في آخر شهر ذي القعدة سنة 220 هجرية
خلاصة مراحل حياة الإمام محمد الجواد(عليه السلام)اسمه: الإمام محمد.
ألقابه: الجواد، التقي، القانع، الزكي، باب المراد.
كنيته: أبو جعفر.
والده: الإمام علي الرضا (عليه السلام).
والدته: الخيزران، ويقال لها أيضا (درة) و (سبيكة) و (سكينة).
ولادته: ولد (عليه السلام) في شهر رمضان المبارك عام195هـ بالمدينة.
عمره: 25 سنة.
معاصروه: عاصر إمامنا الجواد من الملوك بقية ملك المأمون والمعتصم.
من زوجاته: أم الفضل بنت المأمون.
أولاده: الإمام علي الهادي، وموسى، وفاطمة، وأمامة، وحكيمة، وزينب.
صفته: كان (عليه السلام) أبيضا معتدل القامة عليه ملامح الأنبياء.
مع أبيه: عاش إمامنا الجواد مع أبيه7 سنين فقط، وقيل أقل من ذلك، ثم هاجر الإمام الرضا إلى خراسان بأمر المأمون.
مدة إمامته: سبعة عشر سنة.
هجرته: هاجر (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد بأمر من المعتصم العباسي، وأقام فيها تحت الرقابة المشددة إلى أن توفي.
شهادته: استشهد إمامنا الجواد متأثرا بسم أمر به المعتصم العباسي، سقته إياه زوجته أم الفضل بنت المأمون سنة220هـ.
قبره: في بغداد (الكاظمية) إلى جنب جده الإمام الكاظم، فاطلق عليهما (الجوادين) و (الكاظمين).
نقش خاتمه: نعم القادر الله.
حرزه: يا نور يا برهان يا مبين يا منير يا رب اكفني الشرور وآفات الدهور وأسألك النجاة يوم ينفخ في الصور.
ولد الإمام محمّد بن علي الجواد عام ( 195 هـ ) أي في السنة التي بويع فيها للمأمون العباسي، وعاش في ظلّ أبيه الرضا (عليه السلام) حوالي سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد لأبيه الرضا (عليه السلام) وما صاحبها وتلاها من حوادث ومحن حتى تجلّت آخر محن أبيه (عليه السلام) في اغتيال المأمون للرضا (عليه السلام) .
وبقي الإمام محمد الجواد (عليه السلام) بعد حادث استشهاد أبيه (عليه السلام) في منعة من كيد المأمون الذي قتل الإمام الرضا(عليه السلام) وبقي عند الناس متّهماً بذلك. لكنه لم ينج من محاولات التسقيط لشخصيّته ومكانته المرموقة والسامية في القلوب . وقد تحدّى كل تلك المحاولات إعلاءً لمنهج أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم في عقيدة الإمامة والزعامة وما يترتب عليها من الآثار السياسية والاجتماعية .
وينتهي عهد المأمون العباسي في سنة ( 218 هـ ) ويتربّع أخوه المعتصم على كرسي الخلافة حتى سنة ( 227 هـ ) ولم يسمح للإمام الجواد(عليه السلام) بالتحرّك ويراقب ـ بكل دقّة ـ النشاط الاجتماعي والسياسي للإمام(عليه السلام) ثمّ يغتاله على يد ابنة أخيه المأمون، المعروفة باُم الفضل والتي زوّجها المأمون من الإمام الجواد(عليه السلام) ولم تنجب له من الأولاد شيئاً، وذلك في سنة (220 هـ )، وهكذا قضى المعتصم على رمز الخط الهاشمي وعميده، الإمام محمّد التقي أبي جعفر الجواد(عليه السلام) .
اذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم الى قسمين وثلاث مراحل :
القسم الأول : حياته في عهد أبيه وهي المرحلة الاولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً .
والقسم الثاني : حياته بعد استشهاد أبيه حتى شهادته . وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة .
وينقسم هذا القسم بدوره إلى مرحلتين متميّزتين :
المرحلة الاُولى : حياته في عهد المأمون وهي المرحلة الثانية من حياته وتبلغ حوالي خمس عشرة سنة . وهي أطول مرحلة من مراحل حياته القصيرة.
والمرحلة الثانية : وهي مدة حياته في عهد المعتصم العباسي وتبلغ حوالي سنتين وتمثّل المرحلة الثالثة من حياته الشريفة .
وهكذا تتلخص مراحل حياته (عليه السلام) كما يلي:
المرحلة الاُولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه الرضا(عليه السلام) حيث ولد سنة (195 هـ ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ واستشهد الإمام الرضا(عليه السلام) في صفر من سنة (203 هـ ) .
المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم المأمون من سنة (203 هـ ) الى سنة (218هـ ).
المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من أيّام حكم المعتصم أي من سنة (218 ـ 220 هـ ).
النصّ على إمامته (عليه السلام)
من نافلة القول معرفة أن منصب الاِمامة نص إلهي ، أبلغه تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يوم نصّ على خلافة الاِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام له في منصب إمامة المسلمين؛ ثم كانت للرسول الاَعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم مواقف وكلمات- في روايات وردتنا- صرّح في بعضها بأسماء الاَئمة خلفائه واحداً واحداً حتى اثني عشر إماماً ، كما أن الاَئمة عليهم السلام- باعتبار عصمتهم- نصوا على من يليهم بهذا المنصب ، ولم يكن الاَمر باختيارهم .
أخرج إبراهيم بن محمد الحمّوئي الشافعي في فرائده بسنده ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس رفعه : « إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي لاِثنا عشر ، أوّلهم أخي وآخرهم ولدي » . قيل : يا رسول الله ومن أخوك ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « عليّ » . قيل : فمن ولدك ؟ قال : « المهدي الذي يملأ الاَرض قسطاً وعدلاً .. » الحديث (فرائد السمطين 2 : 312 | 562 . وراجع : ينابيع المودة - القندوزي الحنفي 3 : 383 الباب 94) .
وفيه : عن الاَصبغ بن نباتة ، عن ابن عباس رفعه : « أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون » (فرائد السمطين 2 : 313 | 563 ، 564 . وراجع : ينابيع المودة 3 : 384) .
وإمامنا الجواد عليه السلام وردت النصوص بإمامته عن جدّه النبيّ الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعن آبائه عليهم السلام وإليك جملة من هذه النصوص:
نص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على إمامة الجواد(ع)
عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سمعت جابر بن عبدالله الاَنصاري يقول:
قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا جابر إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أوّلهم عليّ ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي المعروف بالباقر ، ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي ابن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم القائم اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي محمد بن الحسن بن علي . . . » (ينابيع المودة 3 : 398 الباب 94 . وكشف الغمة | الاِربلي 3 : 314) .
ونقل أخطب خوارزم الموفق بن أحمد في كتابه « مقتل الحسين » عن ابن شاذان قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبدالله الحافظ ، حدثني علي بن علي بن سنان الموصلي، عن أحمد بن محمد بن صالح، عن سلمان بن محمد، عن زياد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سلامة عن أبي سلمى راعي أبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « ليلة أُسري بي إلى السماء قال لي الجليل جلّ وعلا : ( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه ) ، قلت : "والمؤمنون" ، قال : صدقت يا محمد من خلفت في أمتك ، قلت : خيرها ، قال : علي بن أبي طالب ؟ قلت : نعم يا رب ، قال : يا محمد إنّي اطّلعت إلى الاَرض اطلاّعة فاخترتك منها فشققت لك اسماً من اسمائي فلا اذكر في موضع إلاّ ذكرت معي ، فأنا المحمود وأنت محمد ، ثم اطّلعت الثانية ، فاخترت عليّاً ، وشققت له اسماً من اسمائي ، فأنا الأعلى وهو علي؛ يا محمد اني خلقتك وخلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والاَئمة من ولده من سنخ نور من نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السموات وأهل الاَرض، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين.
يا محمد لو ان عبداً من عبيدي عبدني حتى ينقطع أو يصير كالشن البالي؛ ثم اتاني جاحداً لولايتكم ما غفرت له حتى يقرّ بولايتكم .
يا محمد أتحب أن تراهم ؟ قلت : نعم يارب ، فقال : لي التفت عن يمين العرش، فالتفت فإذا أنا بعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والمهدي، في ضحضاح من نور قياماً يصلّون وهو في وسطهم - يعني المهدي- كأنّه كوكب دري . قال : يا محمد هؤلاء الحجج وهو الثائر من عترتك ، وعزتي وجلالي انه الحجة الواجبة لأوليائي، والمنتقم من أعدائي » (مقتل الحسين للخوارزمي : 95- 96) .
روى الشيخ المفيد رحمه الله بالاِسناد عن زكريا بن يحيى بن النعمان ، قال : سمعت علي بن جعفر بن محمد يحدّث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين ، فقال في حديثه : لقد نصر الله أبا الحسن الرضا عليه السلام لما بغى عليه إخوته وعمومته . . وذكر حديثاً طويلاً حتى انتهى إلى قوله : فقمت وقبضت على يد أبي جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام ، وقلت له : أشهد أنك إمام عند الله ؛ فبكى الرضا عليه السلام ثم قال : « يا عم ، ألم تسمع أبي وهو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بأبي ابن خيرة الاِماء النوبية الطيبة ، يكون من ولده الطريد الشريد ، الموتور بأبيه وجده ، صاحب الغيبة . . . » (الاِرشاد 2 : 275 . وراجع : اصول الكافي 1 : 323 | 14 . وإعلام الورى 2 : 92 . وبحار الاَنوار 50 ) .
وروى الشيخ الصدوق في ( عيون أخبار الرضا ) بسنده عن محمد بن علي بن عبدالصمد الكوفي ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن محمد بن علي ابن موسى ، عن أبيه علي بن موسى ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، قال : « دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أُبيّ بن كعب ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مرحباً أبا عبدالله ، يازين السموات والاَرض . . ثم ذكر حواراً طويلاً مفصّلاً بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أُبي ابن كعب ذكر له النبي أسماء الاَئمة ودعاء كل واحد منهم حتى وصل إلى إمامنا أبي جعفر الجواد عليه السلام ، فقال في صفته : وإنّ الله عزَّ وجلّ ركّب في صلبه ـ أي في صلب الاِمام الرضا عليه السلام ـ نطفة مباركة طيبة رضية مرضية ، وسمّاها محمد بن علي ، فهو شفيع شيعته ، ووارث علم جدّه . له علامة بيّنة ، وحجة ظاهرة ، إذا ولد يقول : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله . . » الخبر (عيون أخبار الرضا 2 : 62 | 29)
نصّ الاِمام الكاظم عليه السلام على إمامة الامام الجواد(ع)
هناك نصّ في رواية طويلة ننقل منها موضع الحاجة ، يرويها يزيد بن سليط الزيدي في لقائه مع الاِمام موسى بن جعفر عليه السلام في طريق مكة ، وهم يريدون العمرة ـ إلى أن قال : ـ . . ثم قال أبو إبراهيم (الامام الكاظم)عليه السلام : « إنّي أؤخذ في هذه السنة ، والاَمر إلى ابني عليّ سمي عليّ وعليّ ، فأما عليّ الاَول فعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وأما عليّ الآخر فعليّ بن الحسين ، أُعطي فهم الاَول وحكمته ، وبصره وودّه ودينه ، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره ، وليس له أن يتكلم إلاّ بعد موت هارون بأربع سنين ، ثم قال : يا يزيد فإذا مررت بهذا الموضع ، ولقيته وستلقاه ، فبشّره أنه سيولد له غلام أمين مأمون مبارك ، وسيعلمك أنّك لقيتني فأخبره عند ذلك أنّ الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من بيت مارية القبطية جارية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن قدرت أن تبلغها منّي السلام فافعل ذلك » .
ثم يرحل الاِمام الكاظم عليه السلام ، ويلتقي يزيد بالاِمام الرضا في نفس ذلك الموضع ويخبره ، ويقصّ عليه الخبر . فيجيبه الاِمام عليه السلام : « أما الجارية فلم تجيء بعد ، فإذا دخلت أبلغتها منك السلام » . قال يزيد : فانطلقنا إلى مكة ، واشتراها في تلك السنة ، فلم تلبث إلاّ قليلاً حتى حملت ، فولدت ذلك الغلام (اُصول الكافي 1 : 313 ـ 319 | 14 . وإعلام الورى 2 : 50) .
الدليل على إمامته في حداثة سنّه عليه السلام
- روى محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله: علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: قال علي بن حسّان لأبي جعفرعليه السلام: يا سيّدي! إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك!؟
فقالعليه السلام: وما ينكرون من ذلك، قول اللّه عزّوجلّ؛ لقد قال اللّه عزّوجلّ لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: «قل هذه سبيلي أدعو إلى اللّه على بصيرة أنا ومن اتّبعني».
فواللّه! ما تبعه إلّا علي عليه السلام وله تسع سنين، وأنا ابن تسع سنين.
- وروى محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن سيف، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، قال: قلت له: إنّهم يقولون في حداثة سنّك!
فقال عليه السلام: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان وهو صبيّ، يرعى الغنم، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل وعلماؤهم.
فأوحى اللّه إلى داودعليه السلام: أن خذ عصا المتكلّمين، وعصا سليمان، واجعلهما في بيت، واختم عليها بخواتيم القوم. فإذا كان من الغد، فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخليفة.
فأخبرهم داودعليه السلام، فقالوا: قد رضينا وسلّمنا.
المأمون والبازي الأشهب
يقول النص التاريخي كما في جلاء العيون ج3 ص106 ويفهم أيضاً من الفصول المهمة لابن لاصباغ ص252 وكذلك سائر المصادر التالية: أن المأمون لم يكن قد رأى الامام الجواد بعد.: «لما طعن الناس في المأمون، بعد وفاة الرضا (عليه السلام) واتهموه، أراد أن يبرئ نفسه من ذلك. فلما أتى من خراسان إلى بغداد، كتب الى الامام الجواد (عليه السلام) إلى المدينة، يستدعي قدومه عليه بالإعزاز والإكرام. فلما ورد بغداد اتفق أن المأمون قبل ملاقاته له (عليه السلام) خرج إلى الصيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه..». وكان ذلك بعد موت الإمام الرضا (عليه السلام) بسنة، فاجتاز المأمون ـ والنص لابن شهرآشوب: «بابن الرضا (عليه السلام)، وهو بين صبيان، فهربوا سواه.
فقال: علي به.
فقال: ما لك لا هربت في جملة الصبيان؟!
فقال: ما لي ذنب فأفر منه، ولا الطريق ضيق فاوسعه عليك، سر حيث شئت.
فقال: من تكون أنت؟!
قال: أنا محمد بن علي، بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب (عليهم السلام)..
فقال: ما تعرف من العلوم؟!
قال: سلني عن أخبار السماوات..
فودعه المأمون ومضى، وعلى يده باز أشهب، يطلب به الصيد..
فلما بعد عنه، نهض عن يده الباز، فنظر يمينه وشماله لم ير صيداً، والباز يثب عن يده، فأرسله، فطار يطلب الأفق، حتى غاب عن ناظره ساعة، ثم عاد إليه، وقد صاد حية(في المصادر الأخرى: أنه صاد سمكة)، فوضع الحية في بيت المطعم..
وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الصبي في هذا اليوم على يدي.. ثم عاد، وابن الرضا في جملة الصبيان.
فقال: ما عندك من أخبار السماوات؟!
وفي نص آخر: «ثم إنه كر راجعاً إلى داره، وترك الصيد في ذلك اليوم» فلما وصل وجد الصبيان على حالهم فانصرفوا كما فعلوا أول مرة، وأبو جعفر لم ينصرف فقال له المأمون: ما في يدي؟ الخ].
فقال: نعم يا أمير المؤمنين، حدثني أبي عن آبائه، عن النبي، عن جبرائيل، عن رب العالمين، أنه قال: بين السماء والهواء بحر عجاج، يتلاطم به الأمواج، فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب، يمتحن به العلماء.
فقال: صدقت، وصدق أبوك، وصدق جدك، وصدق ربك، فأركبه، ثم زوجه أم الفضل».
وفي نص آخر: «تصيدها بزاة الملوك والخلفاء، فيختبرون بها سلالة أهل النبوة» فلما سمع المأمون كلامه عجب منه وأنه قال له: أنت ابن الرضا حقاً، ومن بيت المصطفى صدقاً».
من علوم الامام الجواد (ع)
في التوحيد والصفات الالهية
1- سأل عبدالرحمن بن أبي نجران الامام الجواد (ع) عن التوحيد وقال له : أتوهّم شيئاً ؟
أجابه الاِمام عليه السلام من فوره : « نعم ، غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، لا يشبهه شيء ، ولا تدركه الاَوهام . كيف تُدركه الاَوهام وهو خلاف ما يُعقل ، وخلاف ما يُتصوّر في الاَوهام ؟ إنّما يتوهّم شيء غير معقول ولا محدود » (اُصول الكافي 1 : 82 | 1 باب إطلاق القول بأنه شيء من كتاب التوحيد) .
إنّ وهم الإنسان إنّما يتعلّق بالأمور الخاضعة للوهم والتصوّر أمّا الأمور التي لا تخضع لذلك فإنّه من المستحيل أن يتعلّق بها الوهم والخيال، حسب ما قرّر في علم الفلسفة ، فالله تعالى في ذاته وصفاته لا يصل له الوهم ولا الخيال، لأنّهما إنّما يدركان الأمور الممكنة دون واجب الوجود.
2- ويُسأل الاِمام عليه السلام أيضاً عن الباري تبارك وتعالى أنه يجوز أن يقال له : إنّه شيء ؟
قال : « نعم ، يُخرجه من الحدّين : حدّ التعطيل ، وحدّ التشبيه » (اُصول الكافي 1 : 82 ، وراجع : التوحيد للصدوق : 107) .
والمقصود بـ "حد التعطيل" القول بأنه العقل لا يستطيع معرفة الله، و"حد التشبيه" يعني تشبيه صفات الله سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين ، وكلا الأمرين باطل، لأن العقل يمكنه أن يعرف ربه وخالقه، ويمكنه أن يعلم أن صفاته من السمع والبصر والعلم والحياة وغيرها لا تشبه صفات الانسان وباقي المخلوقات. فالله جل وعلا يمكن ان يقال له شيء ولكن لا كسائر الاشياء المخلوقة التي نعرفها.
3- وفي الكافي أيضاً أن عبدالرحمن بن أبي نجران كتب إلى أبي جعفر عليه السلام أو سأله قائلاً : جعلني الله فداك ، نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأَحد الصمد ؟
فقال : « إنَّ مَن عبد الاِسم دون المسمّى بالأسماء أشرك وكفر وجحد ، ولم يعبد شيئاً ، بل اعبُد الله الواحد الاَحد الصمد المسمّى بهذه الأسماء ، دون الأسماء . إنّ الأسماء صفات وصف بها نفسه » (اُصول الكافي 1 : 87 ، باب المعبود من كتاب التوحيد) .
4- وفي إطار الاَسماء والصفات لله تبارك وتعالى ، يسأله داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري عن معنى الواحد . فيجيبه الاِمام عليه السلام قائلاً : « إجماع الألسن عليه بالوحدانية ، كقوله تعالى : ( ولئن سألتَهُم من خَلَقَهُم ليقولُنَّ الله ) » (اُصول الكافي 1 : 118. والآية من سورة الزخرف : 87) .
5- وروى داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري أنّ رجلاً ناظر الاِمام الجواد عليه السلام في أسماء الله تعالى وصفاته ، فقال : ( كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فسأله رجل فقال : أخبرني عن الربِّ تبارك وتعالى ، له أسماء وصفات في كتابه ؟ وأسماؤه وصفاته هي هو ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام : « إنّ لهذا الكلام وجهين :
إن كنت تقول : هي هو ، أي أنه ذو عدد وكثرة فتعالى الله عن ذلك .
وإن كنت تقول : هذه الصفات والاَسماء لم تزل فإنّ ( لم تزل ) محتمل معنيين :
فإن قلت : لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها ، فنعم .
وإن كنت تقول : لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها ، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره ، بل كان الله ولا خلق ، ثم خلقها- أي الأسماء- وسيلة بينه وبين خلقه يتضرّعون بها إليه ، ويعبدونه وهي ذكره .
وكان الله ولا ذكر ، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل ، والاَسماء والصفات مخلوقات . والمعاني والمعنيُّ بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف وإنّما يختلف ويأتلف المتجزّئ ، فلا يقال : الله مؤتلف ، ولا : الله قليل ، ولا كثير ، ولكنه القديم في ذاته؛ لاَنّ ما سوى الواحد متجزّئ ، والله واحد لا متجزئ ، ولا متوهّم بالقلة والكثرة ، وكلّ متجزئ أو متوهَّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوق دالٌّ على خالقٍ له .
فقولك : ( إنّ الله قدير ) ، خبّرت أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة العجز ، وجعلت العجز سواه . وكذلك قولك : ( عالم ) ، إنّما نفيت بالكلمة الجهل ، وجعلت الجهل سواه . وإذا أفنى الله الاَشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ، ولا يزال من لم يزل عالماً » .
فقال الرجل : فكيف سمّينا ربّنا سميعاً ؟
فقال الاِمام : « لأنّه لا يخفى عليه ما يُدرك بالأسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس ، وكذلك سميناه بصيراً؛ لاَنّه لا يخفى عليه ما يُدرك بالأبصار . من لون أو شخص أو غير ذلك ، ولم نصفه ببصر لحظة العين .
وكذلك سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشيء اللطيف؛ مثل البعوضة وأخفى من ذلك ، وموضع النشوء منها ، والعقل والشهوة للسفاد والحدب على نسلها ، وإقام بعضها على بعض ، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والاَودية والقفار . فعلمنا أنّ خالقها لطيف بلا كيف ، وإنّما الكيفية للمخلوق المكيّف .
وكذلك سمّينا ربّنا قوياً، لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه، ولاحتمل الزيادة ، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وما كان ناقصاً كان غير قديم ، وما كان غير قديم كان عاجزاً .
فربّنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضدّ ، ولا ندّ ، ولا كيف ، ولا نهاية ، ولا تبصار بصر . ومحرّم على القلوب أن تُمثّله ، وعلى الاَوهام أن تحدّه ، وعلى الضمائر أن تكوّنه جلّ وعزّ عن أداة خلقه ، وسمات بريّته ، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً » ) (اُصول الكافي 1 : 116 ، وراجع : التوحيد للصدوق : 193) .
وألمّ كلام الإمام بجوهر التوحيد فأبطل أن تكون أيّة صفة من صفاته تعالى مستلزمة للعدد والكثرة وذلك ما يترتّب عليها من الآثار الفاسدة المستحيلة بالنسبة له تعالى ، فلا حدوث في صفاته ، ولا تجزّئ في ذاته فصفاته عين ذاته ، كما دلّل على ذلك في علم الكلام.
من مناظراته وردوده على الاَحاديث الموضوعة
وفي إطار البحوث العقائدية ردّ الاِمام الجواد عليه السلام على جملة وافية من الاَحاديث الموضوعة في فضائل بعض الصحابة ، التي روّج لها بنو أُمية منذ زمان معاوية بن أبي سفيان ، وصرفوا الاَموال الطائلة في سبيل وضعها ونشرها ، وذلك لبلوغ أهدافهم السياسية والمحافظة على أركان ملكهم واستمرار تسلطهم غير المشروع على الخلافة الاسلامية .
فقد روي أن ابن أكثم ناظر الاِمام أبا جعفر عليه السلام بمحضر المأمون وجماعة كبيرة من أركان دولته وخاصته ، فقال يحيى للاِمام عليه السلام : ما تقول يابن رسول الله في الخبر الذي روي أن جبرائيل نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا محمد إنّ الله يقرؤك السلام ، ويقول لك : سل أبا بكر هل هو راضٍ عني ، فإنّي راضٍ عنه ؟!!!
فقال عليه السلام : « لست بمنكر فضل أبي بكر ، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع : قد كثُرت عليَّ الكذابة وستكثر ، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به . وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال الله تعالى : ( وَلَقَد خَلَقنا الاِنسانَ ونَعلمُ ما توسوِسُ بِهِ نفسُهُ ونحنُ أقربُ إليهِ من حَبلِ الوريدِ ) (سورة ق : 16) فالله عزَّ وجلَّ خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سرّه ؟ ! هذا مستحيل في العقول » .
ثم قال يحيى بن أكثم : وقد روي أنّ مثل أبي بكر وعمر في الاَرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء! .
فقال الاِمام عليه السلام : « وهذا أيضاً يجب أن يُنظر فيه؛ لاَن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقرّبان ، لم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة . وهما - أي أبو بكر وعمر - قد أشركا بالله عزَّ وجلّ ، وإن أسلما بعد الشرك ، وكان أكثر أيامهما في الشرك بالله ، فمحال أن يُشبِّههما بهما . . » .
قال يحيى : وقد روي أنهما سيدا كهول أهل الجنة ، فما تقول فيه ؟!!!
فقال عليه السلام : « وهذا محال أيضاً؛ لاَنّ أهل الجنة كلّهم يكونون شباباً ، ولا يكون فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أُمية لمضادة الخبر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحسن والحسين بأنّهما سيدا شباب أهل الجنة » .
فقال يحيى بن أكثم : وروي أن عمر بن الخطّاب سراج أهل الجنة !!!.
فقال عليه السلام : « وهذا أيضاً محال؛ لاَنّ في الجنة ملائكة الله المقربين ، وآدم ، ومحمداً، وجميع الاَنبياء والمرسلين ، لا تضيء بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر ؟ ! » .
قال يحيى : وروي أنّ السكينة تنطق على لسان عمر !!!.
فقال عليه السلام : « لست بمنكر فضائل عمر ، لكنّ أبا بكر - وأنه أفضل من عمر - قال على رأس المنبر : إنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا ملتُ فسدّدوني » .
فقال يحيى : قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لو لم أُبعث لبُعث عمر!!! .
فقال عليه السلام : « كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : (وإذ أخَذنا من النبيِّينَ ميثاقَهُم ومنكَ ومن نوحٍ ) (سورة الاَحزاب : 7) فقد أخذ الله ميثاق النبيين ، فكيف يمكن أن يستبدل ميثاقه ؟ وكان الأنبياء لم يشركوا طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك ، وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله ؟ ! وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نُبِّئتُ وآدم بين الروح والجسد » .
قال يحيى : وقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما احتبس الوحي عني قط إلاّ ظننته قد نزل على آل الخطّاب!!! .
فقال عليه السلام : « وهذا محال أيضاً؛ لاَنّه لا يجوز أن يشكّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نبوّته ، قال الله تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) (سورة الحج : 75) . فكيف يمكن أن تنتقل النبوّة ممن اصطفاه الله إلى من أشرك به ؟ » .
قال يحيى : روي أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : لو نزل العذاب لما نجى منه إلاّ عمر!!! .
فقال عليه السلام : « وهذا محال أيضاً ، إنّ الله تعالى يقول : ( وَمَا كان الله لِيُعذِّبَهُم وأنتَ فيهم وما كان اللهُ مُعذِّبهُم وهم يستغفرون ) (سورة الاَنفال : 33) فأخبر سبحانه أنه لايعذّب أحداً مادام فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما داموا يستغفرون الله تعالى » .
- روى ابن شعبة الحرّاني رحمه الله: قال المأمون ليحيى بن أكثم: اطرح على أبي جعفر محمد بن الرضاعليهما السلام مسألة تقطعه فيها.
فقال: يا أبا جعفر! ما تقول في رجل نكح امرأةً على زنا أيحلُّ أن يتزوّجها؟
فقال عليه السلام: يدعها حتّى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره، إذ لايؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثاً كما أحدثت معه. ثمّ يتزوّج بها إن أراد، فإنّما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً، ثمّ اشتراها فأكل منها حلالاً.
فانقطع يحيى.
فقال له أبو جعفرعليه السلام: يا أبا محمد! ماتقول في رجل حرمت عليه امرأة بالغداة، وحلّت له ارتفاع النهار، وحرمت عليه نصف النهار، ثمّ حلّت له الظهر، ثمّ حرمت عليه العصر، ثمّ حلّت له المغرب، ثمّ حرمت عليه نصف اللّيل، ثمّ حلّت له الفجر، ثمّ حرمت عليه ارتفاع النهار، ثمّ حلّت له نصف النهار؟
فبقي يحيى والفقهاء بُلساً خرساً.
فقال المأمون: يا أبا جعفر! أعزّك اللّه، بيّن لنا هذا؟
قالعليه السلام: هذا رجل نظر إلى مملوكة لاتحلّ له، اشتراها فحلّت له، ثمّ أعتقها فحرمت عليه، ثمّ تزوّجها فحلّت له. فظاهَرَ منها، فحرمت عليه، فكفّر الظهار فحلّت له، ثمّ طلّقها تطليقة فحرمت عليه، ثمّ راجعها فحلّت له، فارتدّ عن الإسلام فحرمت عليه، فتاب ورجع إلى الإسلام فحلّت له بالنّكاح الأوّل، كما أقرّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نكاح زينب مع أبي العاص بن الربيع حيث أسلم على النكاح الأوّل.
روائع من نور كلماته (ع)
أئمة أهل البيت عليهم السلام هم أزِمّة الحقّ ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق ، إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم يُسبقوا . فهم عيش العلم ، وموت الجهل .
فكما أن كلامهم عليهم السلام ، وكلّ كلامهم نور . . ونطقهم حكمة . . فإنّ إمامنا الجواد عليه السلام ـ وهو أحد أهل البيت النبوي الطاهر ـ له أيضاً كلمات حكيمة ، ومواعظ نورانية ، وآداب إلهية ، والتي هي في مضامينها مناهج عمل ، وبرامج توعية وهداية للسالكين طريق الحق والصلاح .
فمما قاله عليه السلام : « لا تعادِ أحداً حتى تعرف الذي بينه وبين الله تعالى ، فإن كان محسناً فإنه لا يسلمه إليك ، وإن كان مسيئاً فإن علمك به يكفيكه ، فلا تعاده » .
وقال عليه السلام أيضاً : « الثقة بالله تعالى ثمن لكلِّ غالٍ ، وسُلّم إلى كلِّ عالٍ » .
وقال عليه السلام : « من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة » .
وقال عليه السلام : « كيف يضيع من الله كافله ؟ ! وكيف ينجو من الله طالبه ؟ ! ومن انقطع إلى غير الله وكّله الله- تعالى- إليه ، ومن عمل على غير علم أفسد أكثر مما يصلح » .
وقال عليه السلام : « استصلاح الأخيار بإكرامهم ، والأشرار بتأديبهم ، والمودّة قرابة مستفادة » .
وقال عليه السلام : « القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال » .
وقال عليه السلام : « من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدي عن الله عزَّ وجلَّ فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان » .
وقال عليه السلام : « لو كانت السموات والأرض رتقاً على عبد ثم اتقى الله تعالى لجعل منها مخرجاً » .
وقال عليه السلام : « لا تكن ولياً لله في العلانية ، وعدواً له في السرِّ » .
وقال عليه السلام : « من استغنى بالله افتقر الناس إليه ، ومن اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا » .
وقال عليه السلام : « لن يستكمل العبد حقيقة الاِيمان حتى يؤثر دينه على شهوته ، ولن يهلك حتى يؤثر هواه وشهوته على دينه » .
وقال عليه السلام : « عزّ المؤمن غناه عن الناس » .
وقال عليه السلام : « ما عظمت نعمة الله على عبد إلاّ عظمت عليه مؤونة الناس ، فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرّض النعمة للزوال » .
وقال عليه السلام : « موت الاِنسان بالذنوب أكثر من موته بالاَجل ، وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر » .
وقال عليه السلام : « ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله تعالى : كثرة الاستغفار؛ ولين الجانب؛ وكثرة الصدقة . وثلاث من كنّ فيه لم يندم : ترك العجلة ، والمشورة؛ والتوكّل على الله عند العزم » .
وقال عليه السلام : « المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال : توفيق من الله ؛ وواعظ من نفسه ، وقبول ممن ينصحه » .
وقال عليه السلام : « التوبة على أربع دعائم : ندم بالقلب؛ واستغفار باللسان؛ وعمل بالجوارح؛ وعزم أن لا يعود » .
وقال عليه السلام : « أربع من كنّ فيه استكمل الاِيمان : من أعطى لله؛ ومنع في الله؛ وأحب لله؛ وأبغض فيه » .
وقال لبعض الثقات عنده ، وقد أكثر من تقريظه : « أقلل من ذلك ، فإنّ كثرة الملق تهجم على الظنّة ، وإذا حللت من أخيك في الثقة فاعدل عن الملق إلى حسن النية » .
ونقل ابن حمدون في تذكرته عن ربيع الاَبرار ، قوله عليه السلام : « إيّاك والحسد فإنّه يَبين فيك ولا يَبين في عدوّك » .
شهادة الامام محمد الجواد عليه السلام
استدعاء المعتصم :
برحيل المأمون في 13 رجب سنة « 218 هـ » بويع لاَخيه أبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون في شعبان من نفس ذلك العام . ويبدو أن الاَشهر الاَخيرة من تلك السنة كانت حافلة بحدث البيعة للخليفة الجديد ، حيث إنّه لم يكن يومها في بغداد عاصمة الخلافة ، إذ كان خرج مع جيش المأمون لحرب الروم وكان قائداً لاَحد فصائل الجيش .
ولما رجع إلى بغداد في رمضان شغلته الاَشهر الثلاثة الاَخيرة في ترتيب القواد والوزراء وعمّال الولايات ، وبعض الثورات والتحركات المضادة . وما أن استتب له أمر الملك وانقادت البلاد له شرقاً وغرباً ، حتى أخذ يتناهى إلى سمعه بروز نجم الاِمام الجواد عليه السلام ، واستقطابه لجماهير الاُمّة ، وأخذه بزمام المبادرة شيئاً فشيئاً . وتتسارع التقارير إلى الحاكم الجديد بتحرك الاِمام أبي جعفر عليه السلام وسط الاُمّة الاِسلامية فيقرر المعتصم العباسي وبمشورة مستشاريه ووزرائه ، ومنهم ابن أبي دؤاد الاِيادي ، قاضي القضاة المعروف حاله الشخصي ، المبغض لاَهل البيت النبوي عليهم السلام الذي كان يسيطر على المعتصم وقراراته وسياسته ، يقرر المعتصم بكتاب يبعثه إلى واليه على المدينة محمد بن عبدالملك الزيّات في عام « 219 هـ » بحمل الاِمام أبي جعفر الجواد عليه السلام وزوجته أم الفضل بكل إكرام وإجلال وعلى أحسن مركب إلى بغداد .
لم يكن بد من قبل الاِمام عليه السلام من الاستجابة لهذا الاستدعاء ، الذي يُشم منه الاِجبار والاِكراه ، وقد أحسّ الاِمام عليه السلام بأن رحلته هذه هي الأخيرة التي لا عودة بعدها؛ لذلك فقد خلّف ابنه أبا الحسن الثالث (علي الهادي) عليه السلام في المدينة بعد أن اصطحبه معه إلى مكة لاَداء موسم الحجّ ، وأوصى له بوصاياه، وسلّمه مواريث الاِمامة ، وأشهد أصحابه بأنه إمامهم من بعده .
ويواصل الاِمام عليه السلام رحلته إلى المصير المحتوم وقد أخبر أحد أصحابه بأنّه غير عائد من رحلته هذه مرة اُخرى (اُصول الكافي 1 : 323) .
كما روى محمد بن القاسم ، عن أبيه ، وروى غيره أيضاً ، قال : لمّا خرج ـ الاِمام الجواد عليه السلام ـ من المدينة في المرة الاَخيرة ، قال : « ما أطيبك يا طيبة ! فلست بعائد إليك » (الثاقب في المناقب- ابن حمزة الطوسي : 516) ، وبُعيد هذا فقد أخبر الاِمام عليه السلام أصحابه في السنة التي توفي فيها بأنّه راحل عنهم هذا العام . فعن محمد بن الفرج الرخجي ، قال : ( كتب إليَّ أبو جعفر عليه السلام : « احملوا إليَّ الخمس فإنّي لست آخذه منكم سوى عامي هذا » . فقُبض في تلك السنة ) (مناقب آل أبي طالب 4 : 389) .
وأخيراً ينتهي به المسير إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية ، مقرّه ومثواه الاَخير الاَبدي ، ويدخلها لليلتين بقيتا من المحرم من سنة « 220هـ » . وما أن وصل إليها وحطّ فيها رحاله حتى أخذ المعتصم يدبّر ويعمل الحيلة في قتل الاِمام عليه السلام بشكل سرّي؛ ولذلك فقد شكّل مثلثاً لتدبير عملية الاغتيال بكلِّ هدوء
مثلث الاغتيال
على الرغم من تعدد الروايات في كيفية شهادة الاِمام أبي جعفر الجواد عليه السلام ، فإنّ أغلبها يجمع على أن الاِمام اغتيل مسموماً ـ ولو أن البعض توقف في أن يشهد بذلك؛ لعدم ثبوت خبر لديه (راجع الإرشاد 2 : 295 ، والسبب في ذلك أن الشيخ المفيد لا يعمل ولا يأخذ إلاّ بالأخبار المتواترة) ـ وأنّ مثلث الاغتيال قد تمثّل في زوجته أم الفضل زينب بنت المأمون ، وهي المباشر الاَول التي قدّمت للاِمام عنباً مسموماً ، ثم في أخيها جعفر، ويدبّرهم ويساعدهم على هذا الاَمر المعتصم بن هارون .
فقد ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين ومنهم المؤرخ الشهير المسعودي فقال : ( فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبّرون ويعملون الحيلة في قتله ، فقال جعفر لاُخته أم الفضل ـ وكانت لاُمّه وأبيه ـ في ذلك؛ لاَنّه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه لتفضيله أُم أبي الحسن ابنه عليها ، مع شدّة محبتها له؛ ولاَنّها لم ترزق منه ولد ، فأجابت أخاها جعفراً ) (إثبات الوصية : 192 . وراجع : دلائل الإمامة : 395) .
وقال غيره : ( ثم إنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر عليه السلام وأشار إلى ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه؛ لاَنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر عليه السلام وشدة غيرتها عليه؛ لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها؛ ولاَنّه لم يرزق منها ولد ، فأجابته إلى ذلك ) (عيون المعجزات : 132) .
وحان الرحيل
أما كيفية وفاته عليه السلام فإنّه اختُلف فيها أيضاً ، فمن قائل بشهادته مسموماً بعنب رازقي ، ومن قائل بمسموميته في منديل ، وهناك من قال إنّه سُمَّ بشراب ، أو من قال إنّ المعتصم أشار إلى أعوانه بدعوته إلى مأدبة فقُدِّم له طعام مسموم فأكل منه ، ومنهم من صرّح بعدم ثبوت خبر موته بالسم ، وسكت البعض الآخر عن كيفية موته واكتفى بكلمة ( قُبض ) .
ولعلَّ أقدم نصٍّ توفّرنا عليه الخبر الذي أورده العياشي المتوفّى سنة « 320 هـ » في تفسيره .
قال العياشي : العيّاشي رحمه الله: عن زرقان صاحب ابن أبي دؤاد ... إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة [المعتصم] تطهيره بإقامة الحدّ عليه. فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمد بن علي عليهما السلام. فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع؟
قال: فقلت: من الكرسوع ... .
فالتفت إلى محمد بن علي عليهما السلام، فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر!؟
فقال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين!
قال: دعني ممّا تكلّموا به، أيّ شيء عندك؟
قال: اعفني عن هذا، يا أمير المؤمنين!
قال: أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه؟
فقال عليه السلام: أما إذا أقسمت عليّ باللّه، إنّي أقول: إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكفّ.
قال: وما الحجّة في ذلك؟
قال: قول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين. فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها. وقال اللّه تبارك وتعالى: «وأنّ المساجد للّه». يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، «فلا تدعوا مع اللّه أحداً». وما كان للّه لم يقطع.
قال: فأعجب المعتصم ذلك، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.
قال زرقان : إنّ ابن أبي دؤاد قال : صرت إلى المعتصم بعد ثلاثة ، فقلت : إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة ، وأنا أكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار .
قال : وما هو ؟
قلت : إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لاَمر واقع من اُمور الدين ، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك ، وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه ، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ، ثم يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه الاُمّة بإمامته ، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء !!
قال : فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له ، وقال : جزاك الله عن نصيحتك خيراً ، قال : فأمر ( المعتصم ) يوم الرابع فلاناً من كتّاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله ، فدعاه . فأبى أن يجيبه وقال : « قد علمت أني لا أحضر مجالسكم » . فقال : إنّي إنّما أدعوك إلى الطعام ، وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ، فقد أحب فلان بن فلان ( من وزراء الخليفة ) لقاءك .
فصار إليه ، فلما أُطعم منها أحسَّ السم ، فدعا بدابته ، فسأله ربّ المنزل أن يُقيم ، قال: « خروجي من دارك خير لك » . فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفة حتى قُبض عليه السلام ) (تفسير العياشي 1 : 320 | 109) .
وفي موضع آخر ذكر أن مثلث الاغتيال ( المعتصم وجعفر وأم الفضل ) كانوا قد تشاوروا وتعاونوا على قتل الاِمام والتخلّص منه بعد قدومه إلى بغداد ، بل ما استدعي إلاّ للغرض ذاته . فقال : ( . . وجعلوا ـ المعتصم بن هارون وجعفر بن المأمون وأخته أم الفضل ـ سمّاً في شيء من عنب رازقي وكان يعجبه العنب الرازقي ، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي . فقال لها : « ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر ، وبلاء لا ينستر » ، فبليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناسوراً ينتقض عليها في كلِّ وقت . فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة حتى احتاجت إلى رفد الناس .
وتردّى جعفر في بئر فأُخرج ميتاً ، وكان سكراناً .
ولما حضرت الاِمام عليه السلام الوفاة نصّ على أبي الحسن وأوصى إليه ، وكان قد سلّم المواريث والسلاح إليه بالمدينة ) (دلائل الإمامة : 395 . وعيون المعجزات : 131) .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والعاقبة للمتقين.