في أيّام إمامة الرضا عليه السلام
بقلم: سماحة الشيخ أحمد عبدالأمير قبلان ـ المفتي الجعفري في لبنان
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا ونبيِّنا مُحَمَّد، وعلى
آله الطيّبين الطاهرين.
كلُّ مُتَتبّع بعُمقٍ واختبار، لعلِم الإمامة مِن اعتمادة الفريقين، سيجد
قطعاً، أنَّ الحديثَ حول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، هو عَيْنُ
الحديث حول الإمامة التي أقرَّها القرآن (منها قوله تعالى: وإِذ
ابتَلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمَّهُنَّ قالَ إنّي جاعِلُك لِلنَّاسِ
إماماً قالَ ومن ذُريتي (
البقرة:124 )، والخبرُ النَّبويُّ تواتُراً، ودون خلافٍ بين العامَّة
والخاصّة في أصلها. حتّى أنّ أحمد بن حنبل خرَّجها في مسنده، على أربع
وثلاثين طريقاً، فضلاً عَمَّا قالته الصحاح والمسانيد بأقصى تواتُرها، مِن
ضرورتها في الإسلام.
ومع حديث الثقلين، والسفينة المحمديَّة، وأمثالهما، والتي تواتَر شرطُها
باعتمادة الفريقين، أطبقت الأمَّةُ على أنّ الخصوصيَّة المحمديَّة شرطٌ على
بابيَّة الطاعة، ولزوم الجماعة، وإثبات الهداية، وهذا ما حكاه الله تعالى
في مُحكم آياتِه من قوله تعالى: قُل
لا أسألكُمْ عليهِ أجراً إلاَّ المودَّةَ في القربى
(
الشورى:23 ). وبذلك، شَغَلَ اللهُ ذمَّةَ الأمّة بضرورة الانقياد لآل
محمَّد عليهم السلام، بسعة ما تعنيه المودَّةُ مِن انقيادٍ ولزوم وطاعة.
على أنّ المتون والأخبار خرجت من سعة مواطنها، وبحدٍّ أكَّدَ ذياعةَ
الضرورة النَّبويَّة بالإمامة المحمديَّة، فقالته مِن طوائف لا حدَّ لسعتها
وحمليَّاتها، وشرطها ومشيخاتها، والتي منها طائفة الظِّلال ( كتاب الغيبة:
محمد بن إبراهيم النعماني، ص 94 ـ 95 ) وهي الأنوار المحدقة بالعرش، وقد
خرَّجها الفريقان، وكذا ما في طائفة أخذ الميثاق ( الكافي: الشيخ الكليني،
ج 1 / ص 413 )، وطائفة اللوح ( الإمامة والتبصرة: ابن بابويه القمّي، ص 103
ـ 104 ) الذي فيه أسماء الأئمَّة والذي اختصَّ اللهُ به فاطمةَ الزهراء
عليها السلام.
على أنّ العامّة ترجمت للإمام الرضا عليه السلام، فأقرَّت، أنَّه كان عيناً
في الأمَّة، فارقاً فيها، ورأسَ أهل البيت في زمانه، وفي ذلك مقالات طوال،
فمنها ما خرَّجه ابن ماكولا في ( إكماله ) مِن قوله: أبو الحسن عليّ بن
موسى الرِّضا، كان من أعيان أهل بيته علماً وفضلاً ( إكمال الكمال: ابن
ماكولا، ج 4 / ص 72 ـ 75 ).
وهو يريد بذلك، عينيَّتَه في بيتٍ كان عينَ الأمَّة.
وفي أعلام خير الدِّين الزركلي قال: « عليّ بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق،
أبو الحسن، الملقَّب بالرِّضا: ثامن الأئمَّة الاثني عشر عند الإماميَّة،
ومِن أجلاّء سادة أهل البيت وفضلائهم » ( الأعلام: خير الدين الزركلي، ج 5
/ ص 26 ).
وتَتَبَّع لها ابن كثير، رغمَ شدَّة منعه الفضلَ في آل محمَّد عليهم
السلام، فأقرَّه على العين بتمام الصفة في علوِّ الشأن والخصوصيَّة (
البداية والنهاية: ابن كثير، ج 10 / ص 272 ـ 276 ). وفي موطن آخر، تقصَّى
بمشيخته أنّ معقد الإمرة العباسيّة المتمثّل بالمأمون، صرَّح بأنَّ عليَّ
الرضا هو خيرُ أهل البيت، وليس في بني العباس مثله في علمه ودِينه( البداية
والنهاية: ابن كثير، ج 10 / ص 268 ـ 272 ). وفي ( كامل ) ابن الأثير أثبته
بالذكر على الشرف المخصوص ( الكامل في التاريخ: ابن الأثير، ج 6 / ص 343 ـ
351 )، وفي ( معارف ) ابن قتيبة أقرَّ بأنّ المأمون لم يجد أفضل من علي
الرضا، فقدّمه بالفضل، وميّزه على الخلق ( المعارف: ابن قتيبة، ص 388 ـ 395
).
