مكاسب رمضانية
  • عنوان المقال: مكاسب رمضانية
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 11:42:14 2-9-1403

مكاسب رمضانية

ان ليالي شهر رمضان عندما تبدأ بالتصرم والانقضاء، بعد ان كانت حافلة بالتهجد والعبادة والتبتل وحضور مجالس العلم، لابد ان تكون بايامها مدرسة كافية لصياغة شخصيات المؤمنين من جديد وتربيتهم وتزكيتهم. ففي هذه الليالي الاخيرة يستعد الجميع لوداع هذا الشهر المبارك. فنحن عندما نودع هذا الشهر الكريم نكون كمن يزور مدينة جميلة رائعة، فيطوف في ارجائها، ويتمتع بمناظرها، ويستريح الى افيائها، ثم هو يريد ان يغادرها ليعود الى بلده. فما هو واجبه في هذه الحالة ؟
انه - بالطبع - لابد ان يفتش في هذه المدينة عن أجمل ما يمكن يحمله معه من متاع وتحف وهدايا وما الى ذلك، فيقول في نفسه : مادمت سوف اغادر هذه المدينة، فلأجمع من تحفها، وآثارها ما انتفع به في بلدي.
وهكذا الحال بالنسبة الى شهر الله العظيم رمضان، فاننا في كل عام نودعه. فكيف - ياترى - نحمل تحفه الىغيره من الشهور ؟ فمسؤوليتنا في الاسبوع الاخير من شهر رمضان المبارك، تتمثل في ان نحمل ما يمكننا حمله من مدينة المغفرة والرضوان الى سائر الايام.
مكاسب رمضانية :
السؤال الآخر والمهم هو : كيف نكرس مفاهيم وقيم الايمان وروح التقوى التي حصلنا عليها في هذا الشهر الفضيل في انفسنا دائماً وابداً ؟
وللأسف الشديد حقاً، فان البعض من المسلمين - وهم ليسوا بالقليل في البلدان الاسلامية - لايصلون إلاّ في شهر رمضان. فترى الواحد منهم اول يوم من ايام شهر رمضان يغتسل غسل التوبة ويغيّر ملابسه، فلا تلقاه إلاّ في المساجد والمحافل الدينية والروحية. فيصوم النهار، ويتعبد في الليل الى يوم العيد، ليعود في هذا اليوم الى موبقاته، وخطاياه، وآثامه، وكأن من الواجب عليه ان لايكون انساناً صالحاً إلاّ في شهر رمضان !!
ترى ما هو السبيل الى ان لا نكون من ضمن هذه الفئة من الناس، وكيف نمتنع في شهر رمضان عن الغيبة، والتهمة وسوء الظن بالآخرين، وسائر الصفات السيئة، ثم نستمر على هذه الحالة حتى بعد شهر رمضان ؟
للاجابة علىهذا التساؤل المهم نقول : ان هناك حقيقة أكدت عليها الروايات والاحاديث الشريفة، وهي ان الانسان الذي يتوب الى الله جل وعلا إن قبلت توبته، فان قلبه سوف لايحن الى الذنب مرة اخرى، وإن لم تقبل فانه يبقى في حالة حنين واشتياق الى اقتراف الذنب. ونحن في الليالي الاخيرة من شهر رمضان المبارك نؤكد الميثاق مع الله تبارك وتعالى على ان لا نعود مرة اخرى الى الذنوب، ونستغفر خالقنا بقلوبنا كما نستغفره بألسنتنا. فما علينا في هذه الحالة إلاّ ان نراجع هذه القلوب؛ فان كانت تريد العودة الى الذنوب، فهذا يعني ان توبتنا لم تقبل بعد، وان علينا ان نجتهد فيما تبقى من شهر رمضان. اما اذا اصبح القلب كارهاً للذنب، واذا ما استشعر الندم الحقيقي، فحينئذ ستكون مقبولة.
تحديد الذنوب :
وعلينا نحن ان نحدد أولاً الذنوب التي ندمنا عليها. ولقد كان الزهاد والعبّاد قديماً عندما كانوا يحاسبون انفسهم، يبادرون الى تسجيل ذنوبهم، فوجد انه قد ارتكب سبعين ذنباً خلال سبعين عاماً وليس خلال يوم واحد. اما نحن فاننا اذا سجلنا ذنوبنا من الصباح حتى الليل فمن الممكن ان تبلغ ذنوبنا ذلك العدد خلال يوم واحد !
فلا بــأس - إذن - من ان نسجل الذنوب التي اقلعنا عنها. اما ان ندعي اننا منزهون عن الخطايا، ونزكي انفسنا، ونرى اننا طاهرون مطهرون، فان هذا التصور يعتبر - بحد ذاته - أعظم الذنوب. فالعجب، والغرور، وتنزيه النفس، كل ذلك هو من الكبائر.
وبناء على ذلك؛ فمما لاشك فيه اننا قد اقترفنا الذنوب، فلنعيّنها بالتحديد. ولنقم بهذه العملية في الليالي الاخيرة من شهر رمضان المبارك من خلال تحديدها، والندم عليها، والاستعاذة بالله العزيز من شر الشيطان الذي دفعنا الى ارتكابها. فلنبادر الى تسجيلها، ولنعقد العزم من الآن على ان لانعود اليها، ولنحاسب انفسنا يومياً لنرى هل عدنا الى اقتراف ذنوبنا ام لا، وإلاّ فان من العبث ان نستغفر الله تبارك وتعالى من الذنوب ثم نرتكبها مرة اخرى. فمن يضمن انك بعد تلك الذنوب ستوفق الى التوبة ؟ فهناك من الذنوب ما ينساه الانسان، فما من احد يستطيع ان يدعي انه يتذكر كل ذنوبه.
الاجواء الايمانية :
وثمة ملاحظة تتمثل في ان الانسان بامكانه ان يبقى طاهراً إذا عاش في جو طاهر، وبيئة نقية نزيهة. فهو يتعرض في هذه الدنيا الى ضغوط الشهوة من الداخل، والمجتمع من الخارج، والشيطان من الداخل والخارج معاً، فلا يدعه كل ذلك يعيش نقياً طاهراً من الذنوب.
وهكذا فلا بد من أجل ان نحافظ على مكاسبنا الايمانية التي حصلنا عليها خلال شهر رمضان ان ندخل في حصن الولاية؛ أي ان يجتمع بعضنا الى بعض، ونكون ضمن تجمعات ايمانية صادقة يوحي بعضها الى بعض تقوى الله، وتتبادل النصيحة، ويحرض بعضها البعض الآخر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي فان هذه التجمعات ستمنحنا حصانة تحول دون الوقوع في الذنوب مرة اخرى.
شهر رمضان ربيع الايمان :
ان شهر رمضان الفضيل هو بالنسبة الينا ربيع الايمان، وربيع التقوى، وربيع الصفات الحسنة، وربيع تلاوة القرآن الكريم... ومن المعلوم ان نفوسنا تشحن في الليالي والايام الاخيرة من شهر رمضان بسيل من التوجيهات والتعليمات، ولو اننا استفدنا من كل توجيه وحديث فائدة حقيقية تنفذ الى قلوبنا، واذا ما استوعبنا من كل حديث كلمة معبرة، ونصيحة مؤثرة، فسوف ينهمر علينا شلال من النور، وسيل غامر من الرحمة الالهية.
ان شهر رمضان هو شهر الله، والشيطان الرجيم مغلول ومقيد فيه. فلا بد لكل واحد منا من ان يحافظ على هذه الاجواء الروحية، والتعاليم والقيم من خلال الحرص على تشكيل تلك التجمعات، والانضمام اليها.
ومن الحقائـق الملموسة في علمنــا، ان كل واحد منا لايمكنه
ان يعيش فرداً، بل لابد له من يعيش في اطار تجمع. وحتى المؤمنون في الجنة، فعلى الرغم من انهم في شغل فاكهون هم وازواجهم، إلاّ انهم يتخذون اصدقاء واصحاباً يجلسون معهم، ويتحدثون اليهم. وبالتالي فان لذات الجنة لاتشغلهم عن لذة مجالسة اخوتهم. وهكذا الحال بالنسبة الى الدنيا، فان لذة الانسان المؤمن تتمثل في لقاء الله جل وعلا، ولقاء الاخوة الذين يحبهم في الله.
توحيد القلوب :
وبالطبع فان هناك بعض الثغرات، والنواقص الروحية، وهي ان يعمد الشيطان الى افسار ما بينك وبين اخوتك. فلنحاول في شهر رمضان بما استغفرنا ربنا، وبما استطعنا ان نرفع الحواجز التي كانت قائمة بيننا وبين اخوتنا، ان نقترب منهم. فحبهم في ذات الله هو مقياس لمدى ايماننا، ومدى قدرتنا على حل مشاكل مجتمعنا.
وللأسف فان المجتمعات التي عشنا فيها كان بعضها متخلفاً، وكانت تدعونا الى التدابر والقطيعة، وتدفعنا الى التنابز بالالقاب القبيحة. فلنحاول ان نتخلص من هذه الرواسب. فمن المفترض فينا ان لا نفتش عن ابناء مدينتنا او جيراننا او اقربائنا لكي نتخذهم اصدقاء، بل علينا ان نبحث عن اخوة لنا في الايمان في مــدن وبلدان اخرى لكي نحتضنهم ونتخذهم اصدقاء. وهذا هو المستوى الذي يجب ان نرتفع ونسمو إليه.
ولنا في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله ) خير قدوة واسوة حسنة لنا في هذا المجال. فقد جعل (صلى الله عليه وآله) سلمان الفارسي من أهل بيته فقال: سلمان منا أهل البيت .([22]) وهكذا الحال بالنسبة الى ابن ام مكتوم الرجل الضرير والمعدم، الذي كان منبوذاً في المجتمع الجاهلي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي...وهذا هو السر الذي جعل أهل افريقيا - مثلاً - يؤمنون بالاسلام، ويمقتون العنصرية والجاهلية الغربية، وهو نفسه السر الذي جعل أهل ايران يفتخرون بسلمان المحمدي، ذلك لانه ادرك ان الاسلام لا مكان للعنصرية فيه.
فلنحاول نحن ايضاً ان نعود الى صفاء الاسلام ونقائه وروحه، وإن كانت هناك عصبية فلنبتعد عنها ابتعادنا عن الجيفة المنتنة. فعن أبي عبد الله الامام الصادق (عليه السلام) يقول : من تعصَّب عصبه الله عز وجل بعصابة من نار .([23])
الاستمرارعلى الممارسات العبادية :
ان الذي نحتاجه من أجل ان نحمل هدى رمضان الى الاشهر الاخرى، هو ان نحافظ ونواظب على بعض الممارسات التي اكتسبناها من شهر رمضان، من مثل صلاة الليل وتلاوة القرآن وقراءة الأدعية، وما الى ذلك من الممارسات العبادية. وبالطبع فاني لا اقصد ان يعود أحدنا نفسه على اداء تلك العبادات كلها، فمن الممكن ان تكون هذه العملية صعبة علينا، بل لنحاول ان نتعود على واحدة من تلك الممارسات على الاقل، وان لانتركها. كأن نستمر - مثلاً - في تلاوة القرآن الكريم، ونواظب عليها بعد شهر رمضان المبارك.
ولنا في سلفنا الصالح خير قدوة في هذا المجال، فقد كان كل واحد منهم يختم القرآن الكريم في كل ليلة، فيبدؤون بقراءته من أوّل الليل ليفرغوا منه في آخره، وذلك في شهر رمضان. اما نحن فلا نقرأ منه سوى جزء في الليلة الواحدة، وبالطبع فانه لابأس بهذا المقدار من القراءة شريطة الاستمرار عليها بعد شهر رمضان، لان هذا الاستمرار من شأنها ان يكرس هذه العادة الحسنة في انفسنا، ويجعلها تؤتي ثمارها وأ