الإمام باب الحوائج موسى بن جعفرالكاظم(عليه السلام)
(حسين إبراهيم الحاج حسن)
مهما تحلّى الباحث باطلاع واسع في علم النفس، ومهما أوتي من براعة في علم الاجتماع يسمح له تحليل الواقع النفسي، وإعطاء صورة حيّة عن تركيب الشخصية الإنسانية، وعناصر سلوكها وإمكاناتها، فإنّه مهما بلغ من التفوّق في هذا المجال فلا يستطيع أن يلمّ إلماماً شاملاً بواقع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويكشف عن جوهر حياتهم، وأبعاد نزعاتهم، بما لهم من ظواهر ذاتية وإبداعات فردية.
والواقع أنّ ما أثر عنهم من صفات مميّزة، ونزعات فذّة في سلوكهم الشخصي والاجتماعي يجعلهم في أعلى مراتب الإنسانية. وهذه الظاهرة تجدها متمثلّة في سلوكهم النبيل الذي بلغوا به أعلى درجات الإنسانية، هذه الظاهرة من نزعات الإمام موسى (عليه السلام)، وهي الصبر على المحن، والخطوب المبرحة والمستمرة التي لاقاها من طغاة عصره، فقد أمعنوا في اضطهاده والتنكيل به، فاعتقله هارون الرشيد وزجّه في ظلمات السجون زمناً طويلاً، ثم حجبه عن جميع الناس ولم يسمح لأحد بمقابلته، ومع هذا كلّه، لم يأثر عنه أنّه أبدى أيّ تذمّر أو سأم أو شكوى، وإنمّا حسب ذلك من ضروب النّعم التي تستحق الشكر لله لتفرغه لعبادته، وانقطاعه لطاعته، فكان وهو في السجن يقضي نهاره صائماً، وليله قائماً. وهو جذلان بهذه المناجاة، وبهذا الاتصال الروحي بالله العزيز الرحيم، وهذا ما أجمع عليه المترجمون، فقالوا إنّه كان من أعظم الناس عبادة، وأكثرهم طاعة لله، حتى أصبح له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود، كما كانت لجدّه الإمام السجاد(عليه السلام) من قبل فلقّبّ بذي الثفنات، وقد أدلى الفضل بن الربيع بحديث له عن عبادته (عليه السلام) حينما كان سجيناً في داره.
فماذا نستطيع تعليل هذا الصبر؟ لم يكن سوى الإيمان العميق بالله تعالى، والتجرد من هذه الدنيا الفانية، والإقبال على الدار الآخرة. حتى أنّ هارون الظالم بهر بما رآه من تقوى الإمام وكثرة عبادته، وتحمّله هذه الخطوب الثقيلة بصبر وهدوء. فقال متعجباً:
(إنّه من رهبان بني هاشم)!!
ولمّا كان مسجوناً (عليه السلام) في بيت السندي بن شاهك وكلّ أوقاته عبادة وسجود، كانت عائلة السندي تطلّ عليه فترى هذه السيرة الزكيّة التي تحاكي سيرة الأنبياء، ممّا دفع شقيقة السندي إلى اعتناق فكرة الإمامة، وحفيد السندي من أعلام الشيعة في عصره إنّها سيرة نبوية عريقة تملك القلوب والمشاعر، مترعة بجميع معاني النبل والزهد والسمو والإقبال على الله تعالى.
وهناك صفة أخرى من صفات شخصيته الكريمة، وهي الصمود في وجه الظلم والطغيان، وانطلاقه في ميادين الجهاد المقدّس؛ فقد حمل لواء المعارضة على حكام عصره الطغاة الذين استباحوا جميع حرمات الله، واستبدوا بأرزاق الأمة وحقوقها الشرعية، واستهابوا بكرامة الإسلام، فنبوا حكمهم على الظلم والجور والاستبداد وإرغام الناس على ما يكرهون.. ومن ثم كانت محنة أهل البيت (عليهم السلام) الشاقة جداً فإنّهم بحكم موقعهم ودورهم القيادي الشرعي للأمة مسؤولون عن رعايتها وصيانتها وإنقاذها ممّا ألمّ بها من المحن الثقيلة، والخطوب الجسام، فأعلنوا معارضتهم الإيجابية تارة، والسلبية أخرى السياسية ملوك عصرهم، فذاقوا من جرّاء ذلك جميع ألوان الظلم والقهر والاضطهاد، حتى انتهت حياتهم الكريمة ما بين مسموم ومسجون ومقتول، كلّ ذلك من أجل مصلحة المسلمين وإصلاح أمّة جدّهم الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، والإنطلاق بالحكّام إلى سياسة العدل الخالص، وتطبيق أحكام القرآن الكريم على واقع الحياة.
وقد تجلّى ذلك الصمود الفذّ عند الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بإصراره البالغ على شجب سياسة هارون الرشيد، وعدم الاعتراف بشرعية خلافته، فأصرّ على هذا الموقف الشريف حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في السجون، فلم يصانع، ولم يدار أحداً منهم، ولو سايرهم لأغدقوا عليه الأموال الطائلة ليسكتوا صوت الحق في صدره؛ لكنّه آثر رضى الله وطاعته على كل شيء، وأبى إلاّ أن يساير موكب الحق، ولا يشذّ عما جاء به الإسلام من مقارعة الظلم، ومقاومة أئمة الجور والطغيان مهما كلّف الثمن.
وقد حاول يحيى البرمكي (رئيس حكومة هارون) أن يتوسّط في أمر إطلاق سراح الإمام من السجن، شرط أن يعتذر لهارون ويطلب منه العفو حتّى يخلّي سبيله، فأصرّ الإمام (عليه السلام) على الامتناع وعدم الاستجابة له.
هذا ما تميز به موقف الإمام (عليه السلام) بالشدّة والصمود مع هارون وغيره من ملوك عصره، وهو موقف أبيه وجده من قبله الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين عبّر عن موقفهم سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فقال:
((إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي)).
وهناك ظاهرة أخرى من ظواهر شخصيته الكريمة، وهي السخاء فقد اتفق المؤرخون أنّه كان أندى الناس كفّاً، يشعر مع المحتاجين، ويعطي المعوزين، ويصل المحرومين في غلس الليل البهيم، حتى لا يعرفه أحد، ويكون عطاؤه في سبيل الله، وكانت تضرب بصرره المثل.
فكان الناس يقولون: (عجباً لمن جاءته صرار موسى وهو يشتكي الفقر) أنفق جميع ما يملكه على الضعفاء والمنكوبين، وأنقذ الكثيرين منهم من مرارة الفقر والحرمان.
والإمام الكاظم (عليه السلام) دائرة معارف كاملة، فقد أجمع الرواة أنّه كان يملك طاقات هائلة من العلم، ومخزوناً فكرياً غنياً جداً بمختلف المعارف. يقصده العلماء والرواة من كلّ حدب وصوب لينهلوا من نمير علمه، وكان لا يفتي بحادثة إلاّ بادروا إلى تسجيلها وتدوينها، فرووا عنه مختلف العلوم والأبحاث، وبصورة خاصة فيما يتعلّق بالتشريع الإسلامي.
(فقد زوّدهم بطاقـــــات ندية منـــه، ويعــتبر في هذا المجال أوّل من فتــق باب الحلال والحرام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
وما يجدر ذكره ما قام به الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) من إدارة شؤون جامعته العلمية التي تعتبر أول مؤسسة ثقافية في الإسلام، وأوّل معهد تخرجت منه كوكبة من كبار العلماء، في طليعتهم أئمة المذاهب الإسلامية. فالإمام الشافعي يعتقد أن حبهم وسلوك منهجهم العدل.. وهم حبل الله المتين الذي ينير الطريق للمتمسك بهم إلى رضوان الله عز وجل وهو يرجو أن يظفره حبهم فقال:
آل النبي ذريعتي وهم إليه iiوسيلتي أرجو بهم أعطى غداً بيدي اليمين صحيفتي
والإمام احمد بن حنبل سأله عبد الله ابنه عن التفضيل بين الخلفاء الراشدين فقال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، ثم سكت. فسأله عبد الله: يا أبت!! أين علي بن أبي طالب؟ قال: (هو من أهل البيت لا يقاس به هؤلاء).