وضبطَ عليه الخطيب البغدادي استعظام المأمون للرضا عليه السلام فلم يتركه
حتى بايع له ( تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، ج 10 / ص 181 ـ 185 ).
على أنّ المؤرَّخة باختلاف مشاربها ظَلَّت تُكرِّر بأنَّ البيت العلوي
المتمثّل بأعيانه المشهورين، بدءاً بالإمام علي، ثمَّ بالحسن والحسين، وعلي
بن الحسين، وصولاً إلى الإمام علي بن موسى الرّضا، وانتهاءً بالمهدي القائم
عليهم السلام، ظلَّ يشكّل عمدة من ينتصرون بالقرآن والأخبار النبويَّة على
إمامتهم، وضرورتها من الهداية، ومحلّها من البابيَّة على الله تعالى.
وأنَّ هذا الأمر شكَل كارثة لا حدَّ لها على السقيفة، ثمَّ على الدولة
الأمويَّة، وأنّ الدولة العباسيّة لم يكن لها أن تقوم لولا أنَّ دعاتها
تستَّروا بالدَّعوة إلى الرّضا مِن آل محمَّد، أي إلى الإمام الفعلي من
البيت العلوي. ومع قيام الدولة العباسية وجدوا أن بقاء ملكهم الدنيوي
يتوقَّف على حجب البيت العلوي، بسبب انعقاد الأمَّة على ضرورة البيت العلوي
في مركز الخلافة، وهو ما ذاعت أخباره وتواترت آثاره في السّمع واللسان.
مِن هنا نجد أنَّ الدولة العباسيّة التي شكلت زمن هارون الرشيد قطب النظام
الدولي، وأكبرَ وأهمَّ إمبراطوريّة عالميّة برقعةٍ شملت العالم القديم الذي
يتشكل من قارة آسيا وأفريقيا وأوروبا.. نجد هذه الدولة كيف عاشت أزمة
شرعيَّتها إلى درجة أنَّ هارون الرشيد حينما سئل عما يؤرقه قال: موسى بن
جعفر!! فقيل: إنَّما هو في المطامير! أي في قعر السجون! فقال: أما تَرَون
أنَّ أهل هذا البيت يملكون قلوب هذا الخلق!!
وهو ما كان أشار إليه موسى بن جعفر عليه السلام من سجنه، في ردِّهِ على
رسالة هارون الرشيد، حينما قال له: إنَّما أنا إمام الناس، فردَّ عليه
الإمام الكاظم عليه السلام بأنَّك إمام الأجساد، أمَّا نحن أهلَ البيت
فأئمَّةُ القلوب.
وهذا ما شكَّل أزمة شرعيَّة ظلَّت تضرب جذع الدوَّلة العباسيَّة، ما دفع
المأمونَ إلى أن يفرض على الإمام الرضا عليه السلام ولاية العهد، ليشكّل
ساتراً الشرعيّته، ثم ليتقوَّى به على البيت العبّاسي الذي انقسم إلى
فريقين، ما بين الأمين والمأمون، وانتهى بغلبةٍ للمأمون. ومع انتصار مرو
على بغداد، عاش المأمون أزمةَ طلب وجوه الأمّة في كلّ من مرو وبغداد وصولاً
إلى الآفاق، إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، وهو ما شكَّل
مادَّة الأرق الذي سيطر على المأمون، فأعتمد أشكالاً وصوراً كثيرة جدّاً
حاولها المأمون مع أعوانه، كجزء من مكرٍ وخداع لإضعاف أمر الإمام الرضا
عليه السلام وصولاً إلى طلب الإعجاز على يده، فإذا بالإمام الرضا يتحول إلى
معجزةٍ طار صيتها في العالم الإسلامي على سعته.
ومعها بدأ المأمون يفكّر بالخلاص من الإمام الرضا عبر قتله، وذلك بعد أن
سار من مرو طالباً التمركز في بغداد.
وحتى تتَّضح لك صورة هذه الشخصيَّة العظمى التي حطَّمت المقاييس، يكفي
أنَّه لما طلبه المأمون جبراً من المدينة المنوَّرة إلى مرو وسط عسكرٍ
جرَّار، أنّ نلاحظ سيل الخلق الذين كانوا يرابطون الطرق بمجرَّد أن يسمعوا
بأنَّ الإمام الرضا سيمرُّ في بلادهم.
ولنا في ذلك أمثلة كثيرة بالشرطين، ومن أشهرها، ما تتبعته المشيخات من
وقفته في نيسابور، وكيف أن الناس انهالت عليه من كل حدبٍ وصوب، حتى أثبت
الحافظ ابن عساكر من عينيَّة أبي الصلت أنَّ الناس والحفظة تعلقوا بلجام
ناقته، وفيهم ياسين بن النضر ( تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، ج 48 / ص 366
ـ 367 )، وكذا قاله المتقي الهندي في (كنز العمال ج 1 / ص 296 ـ 298 )،
وغيرُه من أهل التَّأرخة.
وفي ( ينابيع المودَّة ) ضبطَه القندوزي الحنفي بطائفةٍ من السمع عن أبي
الصلت، فذكر الخلقَ الذي اجتمعوا، وفيهم: أحمد بن الحرب، ويحيى بن يحيى،
وإسحاق بن راهَوَيه، وجمعٌ من أهل العلم. ثمَّ قال: « وقد تعلّقُوا بلجام
بغلته فقالوا: يا ابنَ رسول الله، بحقِّ آبائك الطاهرين، حدِّثْنا بحديثٍ
سمعتَه عن أبيك عن آبائه رضي الله عنهم. قال الراوي: فأخرج رأسَه الشَّريف
من مظلَّته وقال: « لقد حدَّثني أبي موسى، عن أبيه جعفر، عن أبيه محمَّد،
عن أبيه علي، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، عن
رسول الله صلّى الله عليه وآله أنَّه قال: سمعت جبرائيل يقول: سمعتُ الله
جلَّ جلاله يقول: إنّي أنا اللهُ لا إله إلاّ أنا فاعبدوني، من جاء بشهادة
أن لا إله إلا الله بالإخلاص دخلَ حصني، فمَن حصني دخل حصني أمِنَ مِن
عذابي ».
قال: فلما مرَّت الراحلة نادانا: « إلاّ بشروطها، وأنا من شروطها ». قيل:
من شروطها الإقرار بأنَّه إمام مفترض الطاعة ( ينابيع المودة لذوي القربى:
القندوزي، ج 3 / ص 164 ـ 171 )، وكذا قاله غيره من أهل الحديث والتاريخ.
على أنَّ هذه الحادثة كانت قبل ولاية العهد، ما يؤكّد زعامة الإمام وإطباقه
على قلوب أهل العلم والرعية من أهل الدين.
وبهذا وغيره تتأكَّد إطباقات المتون الاتفاقية التي ظلت تُكرّر إمامةَ أهل
البيت عليهم السلام وزعامتها، وخوفَ الدُّول من إمامتهم التي أبطلت كل
إمامة، وغلَّقت الأبواب على السقيفة والدولة الأمويَّة والعباسيَّة، وما
زالت. وقد سُجِّل للإمام الرضا عليه السلام أنَّ فقهاء عصره، باختلاف
مذاهبهم، كانوا يطلبونه من أنحاء البلاد ليستمعوا منه، فإذا ما سمعوا
قالوا: « اللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَه »، وأنّ أصحاب الدِّيانات والملل
اجتمعوا عليه بمرو من كل ناحيةٍ وصوب، وبطلبٍ من المأمون، ليوقع بالإمام
عليه السلام، ويحطَّ من شأنه أمام الخلق، فإذا به يستشهد على رؤساء الأديان
بأسرارٍ ضبطَها عليهم من متونهم، وشهاداتهم، وخفيِّ سمعهم، وإقرارتهم، فطار
صيتُه في الآفاق، وتحوَّل إلى آية، ونجمَ اسمهُ في ذياعة الأمم، وقد
أقرَّته المشيختان من العامَّة والخاصَّة. واتفقوا بتمام الشرطين أيضاً،
على أنَّ مرو وبغداد دانتا له: علماً وفضلاً واتقياداً، وأنَّ هذا الأمر
آثارَ المأمون بقوَّةٍ، حتى دفعه إلى قتله خشيةً على سلطانه!
وكرَّر الحفَظَة أن عصر الإمام الرضا عليه السلام، زخَّ الحديثَ النبوي
بطوائف لا حدَّ لها، وساهم بتوطيد ولاء القلوب والانقياد لأهل البيت عليهم
السلام. وبذلك تَوالَت الحجَّةُ على الخلق، واتَّسعت رقعةُ المدارس التي
تُنادي بالإمام الرضا عيناً على الأبد، ومحجَّةً إلى الله، نزولاً منهم على
البابيَّة المقرونة عليه.. ومن دون ولاية العهد، أكدت المتون، بإجماع قلمها
وإطباق سمعها، على أنَّ فقه الوجود وفلسفةَ الطاعة، وطموحات الاستخلاف، لم
يكن لها من إمام إلاَّ ابن علي وفاطمة، المسمى بعليّ بن موسى الرضا، فسلام
الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يُبعث، وعرّفَ الله بينا وبينهم
عليهم السلام، وثبتنا على أمرهم وهُداهم، وحشرنا معهم، وعجَّل الله فرجهم،
وجعلنا من أنصارهم وأعوانهم، والذابين عنهم والمستشهدين بين أيديهم،
بمحمَّدٍ وآله الطيبين الطاهرين.