النشاط العلمي للإمام الكاظم(عليه السلام)
  • عنوان المقال: النشاط العلمي للإمام الكاظم(عليه السلام)
  • الکاتب: موقع الأربعة عشر معصوم(عليه السلام)
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 18:15:47 1-9-1403

النشاط العلمي للإمام الكاظم(عليه السلام)

(موقع الأربعة عشر معصوم(عليه السلام))  

 

إنّ تراث الإمام الكاظم (عليه السلام) والذي زوّد به أصحابه وطلاّب مدرسته، هو من أروع ما خلّفه أئمّة المسلمين من الثروات الفكرية، ومن أنفس ما أبقاه علماء الإسلام من التراث العلميّ، فقد تناول كثيراً من العلوم: كعلم الكلام، وعلم الفقه، والتفسير والحديث.. وغيرها من العلوم، يضاف إليها حِكمُه وآراؤه القيّمة التي تناولت: آداب السلوك، والأخلاق، وقواعد الاجتماع، وهي حافلة بأروع صور الفصاحة والبلاغة. وفيما يلي عرض موجز لبعضها:

رسالته (عليه السلام) في العقل

العقل هو القوة المبدعة التي منحها الله للإنسان، وشرّفه وميّزه به على بقية الموجودات، وجعله خليفة في الأرض، وقد استطاع الإنسان بعقله وتفكيره أن يستخدم الكائنات ويكشف أسرارها ويميط الحجاب عن دقائقها، وأن يغزو الفضاء ويصل إلى الكواكب ويكتشف ما فيها.. كلُّ ذلك وصل إليه الإنسان وسيصل في مستقبله القريب أو البعيد إلى ما هو أعمق وأشمل من ذلك.

لقد انتهى الإنسان في انطلاقه الرائع إلى هذه الاكتشافات المذهلة بفضل عقله وإدراكه وعلمه، وقد تحدّث الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) عن أهمّ آثار العقل واستدل على فضله بالآيات الكريمة، وذلك في حديثه الذهبيّ الذي زوّد به تلميذه هِشامَ بن الحَكَم. ويُعتبر هذا الحديث من أهم الثروات المعرفيّة التي أُثرت عن الإمام، وقد شرحه شرحاً فلسفياً صدُر المتألّهين ملاّ صدرا وقال في تقريضه ما نصُّه:

( هذا الحديث مشتمل على بيان حقيقة العقل بالمعنى المذكور ـ أعني المرتبة الرابعة من العقول الأربعة المذكورة في علم النفس ـ ومحتوٍ على معظم صفاته وخواصّه ومدائحه، ومتضمّن لمعارفَ جليلةٍ قرآنية، ومقاصدَ شريفةٍ إلهيّة.. لم يوجد نظيرها في كثير من مجلدات كتب العرفاء، ولم يُعهَد شبيهها في نتائج أنظار العلماء النظار ذوي دقائق الأفكار، إلاّ منقولاً عن واحدٍ من الأئمّة الأطهار، أو مسنداً من طريقهم أو طريق العامة إلى الرسول المختار (صلّى الله عليه وآله). والحديث مشتمل على خطابات ذَكَر في كلٍّ منها باباً عظيماً من العلم، بعضها في العلوم الإلهيّة، وبعضها في علم السماء والعالم، وبعضها في علم الفلكيات، وبعضها في علم الأكوان والمواليد، وبعضها في علم النفس؛ وبعضها في تهذيب الأخلاق وتطهير النفوس من الرذائل، وبعضها في السياسات المدنية، وبعضها في المواعظ والنصائح، وبعضها في علم الزهد وذمّ الدنيا، وبعضها في علم المعاد والرجوع إلى الله، وبعضها في مذمّة الكَفَرة والجهلة وسوء عاقبتهم وانقلاب نشأتهم إلى نشأة البهائم، وأنّهم صُمُّ بُكم عُميٌ لأنهم لا يعقلون.. إلى غير ذلك من العلوم والمعارف ).

وهذا نصّ حديث الإمام (عليه السلام) مشفوعاً بشرح موجز مُقتبَس بعضه مما ذكره الشيخ ملاّ صدرا في تفسيره لهذا الحديث.. قال (عليه السلام).

(( يا هِشام، إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهلَ العقل والفهم في كتابه فقال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).

إستدلّ الإمام الكاظم (عليه السلام) بهذه الآية الكريمة على تقديم أهل العقول المستقيمة على غيرهم، لأنّ الله قد بشّرهم بالهداية والنجاح، وقد تضمّنت الآية التي استشهد بها الإمام جملةً من الفوائد العلمية نذكر فائدتين منها:

 

1 ـ وجوب الاستدلال:

إنّ الإنسان إذا وقف على جملة من الأمور فيها الصحيح والفاسد، وكان في الصحيح هدايته وفي السقيم غوايته، فإنّه يتحتّم عليه أن يميّز بينهما، ليعرف الصحيح منها فيتّبعه والفاسد فيبتعد عنه. ومن الطبيعي أنّ ذلك لا يحصل إلاّ بإقامة الدليل والحُجّة، وبهذا يُستدل على وجوب النظر والاستدلال في مثل ذلك.

 

2 ـ حدوث الهداية:

دلّت الآية على حدوث الهداية وعروضها، ومن المعلوم أنّ كل عارض لابدّ له من مُوجِد كما لابد له من قابل. أمّا المُوجِد للهداية فهو الله تعالى، ولذلك نسبها إليه بقوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) وأمّا القائلون لها فهُم أهل العقول المستقيمة، وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: (وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).. ومن المعلوم أنّ الإنسان إنّما يقبل المعرفةَ والهداية لا من جهة جسمه وأعضائه، بل من جهة عقله، فلو لم يكن كاملَ العقل امتنع عليه حصولُ المعرفة والفهم كما هو ظاهر. وقد أقام الشيخ ملاّ صدرا رحمه الله الدليلَ على حدوث الهداية، وعلى أنّ فاعلها هو الله تعالى، وأطال الكلام في ذلك.

ثمّ قال (عليه السلام):

 يا هشام، إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحُجج بالعقول، ونصر النبيّين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلة فقال: (وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)  .

أفاد الإمام الكاظم (عليه السلام) في حديثه أنّ الله أكمل نفوس أنبيائه بالعقول الفاضلة، ليكونوا حُججاً على عباده، وهداةً لهم إلى طريق الخير والنجاة، ولو لم يمنحهم بذلك لما صلحوا لقيادة الأمم وهدايتها، فإنّ الناقص لا يكون مُكمِّلاً لغيره.

لقد نصر الله أنبياءه ببيان الحق، وآيات الصدق، ودلّهم على ربوبيته وعلّمهم طريقَ معرفته وتوحيدَه بأدلة حاسمة تشهد على وجوده، وتدل على وحدانيته، والآيات التي دلّهم عليها من آثار خلقه. ومن المعلوم ـ حسب ما ذكره المنطقيّون ـ أنّ المعلول يدلّ على العلّة، والأثر يدل على المؤثِّر، وقد تضمّنت الآية الكريمة التي تضمنها حديث الإمام (عليه السلام) على جملة من الآثار العظيمة التي يُستدَلّ بها على وجود الله تعالى، وهي:

1 ـ خلق السماوات:

إنّ مِن أعظم آيات الله الباهرات خَلْقَه للسماوات، التي زيّنها بالكواكب تسبح في الفضاء، وتسير في مداراتها، وتتباعد بعضها عن بعض حسب قواعد الجاذبية، وهي مسخرة في حركاتها، وانجذابها وجذبها بأمر الله تعالى.

وممّا لا شبهة فيه أنّ النجوم لم تكن ناشئة عن الصدفة، ولم تكن السماء هي المدبِّرة والخالقة لهذه العوالم؛ إذ كيف يمكن أن تُفسَّر ؟ وكيف نستطيع أن نفسّر هذا الانتظام في ظواهر الكون والعلاقات السببية والتكامليّة والفرضية والتوافقية والتوازنيّة التي تنتظم بسائر الظواهر، وتمتدّ آثارها من عصر إلى عصر ؟ كيف يعمل هذا الكون من دون أن يكون له خالق مدبِّر هو الذي خلقه وأبدعه ؟!

ثمّ قال (عليه السلام):  يا هشام، قد جعل الله ذلك دليلاً على معرفته، بأنّ لهم مدبراً، فقال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )، وقال: (وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )، وقال: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وقال:(هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ).

استدلّ (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على آثار الله تعالى الدّالة على وجوده ووحدانيته، لو أمعن بها العاقل المفكّر وتدّبرها لآمن بذلك ولم يبق عنده أيُّ مجال للشك؛ ولذا كرّرها تعالى في كتابه الحكيم، ثمّ إنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) ذكر بعض الموبقات والجرائم التي حرّمها القرآن، وهي:

1 ـ الشرك بالله.

2 ـ عصيان الأبوَين.

3 ـ قتلُ الأولاد خشيةَ إملاق.

4 ـ الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

5 ـ قتل النفس المحترمة.

قال (عليه السلام): يا هشام، ثمّ وعَظَ أهلَ العقل ورغّبهم في الآخرة، فقال:(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ).

استدلّ (عليه السلام) بالآية الكريمة على ترغيب الله تعالى لعباده العقلاء في دار الخلود والنعيم، وذمِّه لدار الدنيا؛ لأنّها محصورة على الأكثر في اللهو واللعب؛ فينبغي للعقلاء أن يزهدوا فيها ويجتنبوا شرَّها وحرامَها، ويعملوا للدار الباقية التي أُعدّت للمتقين والصالحين. ثم قال (عليه السلام):

 يا هشام، ثمّ خوّفَ الذين لا يعقلون عقابَه، فقال تعالى: (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ* وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، وقال: (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ* وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

نزلت هذه الآيات في قوم لوط حينما جحدوا الله وكفروا بآياته، فأنزل تعالى بهم عقابه، وقد جعلهم تعالى عِبرة وموعظة للذين يعقلون، فإنّ فيه تحذيراً لهم من مخالفة المرسَلين، فإنّ عاقبة المخالفة والعصيان الدمار والهلاك.

وقال (عليه السلام):

 يا هشام، إنّ العقل مع العلم.. قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ).

استدّل (عليه السلام) بالآية الكريمة على ملازمة العقل للعلم، فإنّ العقل بجميع مراتبه لا ينفك عن العلم ولا يفترق عنه، وسبب نزول الآية فيما يقوله المفسرون أنّ الكافرين قالوا: إنّ الله كيف يضرب الأمثال بالهوامّ والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت، والأمثالُ ينبغي أن تُضرب بغير ذلك من الأمور الخطيرة. وهو منطق هزيل، فإنّ التشبيه إنّما يكون بليغاً فيما إذا كان مؤثّراً في النفس، فإذا قال الحكيم لِمَن يغتاب إنساناً: إنّك بهذه الغيبة كأنّك تأكلُ لحم المَيتة؛ لأنّك تغتابه.. فإنّ هذا يؤثّر في ردعه أكثر مما يؤثر قوله: إنّ الغيبة حرام، أو تورث العتاب والشحناء بين الناس.

وأشار تعالى بقوله:(وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) إلى أنّ معرفة حقيقة الأشياء والتمييز بين صحيحها وسقيمها لا يعقلها إلاّ من حصل له العلم والمعرفة.

ومن كلامه قال (عليه السلام):

 يا هشام، ثمّ ذَمّ الذين لا يعقلون، فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)، وقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)، وقال: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ)، وقال: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)، وقال: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)، وقال:(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ).

استدل الإمام (عليه السلام) بالآيات الكريمة على ذمّ مَن لا يعقِل.

ثمّ قال (عليه السلام):

 يا هِشام، ثمّ ذمّ اللهُ الكثرةَ فقال:(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ)، وقال: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ )، وقال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).

إستدل (عليه السلام) بالآيات الثلاث على ذمّ أكثر الناس؛ لأنّهم قد حَجبوا عن نفوسهم الحقَّ وتوغّلوا في الباطل، وغرقوا في الشهوات.. إلاّ مَن رحمه الله منهم، وأخرَجَه من الظلمات إلى النور.

ومن كلامه قال (عليه السلام):

 يا هشام، ثمّ مدَحَ القلّة فقال: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، وقال:  (وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ)، وقال: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)، وقال: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)، وقال: (وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )، وقال: (وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ).

استدلّ (عليه السلام) بالآيات الكريمة على مدحه قلّةَ المؤمنين، وندرةِ وجودهم. وقد صرّحت الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام بذلك، فقال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (( المؤمنة أعزُّ مِن المؤمن، والمؤمنُ أعزُّ مِن الكبريت الأحمر، فمَن رأى منكم الكبريتَ الأحمر؟! )).

ويعود السبب في هذه القلّة إلى أنّ الإيمان الحقيقي بالله مِن أعظم مراتب الكمال التي يصل إليها الإنسان، وهناك موانع كثيرة تحول دون الوصول إلى هذا الإيمان: كانحطاط التربية، وسوء البيئة.. وغيرهما من الحواجز التي تؤدّي إلى حجب الإنسان عن خالقه وتماديه في الإثم.

والمراد مِن قوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) ليس معناه التلفّظ بكلمة الشكر لله، بل معناه صرفُ العبد جميعَ ما أنعم اللهُ عليه فيما خُلِق لأجله. وهذه مرتبة عظيمة لا تصدر إلاّ ممّن عرف الله واعتقد بأنّ جميع النعم والخيرات صادرة منه، فيعمل على تحصيل الخير ومحاربة آفات نفسه، وحينئذ يكون من الشاكرين لله. والشكر بهذا المعنى من المقامات العالية التي لا يتصف بها إلاّ القليل.

ونعرض إلى فصل آخر من كلامه قال (عليه السلام):

 يا هِشام، ثمّ ذكر أُولي الألباب بأحسن الذِّكر، وحلاّهم بأحسن الحِلية، فقال: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) ، وقال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ )، وقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)، وقال تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ )، وقال تعالى:(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ )، وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ* هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، وقال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ).

استدّل (عليه السلام) بالآيات الكريمة على مدح العقلاء الكاملين، وتفوّقهم على غيرهم، فقد مَدَحهم تعالى بأحسن الصفات، وأضفى عليهم أسمى النعوت.

وقال (عليه السلام):

 يا هشام، إنّ الله تعالى يقول في كتابه:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) ـ يعني: عقلٌ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) يعني الفهم والعقل.

ذكر (عليه السلام) أنّه ليس المراد بالقلب الذي ذُكر في الآية الأولى هو العضو الخاصّ الموجود في الإنسان، بل المراد به هو العقل الذي يُدرِك المعاني الكليّة والجزئيّة، ويتوصّل إلى معرفة حقائق الأشياء، وهو في الحقيقة الكيان المعنوي للإنسان. وأشارت الآية الثانية إلى نعمته تعالى على لقمان، فقد وهبه الحكمة وهي من أفضل النعم وأجلّها.

ثمّ أخذ الإمام (عليه السلام) يتلو على هشام بعض حِكم لقمان ونصائحه، فقال:

 يا هشام، إنّ لقمان قال لابنه: تواضَعْ للحقّ تكنْ أعقلَ الناس، وإنّ الكيّس لدى الحق يسير. يا بُنيّ، إنّ الدنيا بحرٌ عميق، قد غَرِق فيه عالَم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكّانها الصبر)).