عبقات.. من الأنوار الرضويّة (4)
•
عن معمَّر بن خلاّد قال: سمعتُ أبا الحسن ( الرضا ) عليه السلام يقول: «
مَن أكل في منزله طعاماً فسقط منه شيءٌ فَلْيتَناوَلْه، ومَن أكل في
الصحراء أو خارجاً فَلْيَترُكْه للطير والسَّبُع » ( الكافي 300:6 ـ 301 /
ح 8 ـ باب أكل ما يسقط من الخوان ).
قراءة بسيطة لهذا الحديث المبارك يستفيد منها المرء معانيَ كريمة وكثيرة،
لعلّ أوضحها: أنّ الإسلام لم يترك أمراً، مهما كان صغيراً وبسيطاً، إلاّ
وأدلى فيه برأيٍ وتوجيه وإرشاد وتنبيه وموعظة حكيمة، فأن يأكل الإنسان ـ
مثلاً ـ طعاماً فيسقط من يده أو فمه ذرّات، أو بقيت من طعامه كُسَيرات،
يكون لها حكمان:ـ
الأوّل ـ
إذا كان ما سقط في المنزل فإنّه سيتعرّض إلى السحق والإهانة، وربّما ورّث
جرثوماً مُضِرّاً أو جذب إليه حشراتٍ مؤذيات، فالأَولى أن يُؤكَل احتراماً
وشكراً للنعمة وتخلّصاً من البطر والاستنكاف.
والثاني ـ
إذا كان ما سقط في صحراء، أو في مكانٍ بعيدٍ عن الأرجل والمرور، فإنّ
المؤمن يفكّر بالحيوانات الواردة على ذلك المكان، لعلّها تجد شيئاً تلتقطه
لها ولفراخها، فالمستحبّ له أن يترك ما سقط إذ هو بعيدٌ عن الإهانة، وهو
تقديم لحواصل جائعة. بينما المستحبّ في الحالة الأولى إكرام ما سقط
والتحرّز عن أن تطأه الأقدام.
ثمّ إنّ المعاني الكريمة في هذا الحديث الرضويّ المبارك، أنّ المؤمن لا
يفكّر فقط بنفسه وإملاء معدته، فهو ذو نفس تشتهي، وهنالك أنفس تشتهي ولكنها
حيوانيّة تبحث عن فضلات إن وجَدَتها أو سخا بها عليها إنسان. فمَن تحلّى
بالكرم ودعاه ضميره إلى الرفق بالحيوان والتفكير بتقديم شيءٍ ولو بسيط له،
لابدّ أن يدعوه ضميره أيضاً إلى العطف على البشر من بني جنسه، والتفكير
بتقديم ما يسدّون به جَوعتهم.. وتلك حالةٌ إنسانيّة فاضلة.
روى الخوارزمي الحنفي في ( مقتل الحسين عليه السلام 153:1 ) عن الحسن
البصري أنّ الإمام الحسين كان سيّداً زاهداً ورعاً صالحاً ناصحاً حسَنَ
الخُلق، فذهب ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه، وكان في ذلك البستان غلامٌ له
اسمه ( صافي )، فلمّا قَرُبَ من البستان رأى الغلامَ قاعداً يأكل خبزاً،
فنظر الحسين إليه وجلس عند نخلةٍ مستتراً لا يراه، وكان الغلام يرفع الرغيف
فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر، فتعجّب الحسين من فعل الغلام،
فلمّا فرغ الغلام من أكله قال: الحمدُ لله ربِّ العالمين، اللهمّ اغفر لي
واغفر لسيّدي، وبارك له كما باركتَ على أبَوَيه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
فقام الحسين عليه السلام وقال: يا صافي. فقام الغلام فَزِعاً وقال: يا
سيّدي وسيّدَ المؤمنين، إنّي ما رأيتك، فاعفُ عنّي. فقال له الحسين عليه
السلام: اجعَلْني في حِلٍّ يا صافي؛ لأنّي دخلتُ بستانك بغير إذنك، فقال
صافي: بفضلك ـ يا سيّدي ـ وكرمك وبسؤددك تقول هذا، فقال الحسين: رأيتُك
ترمي بنصف الرغيف للكلب وتأكل النصف الآخَر، فما معنى ذلك ؟ فقال الغلام:
إنّ هذا الكلب ينظر إليّ حين آكل، فأستَحْيي منه يا سيّدي لنظره إليّ، وهذا
كلبك يحرس بستانك من الأعداء، فأنا عبدك، وهذا كلبك، فأكَلْنا رزقَك معاً.
فبكى الحسين وقال: أنت عتيق الله، وقد وهبتُ لك ألفَي دينارٍ بطيبةٍ من
قلبي، فقال: إن أعتَقتَني فأنا أريد القيام ببستانك، فقال الحسين عليه
السلام: إنّ الرجل إذا تكلّم بكلام فينبغي أن يصدّقه بالفعل، فأنا قد قلت:
دخلتُ بستانك بغير إذنك، فصدّقتُ قولي ووهبتُ البستان وما فيه لك، غير أنّ
أصحابي هؤلاءِ جاؤوا لأكل الثمار والرطب، فاجعَلْهم أضيافاً لك، وأكرِمهم
مِن أجْلي أكرمَك اللهُ يومَ القيامة، وبارك لك في حُسن خُلقك وأدبك، فقال
الغلام: إن وهبتَ لي بستانك فأنا قد سبّلتُه لصحابك وشيعتك.
• ومن نصيحةٍ للإمام الرضا عليه السلام قال: «
أحسِنُوا جِوار النِّعم؛ فإنّها وحشية، ما نأت عن قومٍ فعادت إليهم » ( تحف
العقول:330 ).
نعم، هكذا النعم، تطلب حُسنَ الجوار، وحسنُ الجوار هو حسن التعامل وحسن
المعاشرة، فلا تُهان ولا تُستخفّ، ولا تُنسى فلا تشكر، ولا يُغالَطُ فيها
فتُنسبَ إلى المُنعَم عليه لا المُنعِم بها.. ثمّ لا ينبغي أن تُبذَّر، أو
تُقتَّر، أو تُنفَق في موارد المعصية، ولا تستخدم في الحقوق والطاعات
والمبرّات، أو لا يُشرَك فيها الأهل والأقربون، والمساكين والمحرومون،
والمضطرّون والمحتاجون.
فإذا كان هذا من العبد اطمأنّت النعم بالسُّكنى إليه وربّما فاضت عليه
كثرةً وزيادة، وعادت عليه بالبركات والثوابات، ودفعت عنه بلايا. وإلاّ فإنّ
هذه النعم وحشيّةٌ لا تطيق الحبس مع الإيذاء، ثمّ إذا ظُلِمَت نَفَرت، وإذا
نفرت فرّت، وإذا فرّت غابت.. فلا تعود كما كانت، وتلك كلمة رسول الله صلّى
الله عليه وآله في وصيّةٍ سبقت: « أحسِنوا مجاورةَ النِّعم، لا تُملّوها،
ولا تُنفّروها؛ فإنّها قَلمّا نفَرَت مِن قومٍ فعادت إليهم » ( كنز
الفوائد، للكراجكي 162:2 )، وكلمة أمير المؤمنين عليه السلام: « أحسنوا
صحبة النِّعم قبل فراقها؛ فإنّها تزول وتشهد على صاحبها بما عَمِل فيها » (
علل الشرائع، للشيخ الصدوق:464 / ح 12 )، وكلمة الإمام الصادق عليه السلام:
« أحسِنوا جِوار النِّعم، واحذرا أن تنتقل عنكم إلى غيركم، أما إنّها لم
تنتقل عن أحدٍ قطُّ فكادت أن تَرجِعَ إليه » ( أمالي الطوسي:246 / ح 431 )،
وكلمة الإمام عليّ الهادي عليه السلام: « ألقُوا النّعمَ بِحُسن مجاورتها،
والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها » ( إعلام الدين في صفات المؤمنين،
للديلمي:312 )، وكلمة الإمام عليّ عليه السلام كذلك: « إحذَروا نِفارَ
النِّعَم؛ فما كلُّ شاردٍ بمردود » ( نهج البلاغة: الحكمة:246 ).
نرجو الله جلّ وعلا أن يديم علينا نِعمَه المعنويّة والماديّة، والدنيويّة
والأخرويّة، وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات، إنّه أكرم الأكرمين.
• وجاء عنه سلام الله عليه قوله: « إذا جار السلطان
هانتِ الدولة » ( وسائل الشيعة، للشيخ الحرّ العاملي 17:6 ).
الحُكم، إنّما يقوم على العدل والإحسان، ويدوم إذا كان بين الحاكم والرعيّة
محبّةٌ وتواصل، وأدّى كلٌّ وظيفته ونهض بواجبه، وأعطى للآخرين حقوقهم.
والحاكم، مِن موقعه الحساس، أخطر ما يقع فيه: البغي والتجاوز على ممتلكات
الأمّة وحقوقها وحرماتها، فإذا سقط في هذه الأوحال، واستثمر منصبه لمصالحه
الشخصيّة ومصالح ذويه وحاشيته، طمع فيه المنافقون والمبتزّون، ونفر عنه
العاملون المخلصون، وبَعُدت الشُّقّة بينه وبين الناس، وبذلك آلت الدولة
إلى الانهيار؛ داخليّاً وخارجيّاً، وسطَ البلاد وأطرافها وحدودها، وربّما
طمع العدوّ بين أفراد الأمّة أو مِن جوارها، أن يستعمرها ويستثمرها لصالحه،
أو يحتلّ أرضها ومواردها!
هذا هو جور السلطان، وتلك بعض آثار ذلك الجور في الدنيا، إذ سرعان ما يزول
الحكم ذليلاً، أو قتيلاً.. أمّا في الآخرة فيُخبرنا عن ذلك المصير رسولُ
الله صلّى الله عليه وآله في كلمتين:
الأولى ـ
قوله: « أوّلُ مَن يَدخل النارَ أميرٌ متسلِّطٌ لم يَعدِل، وذو ثروةٍ من
المال لم يُعطِ المالَ حقَّه، وفقيرٌ فخور » ( بحار الأنوار 341:75 / ح 22
ـ عن: عيون أخبار الرضا عليه السلام 28:2 / ح 20 ).
الثانية ـ
سأله أمير المؤمنين عليه السلام: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، ما منزلة
أميرٍ جائرٍ مُعتدٍ لم يصلح لرعيّته، ولم يقم فيهم بأمر الله تعالى ؟
فأجابه صلّى الله عليه وآله قائلاً: « هو رابع أربعةٍ مِن أشدّ الناس
عذاباً يوم القيامة: إبليس، وفرعون، وقاتل النفس، ورابعهم الأمير الجائر »
( بحار الأنوار 366:76 ـ 367 / ح 30 ـ عن: ثواب الأعمال وعقاب الأعمال
للشيخ الصدوق:287 ).
• عن الحسن بن الجهم قال: سألت أبا الحسن ( الرضا )
عليه السلام عن شيءٍ من الفَرَج، فقال: « أوَلستَ تعلم أنّ انتظار الفَرَج
مِن الفَرَج ؟! »، قلت: لا أدري إلاّ أن تُعلّمني، فقال: « نعم، إنتظار
الفرج من الفرج » ( بحار الأنوار 130:52 ـ 131 ، ح 29 ـ عن كتاب: الغَيبة
للشيخ الطوسي:276 ).
ومن قبل ذلك نُقل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله: « أفضلُ أعمال
أمّتي انتظارُ فَرَجِ الله عزّوجلّ » ( بحار الأنوار 122:52 / ح 2 ـ عن:
عيون أخبار الرضا عليه السلام 36:2 / ح 87 ـ الباب 31 ). ذلك لأن الانتظار
يعني أموراً عديدة، منها: التصديق بوجود الإمام الحجّة المهدي المنتظر عجّل
الله تعالى فرَجَه الشريف، وبظهوره عجّل الله تعالى ظهوره، وكذلك الانتظار
يعني عقد الأمل والرجاء بالله تبارك وتعالى، وأنّ يوماً سيأتي يعمّ فيه
الأمان، وتُقشع فيه الظلمات عن سماء الرحمة والنور.
نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام