ الغابرِ و القادمِ, فلا يَكتُمُ شيئاً لمعرفتهِ بأنّ اللهَ عليمٌ بذاتِ الصدرِ, فضلاً عن نفسِ الصدر, و لعلمِه بأنهُ سبحانَه يُخرِجُ ضِغْنَ أىِّ ضغينٍ, كما قالَ سبحانَه: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فـى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ‏﴾11, فهو أى الحىُّ المتألّهُ يَعيشُ بنفسِه وحدَه موحِّداً, و يعيشُ مع أهلِ بيتِه متّحِداً موحِّداً, و مع أهلِ بلدِه مجتمعاً موحّداً, فيتجلّي التوحيدُ فـى نفسِه و بيتِه و بِيئتَهِ و تمدّنهِ و تديّنِه, لأنّ تمدَّنَه ليس إلاّ تديّنَه بالدينِ الإلهىِ, فتخلُّقه ليسَ إلاّ اتساءاً بالخُلقِ العظيمِ النبوىِ(صلّي الله عليه و آله و سلّم), واستنانُه ليسَ إلاّ اتباعاً لسنّتِه(صلّي الله عليه و آله), و تَسيّرُه ليس إلاّ تأسيّاً بسيرتِه(صلّي الله عليه و آله), و حيثُ إنّ للانسانِ الذى هو الحىُّ المتألُّه مادامَ كونُه سالكاً سبيلَ الحقِ القويِم، عدواً مُبيناً يريدُ أن يَصُدَّه عنه و يَصرفه الي غيرِه و هو الشيطانُ, و عدوّاً آخر هو أعدي عدوِّه و هو نَفسُهُ التـى بين جَنبيهِ, لأنـّها تُسَوِّلُ له الباطلَ حقاً, و القبيحَ حَسَناً, و تأمره بالسوءِ, و تنهاهُ عن الحُسنِ, فلابدَّ لهُ أن يجاهِدَ عدوَّه و يَتغلَّبَ عليه, و لا أقلَّ من أن لا يستسلِمَ لديه, و لا يَخضَعَ عِنده, و حيثُ إنّ ذلك العدوَّ المبينَ يريٰ الانسانَ من حيثُ لا يراهُ هو: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾12 فلا محيصَ له أى للانسانِ المتألِّه من أن يتَحَصَّن بحِصنِ حصينٍ يري صاحبُ الحصنِ ابليسَ, و لا يراه إبليسُ. لأنّ اللهَ سبحانَه يري إبليسَ من حيثُ لا يراه هو, لأنه أى إبليس لا يري إلاّ نفسَه, و لذا قال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾13, و هذا المعني أى التحصُّن بحصنِ اللهِ سبحانه، حتي يصيرَ مصوناً عن رؤيةِ إبليسَ هو ذكُر اللهِ الذى أمرَ الانسانَ بأصلِه تارةً, و بكثرتهِ أخري, و بعدمِ الوَنْي و التسامحِ و التساهِل و الإدهانِ و الإيهانِ فيه ثالثةً, حيثُ قال الله سبحانه ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾14, و قال تعالي: ﴿... اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾15, و قال سبحانه ﴿وَلا تَنِيَا فـى ذِكْرِي﴾16, و عدم الضعفِ فـى الذكر يُقَرِّبُ القوّةَ فيه, كما قالُ سبحانَه فـى كيفيّةِ أخذِ الكتابِ الإلهىِ الذى هو عُصارةُ الدينِ: ﴿يَا يَحْيَي خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾17, ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾18 و يُشْبِهُهُ بوجهٍ قولُه تعالي: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾19, إذ المرادُ من القوةِ هنا هو قوةُ القلوبِ و الأبدانِ معاً حيثُما فَسّرهُ بعضُ أئمةِ أهلِ البيتِ(عليهم السلام) بذلك, لا خصوصَ قوّةِ الأبدانِ, فتبيّن فـى هذه الوجيزةِ أنّ الانسانَ الحقيقَى هو الحىُّ المتألّهُ, و أنّ هويّتَه المتألّهةَ ثابتةٌ عَبْرَ التاريخِ لا يُبليها شيءٌ, فلن تَجدَ لها تبديلاً و لا تحويلاً, و أنّ خُلقَهُ الحَسَن هو تَوغُّله فـى تألّهِه, فلا يَقومُ و لا يَقعدُ إلاّ بما أراهُ اللهُ سبحانَه و رآه هو بعقلِه البرهانِـى, أو نقلِه المَوثُوقِ به, و أنّ العدلَ و الحُريّةَ و الاستقلالَ و ما إلي ذلكَ من الكمالِ الفرّدىِ و الجمعىِ مُحَدّدٌ مضبوطٌ بما حَدّدهُ الشرعُ و ضَبَطَه الوحىُ, و كَشَف ذلك المشروعَ و المضبوطَ الدليلُ العقلىُ أو النقلىُ و أنّ الركنَ الوحيدَ لحقوقِ البشر,ِ و المنبعَ الفريدَ لاستنباطِ مباديها منه هو ما قرَّره الخالقُ الذى إليهِ يكونُ مآبُ البشرِ و مصيرُه, كما أنّه تعالي هو الذى كان منه بَدْءُ البشرِ و نشرُه, فالمرجُّو منهُ تعالي أنّ يوفقَنا و إيّاكم لما يُحِبُّ و يَرضي و أن يَحفظَ الإسلامَ و المسلمينَ أينَما كان و كانوا، غَفَر اللهُ لنا و لكم.

عبدالله الجوادى الطبرى الآملى
شوال المكرّم 1429
سنة الف و اربعمائة و تسعةُ و عشرين

1 .سورة آل‌عمران, الآية 19.
2 .سورة آل‌عمران, الآية 185.
3 .سورة الأنفال, الآية 29.
4 .سورة البقره, الآية 10.
5 .سورة المائده, الآية 52.
6 .سورة الأحزاب, الآية 32.
7 .سورة يونس, الآية 57.
8 .سورة الإسراء, الآية 82.
9 . نهج‌البلاغة, الحكمة 388.
10 .سورة الإسراء, الآية 82.
11 .سورة محمد, الآية 29.
12 .سورة اعراف, الآية 27.
13 .سورة ص, الآية 76.
14 .سورة البقره, الآية 152.
15 .سورة الأحزاب, الآية 41.
16 .سورة طه, الآية 42.
17 .سورة مريم, الآية 12.
18 .سورة البقره, الآية 63.
19 .سورة الأنفال, الآية 60.