لوعة الوداع
أحد المواقع
قد يتوهّم البعض بأنّ الإمام الرضا (عليه السّلام) عاش حياة مستقرّة آمنة ، ولا سيّما أنّه أمضى السنوات الأخيرة من عمره في البلاط العباسي ، فكان في مأمن من ملاحقة السلطة ، بل في موقع الزّعامة حيث بويع بولاية العهد ، فكان الرجل الثاني في دولة واسعة مترامية الأطراف ، ولم يكن هناك ما يخشاه.
ولكنّ الحقيقة أمر آخر غير هذا الظاهر، فإنّ أقسى السنوات التي مرّت عليه
هي السنوات الأخيرة من عمره ، وعاش في حصار قد فرض عليه لم يستطع الخلاص
منه ، حتى قيل: إنّ الإمام
الرضا (عليه السّلام) كان أكثر الأئمة (عليهم السّلام) عملاً بالتقيّة ،
لشدّة ما عاناه من سلطة بني العباس .
إنّ ما فعله هارون الرشيد وأسلافه من قبله بالعلويين من القهر والبطش والإبادة والتشريد ، وما تمخّض عن ذلك من الثورات العلوية في أطراف البلاد ، ومن النقمة العامّة على الحكم العباسي حتى قال أحد الشعراء:
يا ليت ظلم بني مروان دام لنا وكان عدل بني العباس في النار
كما أنّ الصراع الدامي بين المأمون وأخيه الأمين الذي أسفر عن مقتل الأخير، وانتقال إدارة الحكم من بغداد العاصمة العباّسيّة إلى منطقة أخرى ، واعتماد المأمون على الفرس دون العرب في إدارة شؤون الحكم ، الذي أثار نقمة العباسيين وغضبهم عليه ، مضافاً إلى شعوره بالنقص لكونه ابن أمَة فارسيّة وغير ذلك من الأمور جعلت من المأمون ابن الرشيد ـ وكان ذا نباهة وفطنة وحنكة ودهاء ـ أن يتنبّه ويتخذ سياسة جديدة تخالف في ظاهرها سياسة سلفه ، يخمد بها غضب الناقمين ، ويحتوي تلك الحركات المناوئة ، ويحقّق لحكومته استقراراً سياسياً ، ويضمن لسلطته قوّة تحميه من العباسيين ، فيما لو فكّروا في مناهضته كما يحقّق أغراضاً أخرى ، ليتمتّع بسلطة لا يشعر معها باضطراب ، كما كان آباؤه يشعرون بذلك ، وكان الموقف يتطلّب منه جرأة في اتخاذ القرار، وحزماً في تنفيذه، ومضيّاً في عزمه.
وأوّل إجراء اتخذه بعد أن قضى على أخيه الأمين أنّه أظهر ميله للعلويين ، وكانت هذه البادرة غريبة لم تعهد من حاكم عباسي ، الأمر الذي أثار التوجّس عند سائر بني العباس ، ودفعهم إلى الاعتراض ، بل إعلانه ، ولم يدركوا أنّ المأمون يسعى بذلك لتوطيد الحكم وتثبيته عن طريق هذا الإجراء ، كما أنّ فيه توجيه تحذير خفي إلى العباسيين ، ومضمونها أنّ هناك من يعتمد عليهم ويستند إليهم ، فيما إذا تخلّوا عنه ، أو فكّروا في القيام بعمل مضادّ.
ثمّ أعقب المأمون ذلك برغبته في استقدام الإمام (عليه السّلام) من المدينة إلى عاصمة الدولة ، وقد بعث إليه رجاء بن أبي الضحّاك لحمل الإمام (عليه السّلام) وحدّد له طريق المسير بأن يكون على طريق البصرة والأهواز ولا يمرّ به على الكوفة ، وفي ذلك غرض أخفاه المأمون ولم يفصح عنه ما كشفت عنه الأبحاث التاريخية التحليلية ، وأشارت إلى الأسباب والأهداف من وراء استقدام الإمام (عليه السّلام) من المدينة إلى مرو ، ومنها الخوف من الرضا (عليه السّلام) لشياع أمره في الحرمين ، وانتشار ذكره وإقبال الناس عليه ، وغيرها من الأمور التي جعلت المأمون يتخذ قراراً حاسماً في الحدّ من هذا الانتشار، وليكون الإمام (عليه السّلام) تحت رقابة مفروضة صارمة لا يمكنه الإفلات منها وليتسنّى للمأمون أن ينفذ خططه السياسية المبيّتة.
حتى إذا وصل الإمام (عليه السّلام) إلى مرو عاصمة المأمون وأظهر العناية والاحتفاء به واستقرّ به المقام ، عرض المأمون على الإمام أمر الخلافة ، فأباها الإمام (عليه السّلام) أشدّ الإباء ، وكان الإمام (عليه السّلام) على بصيرة بما يخطّط له المأمون ، وإذا كان الإمام (عليه السّلام) قد أبى الخلافة فإنّه لم يكن له بدّ من قبول ولاية العهد ، وقد كشف الإمام (عليه السّلام) سرّ قبوله لها في حديثه مع الرّيان ابن الصّلت الذي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا (عليهما السّلام)، فقلت له : يا بن رسول الله يقولون : إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا ، فقال (عليه السّلام) : (قد علم الله كراهتي لذلك ، فلمّا خيرت بين قبول ذلك وبين القتل ، اخترت القبول على القتل).
وممّا يدلّ على علم الإمام (عليه السّلام) بألاعيب المأمون ومخطّطاته ، أنّه (عليه السّلام) واجه المأمون ببعض الحقيقة حين قال له : (وإنّي لأعلم ما تريد ، فقال المأمون : وما أريد؟ قال: الأمان على الصّدق، قال : لك الأمان ، قال : تريد بذلك أن يقول الناس : إنّ علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة، فغضب المأمون ثمّ قال : إنّك تتلقاني أبداً بما أكرهه ، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك ، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك ، فقال الرضا (عليه السّلام) : قد نهاني الله تعالى أن ألقي بيدي إلى التهلكة ، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك ، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أولّي أحداً ، ولا أعزل أحداً ، ولا أنقض رسماً ولا سنّة ، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً). فرضي منه بذلك ، وجعله ولي عهده على كراهية منه (عليه السّلام) بذلك.
إنّ هذا الموقف من الإمام (عليه السّلام) يدلّنا على أنّه عالم بأنّ المأمون يريد أن يحقّق أغراضه السياسية ، وأهمها إثباته للعباسيين أنّ بإمكانه أن يعتمد على خصومهم فضلاً عن غيرهم.
ومما يدلّنا على سوء نوايا المأمون وعدم إخلاصه في هذه القضية إكراه الإمام (عليه السّلام) على القبول وتهديده بالقتل ، واكتفائه منه بالقبول الصوري ، والتشديد على الإمام (عليه السّلام ، ورصد جميع تحرّكاته (عليه السّلام) ومحاسبته عليها ، مضافاً إلى ما سبق هذه القضية وما لحقها من أحداث ممّا يدل دلالة قاطعة على أنّ المأمون إنّما أراد من هذا الإجراء تحقيق طموحاته السياسية التي لا تتحقق إلاّ بهذا النحو من التدبير، ولسنا في مقام دراسة هذا الموضوع ، ونكتفي بهذه الإشارة التي تدلّ على أنّ الإمام (عليه السّلام) عاش ظروفاً قاسية ، وأيّاماً صعبة عانى منها الآلام.
ولمّا كان الإمام (عليه السّلام) يعلم بقساوة الأيام التي سيعيشها تحت رقابة المأمون في عاصمة ملكه ، وبما بيّته له من مكائد ، كان خروجه من مدينة جدّه (صلّى الله عليه وآله) في حالة من اللوعة والأسى ، وقد نعى فيها نفسه.
روى الصدوق بسنده عن مخوّل السجستاني، قال : لمّا ورد البريد بإشخاص الرضا (عليه السّلام) إلى خراسان ، كنت أنا بالمدينة ، فدخل المسجد ليودّع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فودّعه مراراً كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب ، فتقدّمت إليه وسلمت عليه فرد السّلام وهنّأته ، فقال : (زرني ، فإنّي أخرج من جوار جدّي (صلّى الله عليه وآله) فأموت في غربة ، وأدفن في جنب هارون).
وما أقسى أن يُخرَج الإنسان عن موطنه ، ويُبعَد عن أهله وذويه ، من دون أن يكون له خيار في ذلك ، وما أشبه ذلك بالإلقاء في السجن حيث يفرض عليه نمط معيّن من الحياة ، ويرى نفسه مقيّداً بالالتزام به ، وهو يخالف طبعه وما نشأ عليه.
وإذا كانت السنوات الأخيرة من حياة الإمام الكاظم (عليه السّلام) قد مضت وهو ينقل من سجن إلى سجن ، ويعاني من ثقل الحديد ، فإنّ السنوات الأخيرة من حياة ابنه الرضا (عليه السّلام) وإن لم تكبّل فيها يداه ورجلاه بالأغلال إلاّ أنّه كبّل بقيود من نوع آخر، كان يعاني من ثقلها ، ليس السجن الذي أودع فيه الرضا (عليه السّلام) بأحسن حالاً من السجن الذي أودع فيه الإمام الكاظم (عليه السّلام).
ثمّ إنّ الإمام الرضا (عليه السّلام) لمّا أراد الخروج من المدينة نظر إلى ولده الإمام الجواد (عليه السّلام) ، وأقبل به إلى قبر جدّهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كما يحدّث بذلك (عليه السّلام) فيقول: (ثمّ أخذت أبا جعفر ـ ولم يكن له ولد غيره في أشهر الأقوال وله من العمر سبع سنوات ـ فأدخلته المسجد ووضعت يده على حافّة القبر وألصقته به، واستحفظته رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فالتفت إليّ أبو جعفر (عليه السّلام) فقال لي: بأبي أنت، والله تذهب إلى الله ، وأمرت جميع وكلائي وحشمي له بالسمع والطاعة ، وترك مخالفته ، وعرّفتهم أنّه القيّم مقامي).
وممّا يثير الاستغراب أنّ الإمام الرضا (عليه السّلام) قد أقام العزاء على نفسه قبل مغادرته المدينة ، فقد روى الصدوق بسنده عن الحسن بن علي الوشّاء ، قال: قال لي الرضا (عليه السّلام): (إنّي حيث أرادوا الخروج بي من المدينة ، جمعت عيالي ، فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتى أسمع ، ثم فرّقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثمّ قلت : أمّا إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً).
ووجه الغرابة أنّ العادة جرت على أنّ إقامة العزاء والبكاء إنّما هي بعد الموت ، فما معنى أن يأمر الإمام الرضا (عليه السّلام) عياله بالبكاء عليه ليسمع بكائهم ؟! مع أنّهم علموا بشهادته في يوم وقوعها ، فقد روى محمد بن أحمد بن يحيى بسنده عن أمية بن علي قال : كنت بالمدينة وكنت أختلف إلى أبي جعفر (عليه السّلام) ، وأبو الحسن (عليه السّلام) بخراسان ، وكان أهل بيته وعمومة أبيه يأتونه ويسلّمون عليه ، فدعا يوماً الجارية فقال : (قولي لهم يتهيأون للمأتم ، فلمّا تفرّقوا قالوا : ألا سألناه مأتم من؟ قال: مأتم خير من على ظهرها )، فأتانا خبر أبي الحسن بعد ذلك بأيام ، فإذا هو قد مات في ذلك اليوم.
فهل كان أمر الإمام الرضا (عليه السّلام) عياله بالبكاء عليه لأنّه يموت في الغربة بعيداً عن الأهل والوطن ؟ أو لأنّه كان يريد إشعارهم بأنّه لن يعود فلا يأملون في لقائه ؟
أو لأنّه اعتبر نفسه ميّتاً فأمرهم بالبكاء لشدّة ما سيلاقي من المحن والمآسي ؟
وعلى أي حال فقد كان أمراً غريباً لم يعهد من أحد من الأئمة (عليهم السّلام).
وبعد ، فأين كانت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) من هذا كله ؟ وما هي حالها وهي ترى شقيقها يتركها في المدينة وينتقل إلى خراسان حيث الغربة والعناء وفراق الأهل وجوار الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؟ ولو كان الأمر بيده أو بيدها لخرجت معه ولسارت حيث يسير، وعاشت حيث يعيش ، ولكنّه خرج مقهوراً ، تاركاً عياله وأخواته حتى ابنه الإمام الجواد (عليه السّلام)، الذي كان له من العمر سبع سنوات ، بل أقلّ من ذلك كما يستفاد ممّا ذكره الشيخ المفيد رحمه الله حيث قال : ومضى الرضا علي بن موسى (عليهما السّلام) ولم يترك ولداً نعلمه إلاّ ابنه الإمام من بعده أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السّلام) وكانت سنّه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهراً.
وكان خروج الإمام الرضا (عليه السّلام) من المدينة سنة 200هـ وشهادته سنة 203هـ .
وقد اعتصر قلب السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) من الألم ولوعة الفراق ، وعلمت من خلال ما جرى أنّ أخاها لن يعود ، وكانت في جملة الباكين عليه ، وقد سُمع بكاؤها وحسرتها على فراقه ، ولعلّه أسرّ إليها أو علمت من خلال مجرى الأحداث بما سيقدم عليه من آلام ومآسي ، ولذا لم تكتف بوداعه ، بل كما حدّثني أحد أساتذتي الأجلاّء بأنّه سمع أو قرأ في كتاب أنّه لما سار ركب الإمام من المدينة صعدت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) على السطح وبقيت تنظر إلى أخيها وهو يمشي حتى غاب عن عينيها.
إنّ هذا الموقف يحمل من الدلالات شيئاً كثيراً، ويبيّن مدى الصّلة بين الأخ وشقيقته ، كما يدلّ على مدى أثر لوعتها بفراقه وحزنها عليه.
وليست هذه الصّلة الوثيقة بين الشقيقين لمجرّد الرابطة النسبيّة وأنّهما يلتقيان في أب واحد وأمّ واحدة ، وإنّما هي لما ذكرناه فيما سبق من علمها ومعرفتها (عليها السّلام) بمقام الإمامة المتمثلة في أخيها الإمام الرضا (عليه السّلام).