شهادة الإمام الكاظم ( عليه السلام )
(المركز العالمي)
عاصر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) خلال فترة إمامته أربعة من الخلفاء العباسيين وهم : المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد .
وقد زخرت هذه الفترة بالأحداث والوقائع التاريخية الخطيرة ، وكان من أبرز تلك الوقائع هي الثورا
ت والسجن والملاحقات والقتل الفردي والجماعي لآل علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، وبني عمومتهم من الطالبِيّين .
فالولاة يحكمون ويعبثون ويتصرفون كيف شاءوا ما زالوا محافظين على طاعة الخليفة .
لأنّ المطلوب هو الولاء للخليفة العباسي لا بَسط العدل وإقامة أحكام الإسلام ، وفي مثل هذه الأوضاع كان طبيعياً أن ينال الإمام ( عليه السلام ) الظلم والسجن والاضطهاد .
فأمر الرشيد بنقل الإمام من سجن الفضل إلى سجن السندي بن شاهك ، والأخير كان شريراً لم تدخل الرحمة إلى قلبه ، وقد تَنكّر لجميع القِيَم .
فكان لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً ، فقابل الإمام ( عليه السلام ) بكلّ قسوة وجفاء ، فَضَيّق عليه في مأكله ومشربه ، وكَبّله بالقيود
ويقول الرواة : إنّه قَيّده ( عليه السلام ) بثلاثين رطلاً من الحديد .
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) على عادته على العبادة ، فكان في أغلب أوقاته يصلي لربه ، ويقرأ كتاب الله ، ويُمجّده ويَحمُده على أنْ فَرّغه لعبادته .
كتابه إلى هارون :
وأرسل الإمام ( عليه السلام ) رسالة إلى هارون الرشيد أعرب فيها عن نقمته عليه ، وهذا هو نَصّها :
(( إِنّه لن يَنقضي عَنّي يوم من البلاء، حَتى ينقضي عَنك يوم من الرّخَاء، حتى نَفنَى جميعاً إلى يومٍ ليس فيه انقضاء ، وهُناك يَخسرُ المُبطلون )) .
وحكت هذه الرسالة ما أَلمّ بالإمام ( عليه السلام ) من الأسى في السجن ، وأنّه سيحاكم الطاغية هارون الرشيد أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون .
شهادته ( عليه السلام ) :
عهد هارون إلى السندي باغتيال الإمام ( عليه السلام ) ، فَدُسّ له سُمّاً فاتكاً في رطب ، وأجبره السندي على تناوله .
فأكل ( عليه السلام ) مِنهُ رطبات يسيرة ، فقال له السندي : زِد على ذلك .
فَرَمَقَهُ الإمام ( عليه السلام ) بَطَرْفِه وقال له : ((حَسبُكَ ، قد بَلغتُ ما تحتاجُ إليه)).
وتفاعل السمّ في بدنه ( عليه السلام ) ، وأخذ يعاني الآلام القاسية ، وقد حفت به الشرطة القُساة .
ولازَمه السندي ، وكان يُسمِعُه مُرَّ الكلام وأقساه ، ومَنعَ عنه جميع الإسعافات لِيُعَجّل له النهاية المَحتومة .
ولمّا ثقل حاله ( عليه السلام ) وأشرف على النهاية ، استدعى المُسيّب بن زهرة ، وقال له :
((إنّي على ما عَرّفتُك من الرحيل إلى الله عزَّ وجلَّ ، فإذا دَعوتُ بِشُربة من ماءٍ فَشربتُها ورأيتني قد انتَفَختُ واصفَرَّ لوني واحمَرَّ واخضَرَّ ، وَأتَلَوَّنُ ألواناً ، فأخبر الطاغية بوفاتي )) .
فقال المُسيَّب : فلم أزلْ أراقب وَعده ، حتى دعا ( عليه السلام ) بشربة فَشربَها ، ثم استدعاني فقال :
((يا مُسيَّب ، إنّ هذا الرِّجس السِّندي بن شَاهك سَيزعم أنّه يتولَّى غسلي ودفني ، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً ، فإذا حُمِلت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فَألحِدُوني بها)).
قال المُسيَّب : ثمّ رأيتُ شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه ، وكان عهدي بسيِّدي الرضا ( عليه السلام ) وهو غلام ، فأردت أن أسأله ، فصاح بي سيدي الكاظم ( عليه السلام ) وقال :((أَليسَ قَد نَهَيتُك ؟!)) .
ثم إنّه غاب ذلك الشخص ، وجئتُ إلى الإمام ( عليه السلام ) فإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة ، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد .
وكانت شهادته ( عليه السلام ) في ( 25 ) رجب من سنة ( 183 هـ ) .
فخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين، وسيد المتقين والعابدين ، وخرجَت الشيعة وهي تلطم الصدور ، وتذرف الدموع ، وخرجت السيدات من نسائهم وَهُنَّ يَندبْنَ الإمام ( عليه السلام ) ويرفَعْنَ أصواتَهُنَّ بالنياحَة عليه ( عليه السلام ) .
وسارت مواكب التشييع في شوارع بغداد ، وهي تردد أهازيج اللوعة والحزن .
وسارت المواكب متجهة إلى محلة باب التبن، وقد ساد عليها الحزن ، حتى انتهت إلى مقابر قريش في بغداد .
فَحُفِر للجثمان العظيم قبر ، فواروه فيه وانصرف المشيعون وهم يعددون فضائله ( عليه السلام ) ، ويَذكُرون بمزيد من اللَّوعة الخسارةَ التي مُني بها المسلمون .
فَتَحيَّات من الله على تلك الروح العظيمة ، التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها .