مفهوم الزمن بين صدر الدين الشيرازي وآينشتاين *
علي أحمد الشيخ
لقد تطوّر مفهوم الزمن حتى أصبح من أكثر المفاهيم المعرفية تعقيداً . ومن البدهي الإشارة إلى أنّ هذا المفهوم قد تمّ تناوله أوّل الأمر على يد الفلاسفة الذين لم يصلوا إلى نظرية متكاملة تكوّن أرضية صُلبة لأغلب إشكالات الفلسفة ومزالقها إلاّ على يد الفيلسوف صدر الدين الشيرازي . الذي أبدع نظريته ( أصالة الوجود ) في لحظة من اللحظات النادرة التي انفجر فيها نبع الإشراق آذناً بميلاد مرحلة جديدة للفلسفة الإسلامية سرعان ما أوصلها إلى أوج كمالها ، فانصهرت فيها كلّ مفارقات المدارس الفلسفية من مشّائين ورواقيين وعلماء كلام .
وفي الجانب الآخر من العالم ، وفي وقت متأخّرٍ قليلاً وضع إسحاق نيوتن معادلاته عن كيفية دوران الأجسام في الزمان والمكان وقوانين الجاذبية الكونية مبتكَر الرياضيات ( علم التفاضل والتكامل ) الضرورية لفهم وتحليل هذه الحركات التي كانت فيما بعد شرارة لثورة علمية فجّرت المعرفة بصورة لم تُعهد في التاريخ البشري كلّه ، ومكّنت الإنسان من اختراق الفضاء والإفلات من أمشاج الجاذبية الأرضية .
ولم يكن يدور بخلد أحد
من العلماء آنذاك أنّ قوانين نيوتن هذه قد تعجز يوماً ما عن تفسير أو التنبؤ
بأيّة ظاهرة فيزيائية حتى برز ألبرت آينشتاين بنظريته النسبية الخاصة عام 1905
، وبعدها بالنسبية العامة عام 1915 التي قدر لها أن تغير مسار علم الفيزياء على
نحو جذري .
وهنا سنتناول بالشرح والتوضيح مفهوم الزمن من خلال الفلسفة ، بناءً على أطروحة
الفيلسوف صدر الدين ومن خلال النظرية النسبية لأشهر فيزيائي هذا القرن
ألبرت آينشتاين .
الحركة الجوهرية :
قبل الخوض في نظرية ( الحركة الجوهرية ) الفلسفية عند صدر الدين نجد من الضروري التعريف بالمفاهيم الجزئية المكوّنة لها. وكما هو واضح من العنوان فإنّ فهم الحركة الجوهرية يستلزم فهماً مسبقاً لمعنى الحركة ولمعنى الجوهر فلسفياً .
تعرف الحركة على أنّها ( خروج الشيء من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج . ويتكوّن هذا التعريف من ثلاثة عناصر رئيسية هي :
أ ـ الخروج من القوّة .
ب ـ إلى الفعل .
ج ـ على سبيل التدرج ) .
ويقصد بالقوّة : قابلية الشيء وإمكانيته . فإنّ قولنا : إنّ هذا الطفل طبيب بالقوّة ، يقصد منه أنّه قابل لأن يكون طبيباً وذلك ممكن وليس بمحال . أو كقولنا : إنّ هذه البذرة شجرة بالقوّة ، ونقصد بذلك أيضاً أنّها من الممكن أن تكون شجرة ، أو أنّ لها القابلية أو الاستعداد كي تصبح شجرة .
أمّا معنى الفعل فهو : عبارة عن وجود الشيء حقيقةً . ومنه اشتقت كلمة الفعلية . ومثال ذلك قولنا : أنّ هذه الشمعة مشتعلة بالفعل إذا كانت مشتعلة حال كلامنا عنها .
أمّا معنى قولهم : ( على سبيل التدرج ) فهو أنّ هذا الانتقال من حال القابلية إلى حال الفعلية لا يكون دفعة واحدة وخارج إطار الزمن بل لا بدّ أن يكون متدرجاً في حصوله درجة درجة .
وبهذا يمكننا القول :
إنّ الخروج من حال العدم إلى حال الوجود لا يسمّى حركة وإلاّ لزم وجود حالة
ثالثة بين الوجود والعدم كما توهّمه البعض. والحقيقة أنّ الوجود والعدم مفهومان
لا يجتمعان ( يثبتان ) ولا يرتفعان ( يسلبان ) عن موضوع واحد من جهة واحدة .
ويمكننا إعادة صياغة تعريف الحركة على أنّها تحقق قابلية الشيء تدريجياً. ويصدق
هذا التعريف على كلّ أنواع الحركة كالحركة في المكان والحركة في الكيف والحركة
في الكم والحركة في الجوهر الذي هو محلّ حديثنا .
أمّا معنى الجوهر ، فيعرف على أنّه ( الموجود لا في موضوع ) على العكس من العرض المعرّف على أنّه ( الموجود في موضوع ) . وتوضيح معنى العرض أوّلاً ضروريٌ ؛ لفهم معنى الجوهر تبعاً .
إذن ، فالعرض ( ماهية
مستقلّة بحسب نفسها ، ومفهومها ، لا مستقلة بحسب وجودها ، إذ هو بحاجة في وجوده
إلى الوجود في غيره ) . ومثال ذلك : اللون الذي يمتلك معنى مستقل بذاته عقلاً ،
إلاّ أنّه في الخارج لا ينفك عن الحلول في جسم ما .
أمّا الجوهر فهو : الماهية المستقلة مفهوماً ووجوداً . وفي مثالنا السابق يكون
الجوهر هو الجسم . والجسم ذو معنى مستقل ولا يحتاج في وجوده إلى الحلول في غيره
؛ إذ هو مستقل بذاته . والعرض والجوهر عنوانان عامان أحد مصاديقهما اللون
والجسم تبعاً ، ولهما مصاديق أخرى كثيرة .
وقد كان الرأي السائد عند الفلاسفة ، قبل صدر الدين ، أنّ الحركة تقع في الأعراض دون الجواهر . وأوردوا إشكالات عديدة على القائل بوجد الحركة في الجوهر . وقد كان القول بالحركة الجوهرية نتيجة مباشرة لنظرية صدر الدين الشيرازي ( أصالة الوجود ) في مقابل نظرية ( أصالة الماهية ) السابقة لها . ويمكن تلخيص معنى الحركة الجوهرية على أنّها ( قابلية الجوهر واستعداده الآن لأن يكون موجوداً بالفعل فيما بعد الآن ) أو ( إنّ الحركة الجوهرية هي في الواقع التجدّد المستمر لوجود الجوهر ) . إذن لا علاقة بين الحركة الجوهرية وبين حركة الذرّات والجزئيات ؛ لأنّ كلّ هذه الحركات تحدث في أعراض المادة وليس في جوهرها .
وقد اشتهر بين الفلاسفة ( قبل صدر الدين ) أنّ : ( الزمان جوهر مستقلّ منفصل عن المادة ) أو بتعبير آخر : ( أنّ الزمان موجود مستقل سواء أكان هناك موجود آخر أم لا .. بحيث أنّه يوجد حتى إذا لم يخلق الله سبحانه سواه من الأشياء ، وبحيث لمّا خلق الله المادة صارت جليسة للزمان ، فالمادة في سكونها وثباتها والزمان في سيلانه وتصرّمه كالجالس في نهر جارٍ ) .
وقد أبطلت نظرية
الحركة الجوهرية هذا الرأي وفندته ، فبناء على القول بها لا يصبح معنى للزمان
بدون الحركة ولا للحركة بدون الزمان ، فهما وجهان لعملة واحدة ، وهما ينفصلان
عقلاً وتحليلاً فقط ، لا أنّهما منفصلان فعلاً في الخارج .
وحسب هذا الرأي ، فإنّ كثيراً من المشكلات الفلسفية التي أشكلت على الفلاسفة
قبلاً قد حلّت إشكالاتها . وعلى سبيل التمثيل فإنّ الزمان لا يصبح قديماً ولا
أزلياً ، بل إنّ له بداية ونهاية ، هما بداية الحركة ونهايتها من الكون .
وزبدة المخاض ، أنّ الحركة هي الزمان والزمان هو الحركة . وبما أنّ الحركة لها مبتدأ ولها منتهى ولا يمكن أن يتقدّم المتأخّر ولا يتأخّر المتقدّم فيها ، فالزمان ـ كذلك ـ لا يمكن لأجزائه المتقدّمة أن تتأخّر أو العكس . ويعبّر عن الزمان بأنّه ( حقيقة سيّالة متدرّجة الحصول ) متصرّم الوجود . فهو سيّال ؛ لأنّه غير متوقّف . وهو متدرج الحصول ؛ لأنّه لا يوجد إلاّ جزءاً جزءاً . وهو متصرّم الوجود لأنّ أجزاءه لا تجتمع معاً . وحدوثها يتحقّق بتحقّق جزء وانتفاء جزء سابق له .
ولكلّ جسم زمانان :
زمان خاص به ، وزمان عام . ويحصل الزمان الخاص بسبب حركته ، أمّا الزمان العام
( المطلق ) فهو الذي يشترك فيه مع غيره من الأجسام .
النظرية النسبية :
كتب إسحق نيوتن : ( إنّ الزمن الرياضي الحقيقي المطلق بنفسه وبطبيعته الذاتية يجري بالتساوي ودون أيّ علاقة بأيّ شيء خارجي ) . ولم يكن نيوتن يعني بذلك إلاّ أنّ الزمن يسير بالتساوي في جميع أنحاء الكون . والعلماء الذين جاؤوا بعد نيوتن اعتمدوا على إمضاء هذا المفهوم ، إلى أنّ جاء ألبرت آينشتاين وقلب الطاولة أمام مفهوم نيوتن . فقد وجد آينشتاين : ( أنّ الزمن يتباطأ كلّما زادت السرعة ) .
ويمكن فهم مقولة آينشتاين بناءً على أمور بديهية في حياتنا ، إذ أنّنا كلّما زدنا السرعة لقطع مسافة ما قلّ الزمن اللازم لها تبعاً لذلك . غير أنّ هذا المعنى لا علاقة له بما يعنيه آينشتاين مطلقاً .. !
المعنى الذي يذهب إليه هو أنّ الساعة على كوكب الأرض ( قد ) تساوي عشر دقائق في مكان آخر من الكون ، وقد تساوي عشرين ساعة . وعلى سبيل التمثيل لو وجد حدث كوني قمنا بقياس مدّته ، من بدايتها حتى نهايتها ، ووجدناها تساوي ساعة كاملة ، فإنّ مدّة هذا الحدث ، من مكان آخر من الكون ، لا تساوي بالضرورة المدّة التي قسناها على كوكب الأرض ، بل يمكن أن تزيد أو تنقص حسب سرعة الراصد في المكان الآخر .
ويذهب طرح النسبية إلى ما هو أغرب من ذلك ، فالماضي والحاضر والمستقبل فقدت معانيها الكونية المطلقة التي كانت سائدةً . الماضي لم يعد يعني اللحظة الزمنية الفائتة وما قبلها . والمستقبل ليس اللحظة الزمنية القادمة . واللحظة التي نعيشها ـ الآن ـ ما هي إلاّ أنّنا نحن وحسب . والتعاريف التي تتبنّى مثل هذا التحديد تعاريف نسبية لا تصلح كقيمة كونية مطلقة ، فالماضي والحاضر والمستقبل قد يكون لها ترتيب آخر في مكان آخر من الكون .
بمعنى أنّه لو وقعت ثلاثة حوادث كونية الآن ـ مثلاً ـ كانفجار ثلاثة نجوم : الأوّل يبعد عن الأرض بمسافة سنة ضوئية ، والثاني بسنتين ، والثالث بثلاث سنوات ضوئية . فإنّ الراصد ، على كوكب الأرض ، لن يشاهد انفجار النجم الأوّل إلاّ بعد مرور سنة كاملة حسب مقاييسنا نحن . كذلك لن يشاهد الانفجار الثاني إلاّ بعد سنتين .. ولن يشاهد الثالث إلاّ بعد ثلاث سنوات . وهذا يعني أنّ السهم الزمني ـ بالنسبة لنا على الأرض ـ سيمر بحدث النجم الأوّل ثمّ الثاني ومن ثمّ الثالث . لكنّ هذا لا ينطبق على مراقب آخر في منطقة أخرى من الكون ، يبعد موقعه عن النجم الأوّل بمسافة ثلاث سنوات ضوئية . وعن الثاني سنة ضوئية واحدة . وعن الثالث سنتين .
إنّ سهم الزمن لن يمرّ بنفس الترتيب السابق على الأرض ؛ لأنّه سيبدأ بحدث النجم الثاني ثمّ الثالث ومن ثمّ الأوّل . إذن فإنّ ( حادثاً في هذا الكون قد يكون في الماضي بالنسبة لمشاهد ، وفي الحاضر بالنسبة لمشاهد آخر وفي المستقبل بالنسبة لمشاهد آخر ) . وهذا يفضي إلى عدم وجود زمن مطلق ( ساعة مطلقة ) يشمل الكون ويستند عليه في تحديد الماضي والحاضر والمستقبل للكون كلّه .
إن ّالفرق الجوهري بين الكون الكلاسيكي وبين ما تراه النسبية هو وجود حد أعلى للسرعة ، النظرية النسبية تضع (سرعة الضوء) حداً أعلى للسرعة ، وهذا الحدّ في كون النسبية لا يمكن للأجسام وصوله فضلاً عن تجاوزه . إضافة إلى ثبات سرعة الضوء بالنسبة لكلّ شيء ، فهي الثابت الوحيد في الكون . ولم تقتصر النسبية على ما ذكر من مفاجئات ، بل أنّها وضعت أيدي العلماء على السرّ الذي من خلاله يمكن للزمن أن يتباطأ بسببه !!
هذا السرّ هو السرعة ، وباختصار شديد : إنّ الزمان النسبي للأجسام يتباطأ عند تسارعها قياساً بالأزمنة ا