عبقات.. من الأنوار الرضويّة (1)
الأنوار الرضويّة
المباركة شعّت في الأرجاء، وشمِلَت حياة الناس جميعها وإن لم يعلموا أو لم
يُبصروا، فنور المولى الرؤوف، الإمامِ العطوف، عليّ بن موسى الرضا صلوات
الله عليه نورُ رحمةٍ وبصيرة، ورأفةٍ وهداية، تجلّى في شخصه القدسيّ
الشريف، وطلعته البهيّة المباركة، وفي عباداته، وكذا في أفعاله وكلماته،
سلامُ الله عليه.. فهو كما وَصَف، ونِعمَ ما وصف:
الإمامُ البدرُ المنير، والسراجُ الزاهر، والنورُ الساطع، والنجمُ الهادي
في غَياهبِ الدُّجى وأجوازِ البلدان والقِفار، ولُججِ البحار. الإمامُ
الماءُ العَذْبُ على الظَّماء، والدالُّ على الهدى، والمُنْجي من
الرَّدى... الإمامُ الأنيسُ الرفيق، والوالدُ الشفيق، والأخُ الشقيق،
والأمُّ البَرّةُ بالولد الصغير، ومَفزَعُ العبادِ في الداهيةِ النَّآد.. »
( الكافي للكليني 200:1 / ح 1 ـ باب جامع في فضل الإمام وصفاته ).
فأين يُريد الناس والإمام هو الماءُ المَعين الذي لا يرتوون إلاّ به، ولا
يأنسون إلاّ بوجوده الرحيم، كما لا يَنجُون إلاّ بلطفه، ومن مظهر ألطافه
الاستهداءُ بأقواله الحكيمةِ النيّرةِ التي تهدي إلى الصلاح والفلاح،
وتُوصل إلى مرضاة الله تعالى والسعادة الأبديّة للإنسان.
وهذه شذرات رضويّة، بهيجةٌ نورانيّة، تختطف منها عيونُ الموالين شيئاً من
أشعّتها الإلهيّة:
• قال الإمام عليّ الرضا عليه السلام في تعريف
القرآن الكريم: « هو حبلُ اللهِ المتينُ وعُروتُه الوثقى، وطريقتُه
المُثلى، المُؤدّي إلى الجنّة والمُنجي من النار، لا يَخلُق على الأزمنة..
» ( عيون أخبار الرضا، للشيخ الصدوق 130:2 / ح 9 ـ الباب 35 ).
هكذا يُعرِّف الإمامُ كتابَ الله جلّ وعَلا، وهكذا يُرشد الناسَ إليه
ويُشوّقهم إلى التمسّك به، باعتباره أحد الثقلَينِ اللَّذينِ يَضمَن
التمسّكُ بهما عدمَ الضلالة: كتاب الله تعالى هذا، وعترةُ رسول الله أولئك،
أوصياؤه وخلفاؤه مِن بعده، أحدهم الإمام الرضا سلامُ الله عليه، الذي هو من
شروط التوحيد إذ في حديث سلسلة الذهب قول الله عزّشأنه في الحديث القدسيّ
الشريف: « كلمةُ لا إلهَ إلاّ اللهُ حِصْني، فَمَن دَخَل حصني أمِنَ مِن
عذابي »، ثمّ قال عليه السلام: « بشروطها، وأنا مِن شروطِها » ( عيون أخبار
الرضا عليه السلام 135:2 / ح 4 ـ الباب 37 ). ولكي نفهم مَن هم شروط كلمة
التوحيد نقرأ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله عن جبرئيل عن ميكائيل عن
إسرافيل عن اللوح عن القلم، أنّ الله تعالى يقول: « ولايةُ عليّ بن أبي
طالبٍ حصني، فمَن دخل حصني أمِنَ مِن عذابي » (عيون أخبار الرضا عليه
السلام 136:2 / ح 1 ـ الباب 38 ).
فبالإيمان بالنبوّة والإمامة معاً تكون شروط التوحيد، ويكون القرآن
مفهوماً، إذ الأئمّة: رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليهم هم القرآن
الناطق، بهم يُفهَم، وبهم ما يُريده اللهُ يُعلَم، وبولايتهم يكون كمال
الدين وتمام النعمة وقبول الإسلام من الله جلّ وعلا.
• وحول تقييم رسول الله صلّى الله عليه وآله
لأصحابه كيف كان، قال الإمام الرضا عليه السلام: « أفضلُهم عندَه أعَمُّهم
نصيحةً للمسلمين، وأعظمُهم عنده منزلةً أحسنُهم مُواساةً ومُوازرةً » (
عيون أخبار الرضا عليه السلام 318:1 / ح 1 ).
لقد كان من العبادات المتقدّمة عند أهل بيت الوحي والرسالة عليهم السلام
خدمة الخَلْق والإحسان إليهم، والنصيحةُ لهم بالقول الصادق والعمل الصالح،
والوقوف إلى جانبهم وقوفَ إعانةٍ وتسليةٍ ومواساة لدى معضلاتهم، ونكباتهم
واحتياجاتهم. وكان من أخلاق النبيّ صلّى الله عليه وآله تَفقّدُه لأصحابه
وعيادته لهم عند مرضهم، والسعي في قضاء حوائجهم، ومواساتهم حتّى في الجوع
والظمأ والجهاد والعمل، لم يكن ليتميّز علهيم وهو أفضل الخلق عند الله
عزّوجلّ، فكان كأحدهم، حتّى أنساهم همومهم وآلامهم، إذ غمرهم بالعطف
والرحمة والكرم المعنويّ والمادّي.
وهكذا هم عترته وأهل بيته عُرِفوا بهذه الأخلاق والروحيّة السخيّة، حتّى
جرت لهم ألقابٌ شريفة على ألسن الناس تحكي عن حبّ الناس لهم وإعجابهم بهم
وإجلالهم لهم..
• عن البزنطي قال: قلت لأبي جعفر محمّد ( الجواد )
بن عليّ ( الرضا ) عليهما السلام: إنّ قوماً مِن مخالفيكم يزعمون أنّ أباك
إنّما سَمّاه المأمونُ « الرضا »، لمّا رَضِيَه لولاية عهده! فقال عليه
السلام: « كذبوا واللهِ وفجروا، بلِ اللهُ تبارك وتعالى سَمّاه الرضا؛
لأنّه كان رضىً لله عزّوجلّ في سمائه ورضىً لرسوله والأئمّة بعده صلوات
الله عليهم في أرضه »، وفي جوابٍ آخر قال عليه السالم: « لأنّه رَضِيَ به
المخالفون من أعدائه كما رضيَ به الموافقون من أوليائه » ( عيون أخبار
الرضا عليه السلام 13:1 / ح 1 ـ الباب 1 ).
وتلك أسماؤهم، وما أحلى أسماءَهم! كلّها يَعبَق بمعاني الخير واللطف
والبركة والإحسان، والعطف والرحمة والحنان، فضلاً عن التقوى والإيمان. هذا
مع جميع الناس، ومن العدل أن يُخَصّ المخلص بمزيد.
• قال عليه السلام: « ما مِن أحدٍ مِن شيعتِنا...
لا يغتمّ إلاّ اغَتمَمْنا لغمِّه، ولا يفرح إلاّ فَرِحْنا لفرحِه، ولا يغيب
عنّا أحدٌ من شيعتنا أينَ ما كان في شرق الأرض وغربها.. » ( مكيال المكارم،
للسيّد محمّد تقي الموسوي الأصفهاني 454:1 ) عن: كتاب ( فضائل شهر رمضان )
للشيخ الصدوق، في ضمن: فضائل الأشهر الثلاثة ).
وهي كلمة اشتُقّت من إحدى كلمات جَدّه أمير المؤمنين عليه السلام حين قال:
« إنّا َنفرحُ لِفرحِكم، ونحزنُ لحُزنِكم » ( مكيال المكارم:53 و 94 ـ عن:
كتاب ( بصائر الدرجات:260 / ذيل ح 2 للصفّار القمّي ).
والشيعة مَن شايعوا عليّاً عليه الصلاة والسلام بالمودّة والولاء، وكانت
لهم ولايةٌ مُحكمَةٌ باليد والقلب واللسان، معتقدين بإمامته وإمامة وُلدِه
أئمّة الهدى عليهم السلام، فيكونون بذلك مصدّقين لأمر الله وأمر رسوله
بالقول والعمل، ومتحمّلين في ذلك المحن والبلايا مِن قِبل أعداء الله
وأعداء رسوله، وصابرين على ضنك العيش وشدائد الزمان.
هؤلاء أخلصوا المحبّةَ للنبيّ وآله، فحَظَوا بعناية النبيّ وآله، وسُعِدوا
برعاية النبيّ وآله، صلوات الله عليه وعليهم، فهم مظهرُ اللُّطف الإلهيّ،
وتجلّي الرحمة الربّانية، فتشرفت شيعتُهم بتوجّه أهل البيت إليهم، وأيُّ
توجّهٍ ذلكم أن يحزنوا سلام الله عليهم لحزن شيعتهم، ويفرحوا لفرح شيعتهم
؟!
• وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: «
ليس العبادةُ كَثرةَ الصلاةِ والصوم، إنّما العبادةُ التفكُّر في أمر الله
عزّوجلّ » ( الكافي 55:2 / ح 4 ـ باب التفكّر ).
هذا أصلٌ عميق لو تأمّلناه أفَقْنا من توهّماتٍ أملَت علينا أنّ العبادة
كلَّ العبادة صومٌ وصلاة، حتّى استغنينا بهما عن العقيدة الصالحة الحقّة،
وعن الأصول الأصيلة للدين في التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد،
وتناسينا من أمر الله تعالى في محاسن الأخلاق مع عباده.
ولو تفكّرنا في أمر الله جلّ وعلا لوقفنا على العبادة الحقّة، فانشرحت
قلوبُنا في طاعاتٍ ذات آفاقٍ وسيعة، في مجال المناسك الشريفة مقرونة أو
مسبوقةً بالتسليم لله عزّوجلّ في كلّ أوامره ونواهيه، ومطيعين لرسول الله
في كلّ ما جاء به، وكلُّ ما جاء به هو من عند الله سبحانه وتعالى،
ومتمسّكين بولاية مَن أمَرَ اللهُ ورسوله بالتمسّك بولايتهم أئمّةِ الهدى
والحقّ صلَواتُ الله عليهم، وحَسَبْنا للقيامة حساباتها، وعاشت أنفسُنا بين
الخوف والرجاء، وتعبّدت أرواحُنا بحسُنِ الظنّ بالله، والرضى بقضاء الله،
والشكرِ ـ على كلّ حالٍ ـ لله، والتسليم لقضاء الله.
وذلك من الإمام الرضا عليه السلام إرشادٌ كبير لنشاط ذهنيٍّ وقلبيّ وروحيّ.
• جاء رجلٌ إلى الإمام الرضا عليه السلام فقال: يا
ابن رسول الله، لقد فقدتُ نفقتي ولم يَبقَ معي ما يُوصلني إلى أهلي،
فأقرِضْني وأنا أتصدّق به عنك. فدخل داره وأخرج يده من الباب وقال: « خُذْ
هذه الصُّرّة » وكان فيها مئتا دينار، وقال له: « لا حاجةَ لنا إلى صدقتك
»، فقال له الرجل: يا ابن رسول الله، لِمَ لا تُخرج وجهَك ؟! فقال عليه
السلام: « نحن أهلُ بيتٍ لا نرى ذُلَّ السؤال في وجه السائل » ( إرشاد
القلوب، لأبي محمّد الحسن بن محمّد الديلمي:136 / الباب 43 ).
ورُوي ذلك على نحوٍ آخر قريب منه، عن اليسع بن حمزة أنّ رجلاً قال له:
السلام عليك يا ابن رسول الله، أنا رجلٌ مِن محبّيك ومحبّي آبائك، مصدري من
الحج وقد نَفدَت نفقتي وما معي ما أبلغ مرحلة، فإن رأيتَ أن تُهيّئَني إلى
بلدي ولله علَيّ نعمة، فإذا بلغتُ بلدي تصدّقتُ بالذي تُوليني عنك؛ فلستُ
موضعَ صدقة. فقام الإمام الرضا عليه السلام فدخل الحجرة وبقيَ ساعةً ( أي
مدّة قليلة )، ثمّ خرج وردّ الباب وأخرج يده من أعلى الباب فقال: « خُذْ
هذه المئتَي دينار فاستَعِنْ بها في أمورك ونفقتك، وتَبرَّكْ بها ولا
تتصدّقْ بها عنّي، أُخرجْ لا أراك ولا تراني ».
فلمّا خرج سُئل عن ذلك فقال: « مَخافةَ أن أرى ذُلَّ السؤال في وجهه لقضاء
حاجته، أما سمعتَ حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله: « المستترُ بالحسنة
تَعدِل سبعين حجّة، والمذيع بالسيّئة مخذول، والمستتر بها مغفور! أما سمعتَ
قول الأوّل:
متى آتِهِ يوماً أُطالـب حاجـةً |
|
رَجَعتُ إلى أهلي ووجهي بمائِهِ |
( مناقب آل أبي
طالب لابن شهرآشوب 390:4 ـ فصل في مكارم أخلاقه ومعالي أموره عليه السلام
).
إنّ المتبصّر في أخلاق الأئمّة الهداة عليهم السلام لا يجد في رواياتهم
عنواناً واحداً، فقد فاض كرمهم عن معانٍ متعدّدة، فنقرأ في الخبر الواحد أو
الكلمة الواحدة عنهم أكثرَ مِن معنى، وأكثرَ من خُلُق، وأكثرَ من مفهوم
عقائديّ، وبيانٍ شرعيّ، ودعوٍةٍ إيمانيّة، ونصيحةٍ إنسانية.
فالرواية الشريفة التي نمتثل أمامها، وهي أسطر قلائل تنطق بعددٍ من
العناوين الفاضلة، مثل: الكرم، إغاثة الملهوف، قضاء حاجة المضطرّ، حفظ ماء
وجه المؤمن، التنزّه عن استرداد الصدقة، إعانة الحاجّ، رواية حديثٍ نبويٍّ
شريف في: الإخلاص وكتمان العمل الصالح، وقطع اللسان عن إذاعة السوء، وحُسن
الاستتار وثوابه.. ثمّ كان في الرواية المباركة بيت شعر أدبي يُشوّق إلى
أحد الأخلاق الكريمة الفاضلة، وهو خُلق العطاء مقروناً بحفظ كرامة السائل،
أو صاحب الحاجة الطالب، وقد أورده الإمام مثالاً طيّباً، أنشده عن فمٍ زاكٍ
طيّب، نتمنّى نحن في هذا الزمان لو نسمعه منه مباشرة نُشنّف به أسماعنا،
ونُنعش به قلوبنا، وهو يقرأه:
متى آتِهِ يوماً أُطالـب حاجـةً |
|
رجعتُ إلى أهلي ووجهي بمائِهِ |
وإذا كان لهذا البيت مصداقٌ أكمل فهو في أهل البيت عليهم السلام، ومنهم المولى الرضا عليه السلام.
نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام