من أبرز خصائص أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) البر والإحسان إلى الناس كافّة ، وبصورة خاصّة الطبقة الضعيفة ، فكانوا يخصّونهم بجزيل فضلهم ، ونبل عطاياهم ، حتّى كان من منهجهم في الليالي المظلمة ، هو الطواف على بيوت الفقراء والمساكين بالأغذية والمال ، وهم لا يعرفونهم .
قال ابن الصبّاغ المالكي : كان موسى الكاظم ( عليه السلام ) أعبد أهل زمانه ، وأعلمهم ، وأسخاهم كفّاً ، وأكرمهم نفساً ، وكان يتفقّد فقراء المدينة ، ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات ، ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك ، ولم يعلموا بذلك إلاّ بعد موته .
وقال محمّد بن عبد الله البكري : قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني ، فقلت : لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى فشكوت إليه ، فأتيته في ضيعته ، فذكرت له قضيّتي ، فدخل ولم يقم إلاّ يسيراً حتّى خرج إليّ ، فقال لغلامه : ( إذهب ) ، ثمّ مدّ يده إليّ ، فرفع إليّ صرّة فيها ثلاثمائة دينار ، فركبت دابتي وانصرفت .
كما رووا عن عيسى بن محمّد بن مغيث القرطبي ، قال : زرعت بطّيخاً وقثاءاً وقرعاً في موضع بالجوانية ، على بئر يقال لها : أم عظام ، فلمّا قرب الخير ، واستوى الزرع ، بغتني الجراد ، فأتى على الزرع كلّه ، وكنت غرمت على الزرع ، وفي ثمن جملين مائة وعشرين ديناراً ، فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر بن محمّد ، فسلّم ، ثمّ قال : ( أي شيء حالك ؟ ) .
فقلت : أصبحت كالصريم ، بغتني الجراد فأكل زرعي ، قال ( عليه السلام ) : ( وكم غرمت فيه ؟ ) فقلت : مائة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين ، فقال ( عليه السلام ) : ( يا عرفة زن لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً ، فربحك ثلاثون ديناراً والجملان ) .
فقلت : يا مبارك ادخل وادع لي فيها بالبركة ، فدخل ودعا ، وحدّثني عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال : ( تمسّكوا ببقايا المصائب ) ، ثمّ علقت عليه الجملين وسقيت ، فجعل الله فيها البركة وزكت ، فبعث منها بعشرة آلاف .
وقال علي بن عيسى الأربلي : مناقب الكاظم وفضائله ومعجزاته الظاهرة ، ودلائله وصفاته الباهرة ، تشهد أنّه افترع قبّة الشرف وعلاها ، وسماها إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها ، وذلّلت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها ، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها .
طالت أصوله ، فسمت إلى أعلى رتب الجلال ، وسمت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال ، يأتيه المجد من كل أطرافه ، ويكاد الشرف يقطر من أعطافه .
فكان كما قال الشاعر :
أتاه المجد من هنا وهنا ** وكنا له كمجتمع السيول
السحاب الماطر قطرة من كرمه ، والعباب الزاخر نغبة من نغبه ، واللباب الفاخر من عبد من عبيده وخدمه ، كأن الشعرى علّقت في يمينه ، ولا كرامة للشعرى العبور ، وكأن الرياض أشبهت خلائقه ، ولا نعمى لعين الروضة الممطور .
وهو ( عليه السلام ) غرّة في وجه الزمان ، وما الغرر والحجول ، وهو أضوأ من الشمس والقمر ، وهذا جهد من يقول : بل هو والله أعلى مكانة من الأوصاف وأسمى ، وأشرف عرفاً من هذه النعوت وأنمى ، فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره ، أو ترتقي همّة البليغ إلى نعت فخاره ، أو تجري جياد الأقلام في جلباب صفاته ، أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته ؟
كاظم الغيظ ، وصائم القيظ ، عنصره كريم ، ومجده حادث وقديم ، وهو بكل ما يوصف به زعيم ، الآباء عظام ، والأبناء كرام ، والدين متين ، والحق ظاهر مبين ، والكاظم في أمر الله قوي أمين ، وجوهر فضله غالٍ ثمين ، وواصفه لا يكذب ولا يمين ، قد تلقّى راية الإمامة باليمين ، فسما ( عليه السلام ) إلى الخيرات منقطع القرين ، وأنا أحلف على ذلك فيه ، وفي آبائه وأبنائه ( عليهم السلام ) باليمين .