أمّا عن فلسفة الحكم عند الأمويين وعند العباسيين، فكانت تهدف إلى الأثرة والاستغلال، وإشباع الرغبات في الجاه والسلطان، ولم يؤثر عنهم أنّهم قاموا بعمل إيجابيّ في صالح المجتمع الإسلامي، أو ساهموا في بناء الحركة الفكرية والاجتماعية على ضوء ما يهدف إليه الإسلام في بعث التطور الثقافي، والإداري، والاقتصادي،لجميع شعوب الأرض. ففي هذا الجوّ السياسي والاجتماعي الصعب تميز موقف الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بالشدّة والصرامة في شجب الظلم، وقول كلمة الحق، فكان من الأئمة اللامعين في علمه وعمله على نشر الثقافة الإسلامية، وإبراز الواقع على حقيقته.
يضاف إلى قدراته الفذة التي لا تحصى: حلمه، وعلمه، وكظمه الغيظ وقد أجمع المؤرخون أنّه كان يقابل الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، شأنه شأن جدّه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وقد قابل جميع ما لاقاه من أذى وظلم من الحاقدين عليه بالصبر والصفح الجميل، حتى لقّب بالكاظم، وكان ذلك من أشهر ألقابه.
وهكذا إذا استعرضنا مقوّمات الإمام (عليه السلام) الفذّة وكل ما أثر عنه في ميادين السلوك والأخلاق، فإنّا نجده حافلاً بكلّ معاني الإنسانية، ومقوّمات بناء الأمة الإسلامية، التي عسى أن ألمّ ببعض جوانبها المشرقة والخيرة والمعطاء.
الوليد المبارك:
عاش الإمام الصادق (عليه السلام) مع زوجته حميدة حياة بيتية هادئة، حافلة بالمودّة والمسّرات. وفي فترات تلك المدة السعيدة عرض لها حمل وسافر الإمام أبو عبد الله إلى مكّة المكرمة لأداء فريضة الحجّ، فحمل زوجته معه للاطمئنان على صحتها في تلك الفترة. وبعد الإنتهاء من مراسم الحج قفلوا راجعين إلى المدينة المنورة، فلمّا انتهوا إلى الأبواء، أحسّت حميدة بالطلق، فأرسلت خلف الإمام (عليه السلام) تخبره بالأمر، وكان عند ذلك يتناول طعام الغذاء مع جماعة من أصحابه، فلمّا وافاه النبأ السعيد قام مبادراً إليها، فلم يلبث قليلاً حتى وضعت حميدة سيّداً من سادات المسلمين، وإماماً من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
إنّه يوم سعيد، يوم مشرق، أشرقت به الدنيا بهذا المولود المبارك، فكان بارّاً بالناس، عاطفاً على الفقراء منهم، لكنّه كان أكثرهم عناءً وأكثرهم محنة في سبيل الله.
بادر الإمام الصادق (عليه السلام) فتناول وليده الذي يأمل به أملاً باسماً فأجرى عليه مراسم الولادة الشرعيّة، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وما زالت هذه الطريقة تُحتذى عند جميع المسلمين المؤمنين.
لقد كانت أول كلمة طيّبة قرعت سمعه كلمة التوحيد التي تتضمن الإيمان بكل ما له من معنى.
عاد الإمام الصادق إلى أصحابه والبسمة تعلو ثغره، فبادره أصحابه قائلين: (سرّك الله، وجعلنا فداك، يا سيدنا ما فعلت حميدة؟) فبشّرهم بمولوده المبارك قائلاً لهم: ((لقد وهب الله لي غلاماً، وهو خير من برأ الله)).
أجل إنّه من أئمة أهل البيت المعصومين، وخير من برأ الله علماً وتقوى وصلاحاً في الدين، وهذا ما أحاط به الإمام الصادق أصحابه علماً بأنّه الإمام الذي فرض الله طاعته على عباده قائلاً لهم:
((فدونكم، فوالله هو صاحبكم)).
وكانت ولادته في الأبواء سنة 128هـ وقيل سنة 129هـ(6) وذلك في أيام حكم عبد الملك بن مروان.
وقال الطبرسي رحمه الله: ولد أبو الحسن موسى (عليه السلام) بالأبواء، منزل بين مكّة والمدينة لسبع خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومائة(7).
تكريم الوليد:
بعد فترة وجيزة ارتحل أبو عبد الله عن الأبواء، متجهاً إلى يثرب وفور وصوله مدّ المائدة، وأطعم الناس ثلاثة أيام تكريماً لوليده المبارك (الكاظم)، وبدأت وفود من شيعته تتوافد عليه لتهنئته بمولوده، وتشاركه في فرحته الكبرى.
طفولته زاكية مميّزة:
تدرّج الإمام موسى بن جعفر في طفولة زاكية مميزة، فتربّى في حجر الإسلام، ورضع من ثدي الإيمان، وتغذى من عطف أبيه الإمام الصادق(عليه السلام)، حيث أغدق عليه أشعّة من روحه الطاهرة، وأرشده إلى عادات الأئمة الشريفة وسلوكهم النيّر، فالتقت في سنّه المبكر جميع عناصر التربية الإسلامية السليمة، حتى أحرز في صغره جميع أنواع التهذيب والكمال والأخلاق الحميدة، ومن شبّ على شيء شاب عليه. هذه الطفولة المميزة استقبلها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو ناعم البال بحفاوة وتكريم خاص؛ فأبوه أغدق عليه عطفاً مستفيضاً، وحمل له من الحب ما لا يحمله لغيره، حيث قدّمه على بقية ولده، فاندفع قائلاً: ((الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء))، ونتيجة هذا الحب الأبوي المميز أخذت جماهير المسلمين تقابل الإمام موسى بالعناية والتكريم، وجماهير الشيعة بصورة خاصة، لأنّهم يعتقدون أنّ مقام الإمامة كمقام النبوة، بعيداً عن المحاباة، سوى ما يتصل بتأييد الفضيلة والإشادة بالإيمان، وعلى ضوء ذلك أعلن الإمام الصادق(عليه السلام) حبّه الكبير ومودته الوثيقة لولده الحبيب لأنّه رأى فيه ملامح صادقة عنه، ومواهب مبكرة، وعبقرية خاصة، تؤهله لمنصب الإمامة على أمّة جدّه (صلّى الله عليه وآله).
أوصافه:
وصف رواة الأثر ملامح صورة الإمام موسى بن جعفر فقالوا: كان أسمر اللون، وقالوا: كان ربع القامة، كثّ اللحية، حسن الوجه، نحيف الجسم.
أمّا عن صفاته الخلقية: فهو ابن الأوصياء، حاكى في هيبته ووقاره هيبة الأنبياء، فما رآه أحد إلاّ هابه وأكبره لجلالة قدره، وسموّ مكانته، وحسن سيرته، وكريم أخلاقه.
ومرّة التقى به شاعر البلاط العباسي أبو نواس فانبهر بأنواره فانطلق يصوّر هيبته ووقاره بأبيات قال فيها:
إذا أبصرتك العين من غير iiريبة وعارض فيك الشك أثبتك القلب
ولو أنّ ركباً أممّوك iiلقادهم نسيمك حتى يستدّل بك iiالركب
جعلتك حسبي في أموري كلّها وما خاب من أضحى وأنت له حسب
ولا يخفى أنّ هذه
الأبيات كانت يقظة من يقظات الضمير، ونسمة علوية من نسيمات الروح، ذلك أنّ
أبا نواس الذي كان يعيش على موائد بني العباس، والذي قضى معظم أيام حياته
في اللهو المجون، قد انبرى إلى هذا المديح العاطر في الوقت الذي كان يمدح
أهل البيت ينال عقوبة كبرى قد تؤدي به إلى الموت! لكنّ
مثالية الإمام وواقعيته التي لا ندّ لها في عصره، قد سيطرت على روح الشاعر
العباسي وأنسته النتائج.
كنيته وألقابه:
كان يكنّى بعدة أسماء أشهرها: أبو الحسن، قال الشيخ المفيد: كان يكنّى أبا إبراهيم، وأبا الحسن، وأبا علي، ويعرف بالعبد الصالح.. وقال ابن الصباغ المالكي: أمّا كنيته فأبو الحسن، وألقابه كثيرة أشهرها: الكاظم، ثم الصابر، والصالح، والأمين، وألقابه تدل على مظاهر شخصيته، ودلائل عظمته، وهي عديدة منها: الزاهر، لأنّه زهر بأخلاقه الشريفة، وكرمه الموروث عن جدّه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
قال ابن شهر آشوب عند ذكره لألقابه: (... والزاهر وسمّي بذلك لأنّه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء التام).
والكاظم: لقب بذلك لما كظمه عما فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق... ويقول ابن الأثير (إنّه عرف بهذا اللقب لصبره ودماثة خلقه، ومقابلته الشرّ بالإحسان).
والصابر: لأنّه صبر على الخطوب والآلام التي تلقـــاها من حكّام الجـور والطغـــاة، الذين قابلوه بجميع ألوان الإساءة والمكروه.
والسيّد: لأنّه من سادات المسلمين، وإمام من أئمتهم.
والوفي: لأنّه أوفى الإنسان في عصره، فقد كان وفيّاً بارّاً بإخوانه وشيعته، وبارّاً حتى بأعدائه والحاقدين عليه.
ذو النفس الزكية: لقّب بهذا اللقب اللطيف لصفاء ذاته، ونقاوة سريرته البعيدة كل البعد عن سفاسف المادة، ومآثم الحياة، نفس أبيّة زكيّة، طاهرة، كريمة، سمت وعلت حتى قلّ نظيرها.
باب الحوائج: هذا اللقب كان من أشهر ألقابه ذكراً، وأكثره شيوعاً، انتشر بين العام والخاص، حتى أنّه ما أصاب أحدهم مكروه إلاّ فرّج الله عنه بذكره الإمام الكاظم، وما استجار بضريحه أحد إلاّ قضيت حوائجه، ورجع مثلوج القلب، مستريح الضمير ممّا ألّم به من طوارق الزمن التي لابدّ منها.
وقد آمن بذلك جمهور المسلمين على اختلاف مذاهبهم.
يقول أبو علي الخلال شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي: (ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر إلا سهّل الله تعالى لي ما أحب).
وقال الإمام الشافعي: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرّب).
كان الإمام موسى الكاظم في حياته ملجأ لعموم المسلمين، كما كان كذلك بعد موته حصناً منيعاً لمن استجار به من عموم المسلمين، لأنّ الله سبحانه وتعالى عزّ اسمه منحه حوائج المسلمين المستجيرين بضريحه الطاهر في بغداد.
وقد روى الخطيب البغدادي قضية كان فيها شاهد عيان، عندما شاهد امرأة مذهولة، مذعورة، فقدت رشدها لكثرة ما نزل بها من الهموم، لأنّها أخبرت أنّ ولدها قد ارتكب جريمة، وألقت عليه السلطة القبض وأودعته في السجن ينتظر الحكم القاسي والظالم. فأخذت تهرول نحو ضريح الإمام مستجيرة به، فرآها بعض الأوغاد، الذي لا يخلو الزمان منهم، فقال لها: إلى أين؟
ـ إلى موسى بن جعفر، فإنّه قد حُبِس ابني.
فقال لها بسخرية واستهزاء: (إنّه قد مات في الحبس).
فاندفعت تقول بحرارة بعد أن لوّع قلبها بقوله:
(اللّهم بحق المقتول في الحبس أن تريني القدرة).
فاستجاب الله دعاءها، وأطلق سراح ابنها، وأودع ابن المستهزئ بها في ظلمات السجن بجرم ذلك الشخص.
فالله سبحانه وتعالى القادر العليم والقاهر العظيم قد أراها القدرة لها ولغيرها، كما أظهر كرامة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام)وكشف عنه الهمّ والغمّ. فيقول: (وأنا شخصيّاً قد ألّمت بي محنة من محن الدنيا كادت أن تطوي حياتي، ففزعت إلى ضريح موسى بن جعفر بنيّة صادقة، ففرّج الله عنّي، وكشف ما ألّم بي.
ولا يَشِكّ في هذه الظاهرة التي اختصّ بها الإمام إلا من ارتاب في دينه وإسلامه.
لقد آمن جميع المسلمين الأبرار بالأئمة الأطهار، منذ فجر التاريخ ولم يزالوا يعتقدون اعتقاداً راسخاً في أن أهل البيت (عليهم السلام) لهم المقام الكريم عند الله، وإنّه يستدفع بهم البلاء، وتستمطر بهم السماء.
روى الكليني عن محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: تقول ببغداد: ((السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا حجة الله، السلام عليكَ يا نور الله في ظلمات الأرض، السلام عليك يا من بدا لله في شأنه، أتيتك عارفاً بحقك معادياً لأعدائك فاشفع لي عند ربّك، وادع الله وسلْ حاجتك، قال: وتسلّم بهذا على أبي جعفر (عليه السلام))).
ولا ننسى قصيدة الفرزدق العصماء التي ندرّسها لطلاّبنا في المدارس والجامعات التي مدح بها الإمام زين العابدين وقال فيها:
من معشر حبهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجى iiومعتصم
يستدفع السوء والبلوى iiبحبهم ويستزادُ به الإحسان iiوالنعم
فالله عزّ وجلّ منح أهل البيت جميل ألطافه، وخصّهم بالمزيد من كراماته، أحياءً وأمواتاً.
ونذكر هنا كوكبة من الشعراء والأدباء قد أثقلت كواهلهم كوارث الدهر ففزعوا إلى ضريح الإمام متوسلين به إلى الله تعالى في رفع محنهم، وكشف ما ألّم بهم من المكروه، ففرّج الله عنهم ولو أردنا أن نذكر ما أثر عنهم في ذلك لبلغ مجلداً ضخماً.
لكنّا نذكر بعضاً منهم الحاج محمد جواد البغدادي الذي سعى إلى ضريح الإمام في حاجة يطلب قضاءها فقال:
يا سميّ الكليم جئتك أسعى نحو مغناك قاصداً من بلادي
ليس تُقضى لنا الحوائج إلاّ عند باب الرجاء جدّ الجواد
فجاء عباس البغدادي وخمسها بقوله:
لم تزل للأنام تحسن صنعاً وتجير الذي أتاك وترعى وإذا ضاق الفضا بي ذرعاً
يا سميّ الكليم جئتك أسعى والهوى مركبي وحبّك iiزادي
أنت غيث للمجدبين iiولولا فيض جدواكم الوجود اضمحلا
قسماً بالذي تعالى وجلا ليس تُقضى لنا الحوائج إلاّ
عند باب الرجاء جد الجواد
نقش خاتمه:
يدّل نقش خاتمه على مدى تعلّقه بالله عزّ وجلّ، ومدى انقطاعه إليه سبحانه وتعالى فكان: (الملك لله وحده).
ويا ليت مجتمع عصره ومجتمع عصرنا اليوم يعقلون هذا الشعار، ويعملون به، لزال الطمع والجشع وحب التملك لهذه الدنيا الفانية، ولضعف وهج الأنانية، ووهنت جاذبيتها في نفوسهم.
أبناؤه:
شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أنجب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ذرية طاهرة من نسل طيّب، فكانوا من خيرة أبناء المسلمين في عصره يتصفون بالتقوى والورع والخير والصلاح والابتعاد عن مآثم الحياة وأباطيلها.
لقد أنشأهم الإمام نشأة دينية خالصة، ووجّههم وجهة صحيحة سليمة، وسكب في نفوسهم الإيمان بالله، والتفاني في سبيل العقيدة، والعمل على قول كلمة الحق، والقيام بها مهما كلّف الثمن. قال ابن الصباغ: (إنّ لكل واحد من أولاد أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضلاً مشهوداً).
اختلف النسابون في عدد أولاد الإمام موسى الكاظم اختلافاً كثيراً منهم من قال: ثلاثة وثلاثون، الذكور منهم 16 والإناث 17.
ومنهم من قال: سبعة وثلاثون، الذكور 18 والإناث 19.
ومنهم من قال: ثمانية وثلاثون، الذكور 20 والإناث 18(25).
وقال الطبرسي: كان له سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى. علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وإبراهيم والعباس والقاسم من أمهات متعددة.
وأحمد، ومحمد، وحمزة من أم واحدة.
وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن من أم واحدة.
وعبد الله، وإسحاق، وعبيد الله، وزيد، والحسن، والفضل، وسليمان من أمهات متعددة.
وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية، ومكية، وأم أبيها، ورقية الصغرى وكلثم، وأم جعفر، ولبانة، وزينب، وخديجة وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم من أمهات متعددة.
وكان أحمد بن موسى كريماً ورعاً وكان الإمام يحبّه فوهب له ضيعته المعروفة باليسيرية، ويقال أنّه أعتق ألف مملوك.
وكان محمد بن موسى (عليه السلام) شجاعاً كريماً، وتقلّد الإمرة على اليمن في عهد المأمون من قبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) الذي بايعه أبو السرايا في الكوفة ومضى إليها ففتحها وأقام بها مدة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان، وأخذ الأمان من المأمون.
ولكل واحد من أبناء أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضل ومنقبة وكان الرضا مشهوراً بالتقدم ونباهة القدر، وعظم الشأن، وجلالة المقام بين الخاص والعام.
إخوانه (عليهم السلام):
لقد ذكرت عن إخوانه (عليه السلام) في كتاب (الإمام الصادق عطرة النبوة ومنهج حياة) في باب أولاد الإمام الصادق، ولكن سوف نورد باختصار عنهم حتى لا يخلو هذا الكتاب من ذكرهم العطر.
1ـ إسماعيل بن جعفر (عليه السلام): كان أكبر أولاده، وكان الإمام الصادق يحبّه حباً جمّاً. قال الشيخ المفيد: إنّه مات في حياة أبيه بالعريض، وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة حتى دفن بالبقيع؛ روي أنّ أبا عبد الله حزن عليه حزناً شديداً، وأمر بوضع سريره على الأرض عدّة مرات قبل دفنه، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه، ويريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده، وإزالة الشبهة عنهم في حياته.
2ـ عبد الله بن جعفر (عليه السلام): كان أكبر إخوانه بعد إسماعيل.
3ـ علي بن جعفر (عليه السلام): هو المحدّث المشهور صاحب المسائل، عن أخيه موسى (عليه السلام)، عاش دهراً طويلاً حتى أدرك الإمام الجواد (عليه السلام).
قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رضوان الله عليه: علي بن جعفر أخو موسى بن جعفر بن محمد (عليهم السلام)، جليل القدر، ثقة، له كتاب المناسك ومسائل لأخيه موسى الكاظم بن جعفر (عليهم السلام) سأله عنها.
4ـ إسحاق بن جعفر (عليه السلام): الملقب بالمؤتمن، زوج السيّدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن السبط (عليه السلام) صاحبة الروضة المشهورة بالقاهرة المعروفة بالست نفيسة؛ سافر مع زوجته إلى مصر وأقام بالفسطاط.
قال الشيخ المفيد: كان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل والصلاح، والورع والاجتهاد، قد روى عنه الناس الحديث والآثار وكان ابن كاسب يقول إذا حدّث عنه: حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر، وكان إسحاق يقول بإمامة أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام).
5ـ عباس بن جعفر: قال الشيخ المفيد: كان العباس بن جعفر رحمه الله فاضلاً نبيلاً.
6ـ محمد بن جعفر (عليه السلام): من الزهّاد والعبّاد، كان يسكن مكّة ويروي بها الأحاديث، وفي أيام ظهور الفتنة بين الأمين والمأمون خرج في مكّة وادّعى الخلافة، أرسل إليه المأمون جيشاً بإمارة الجلودي، فلمّا وصل جيش المأمون مكّة خلع نفسه وبايع المأمون. ثم سافر إلى خراسان وأقام بمرو، ولمّا وصل المأمون جرجان قتله بالسمّ وكان قبره معروفاً بجرجان في القرن الرابع الهجري.
بوّابه:
هو محمد بن الفضل، وفي المناقب: المفضل بن عمر.
شاعره:
السيد الحميري.
ملوك عصره:
1ـ المنصور 754م - 775م.
2ـ المهدي: 775م - 785م.
3ـ الهادي: 785م - 786م.
4ـ هارون الرشيد: 786م - 809م.
مدة إمامته:
خمس وثلاثون سنة.
النص عليه بالإمامة:
أجمعت الروايات بالنصّ عليه بالإمامة من الله تعالى، كخبر اللوح، وأنّ الإمام لا يكون إلاّ الأفضل في العلم والزهد والعمل، وأنّه معصوم كعصمة الأنبياء (عليهم السلام).
والنصوص المروية على إمامته عن أبيه أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قد رواها شيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصته، وثقاته الفقهاء الصالحون رضوان الله عليهم.
قال محمد بن الوليد: سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: ((سمعت أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول لجماعة من خاصته، وأصحابه: استوصوا بابني موسى خيراً، فإنّه أفضل ولدي، ومن أخلّفه من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجّة لله تعالى على كافة خلقه من بعدي)).
وروى منصور بن حازم، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بأبي أنت وأمي، إنّ الأنفس يغدى عليها ويراح، فإذا كان ذلك فمن؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام):(( إذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب على منكب أبي الحسن الأيمن، وهو فيما أعلم يومئذ خماسي، وعبد الله بن جعفر جالس معنا)).
وقال سليمان بن خالد: دعا أبو عبد الله أبا الحسن يوماً، ونحن عنده، فقال لنا: ((عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي)) ومن الغريب ما يدّعيه غير الشيعة من أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) مات ولم يوص إلى أحد من بعده يقوم مقامه ويسدّ فراغه، فترك الأمّة من بعده بلا إمام يدير أمرها، ويجمع شملها، ويرشد ضالها، ويقيم لها الحدود، ويقوّم الاعوجاج، ويوضح السنن. وقد أجمعت الأمّة على أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان يستخلف على المدينة إذا أراد سفراً، ولا يرسل جيشاً حتى يعيّن له قائداً، وربما عيّن لجيوشه أكثر من قائد.
ولو أنصف الناس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لاكتفوا بنصّ الغدير وحده ـ دون غيره من النصوص الكثيرة ـ فقد شهد جلّ المسلمين بيعة يوم الغدير، وشاهدوا بأمّ أعينهم المراسم التي أجراها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في ذلك اليوم، وما نزل من القرآن الكريم.
ومن العجيب أيضاً أن تنسى الأمّة بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ذلك اليوم والعهد قريب، والرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد لما يقبر، والشهود حضور.
وكيفما كان فالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وحده المنصوص عليه بالخلافة من قبل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وكذلك أولاده عليهم أزكى الصلاة وأفضل السلام.
وقد التزم الأئمة (عليهم السلام) في نصّ بعضهم على بعض، السابق على اللاحق، والوالد على ولده، إقامة للحجة، وإعذاراً للأمة.
هارون الرشيد يعترف بإمامة الكاظم (عليه السلام):
قال المأمون: كنت أجرأ ولد أبي عليه، وكان المأمون متعجباً من إكبار أبيه لموسى بن جعفر وتقديره له. قال: قلت: لأبي: يا أمير المؤمنين، من هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه؟ ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟
قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بني إنّه لأحقّ بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منّي ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك