نفحات من سيرة الإمام الكاظم ( عليه السلام )
إعداد شبكة الإمامين الحسنين علهيما السلام
ولادته وإمامته:
وُلِد الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ـ وهو
الإمام السابع من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ـ بالمدينة المنورة ، في موضعٍ يُسمَّى : ( الأبواء ) ، وكان ذلك في
السابع من صفر 128 هـ .
وبمناسبة ولادته قام أبوه الإمام الصادق ( عليه السلام ) بدعوة الناس إلى وَليمَةٍ
أَطعمَ الناسَ فيها مُدَّة ثَلاثة أيَّام .
تولَّى الإمام الكاظم (عليه السلام) منصب الإمامة بعد أبيه الإمام الصادق
(عليه
السلام)، في وقتٍ شَهدَتْ فيه الدولة العباسية استقرار أركانها ، وثبات بُنْيانها
.
فتنكَّرَت للشعار الذي كانت تنادي به من الدعوة لآل محمد ( عليهم السلام ) ،
وتنبَّهت إلى الوريث الشرعيِّ لشجرة النبوَّة ، مشهرة سيف العِداء له ( عليه السلام
) ولشيعته .
وذلك لتلافي تعاظم نفوذ الإمام ( عليه السلام ) في أن يؤتي على أركان دولتهم ،
ويقضي عليها .
فشهد الإمام الكاظم ( عليه السلام ) طِيلة سِنِيِّ حياته صنوف التضييق والمزاحمة ،
إلاَّ أنَّ ذلك لم يمنعه ( عليه السلام ) من أن يؤدِّي رسالته في حماية الدين
وقيادة الأمة .
إحسانه إلى الناس:
كان الإمام ( عليه السلام ) بارّاً بالمسلمين محسناً إليهم ، فما قصده أحد في حاجة
إلاّ قام بقضائها ، فلا ينصرف منه إلاّ وهو ناعم الفكر مثلوج القلب ، وكان (عليه
السلام) يرى أن إدخال الغبطة على الناس وقضاء حوائجهم من أهم أفعال الخير ، فلذا
لم يتوان قط في إجابة المضطر ، ورفع الظلم عن المظلوم ، وقد أباح لعلي بن يقطين
الدخول في حكومة هارون ، وجعل كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان مبرّراً له ،
وقد فزع إليه جماعة من المنكوبين فكشف آلامهم وملأ قلوبهم رجاءً ورحمة .
ومن هؤلاء الذين أغاثهم الإمام ( عليه السلام ) شخص من أهالي الري كانت عليه أموال
طائلة لحكومة الري فلم يتمكّن من أدائها ، وخاف على نعمته أن تسلب منه ، فأخذ يطيل
الفكر فيما يعمل ، فسأل عن حاكم الري ، فأخبر أنّه من الشيعة ، فطوى نيّته على
السفر إلى الإمام ليستجير به ، فسافر إلى المدينة فلمّا انتهى إليها تشرّف بمقابلة
الإمام ( عليه السلام ) فشكى إليه حاله ، فزوده ( عليه السلام ) برسالة إلى والي
الري جاء فيها بعد البسملة : (( اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلاً لا يسكنه إلاّ من أسدى
إلى أخيه معروفاً ، أو نفّس عنه كربة ، أو أدخل على قلبه سروراً ، وهذا أخوك
والسلام )) .
وأخذ الرسالة ، وبعد أدائه لفريضة الحج ، اتّجه إلى وطنه ، فلمّا وصل ، مضى إلى
الحاكم ليلاً ، فطرق عليه باب بيته فخرج غلامه ، فقال له : من أنت ؟
قال : رسول الصابر موسى .
فهرع إلى مولاه فأخبره بذلك ، فخرج حافي القدمين مستقبلاً له ، فعانقه وقبّل ما بين
عينيه ، وجعل يكرّر ذلك ، ويسأله بلهفة عن حال الإمام ( عليه السلام ) ، ثمّ إنّه
ناوله رسالة الإمام فقبّلها وقام لها تكريماً ، فلمّا قرأها أحضر أمواله وثيابه
فقاسمه في جميعها ، وأعطاه قيمة ما لا يقبل القسمة ، وهو يقول له : يا أخي هل سررتك
؟
فقال له : أي والله وزدت على ذلك .
ثمّ استدعى السجل فشطب على جميع الديون التي عليه ، وأعطاه براءة منها ، وخرج الرجل
وقد طار قلبه فرحاً وسروراً ، ورأى أن يجازيه على إحسانه ومعروفه ، فيمضي إلى بيت
الله الحرام فيدعو له ، ويخبر الإمام ( عليه السلام ) بما أسداه إليه من البر
والمعروف ، ولمّا أقبل موسم الحج مضى إليه ثمّ اتّجه إلى يثرب فواجه الإمام ( عليه
السلام ) وأخبره بحديثه ، فسرّ ( عليه السلام ) بذلك سروراً بالغاً ، فقال له الرجل
: يا مولاي : هل سرّك ذلك ؟
فقال الإمام ( عليه السلام ) :
(( إي والله ! لقد سرّني ، وسرّ جدّي رسول الله ( صلى
الله عليه وآله وسلم ) ، ولقد سرّ الله تعالى )) ، وقد دلّ ذلك على اهتمامه البالغ بشؤون
المسلمين ، ورغبته الملحّة في قضاء حوائج الناس .
جوده ( عليه
السلام ):
كان الإمام الكاظم ( عليه السلام ) من أندى الناس كَفاً ، ومن أكثرهم عطاءً للبائسين
والمحرومين .
ومن الجدير بالذكر أنه ( عليه السلام ) كان يتطلّب الكتمان وعدم ذيوع ما يعطيه ،
مبتغياً بذلك الأجر عند الله تعالى .
ويقول الرواة : أنه ( عليه السلام ) كان يخرج في غَلَسِ الليل البهيم ، فيوصل
البؤساء والضعفاء وهم لا يعلمون من أي جهة تَصِلهم هذه المَبَرّة .
وكانت صِلاته لهم تتراوح ما بين المائتين دينار إلى الأربعمائة دينار ، وكان أهله
يقولون : عَجَباً لمن جاءته صرار موسى ( عليه السلام ) وهو يشتكي القلة والفقر .
وقد حفلت كتب التاريخ ببوادر كثيرة من الحاجة والسؤال ، ويجمع المترجمون له أنه (
عليه السلام ) كان يرى أنّ أحسَنَ صرفٍ للمال هو ما يَردّ به جوعُ جائع أو يكسو به
عارياً .
مواهبه العلمية
:
لا شك فيه أن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) كان أعلم أهل عصره ، وأدراهم بجميع
العلوم .
أما علم الفقه والحديث فكان ( عليه السلام ) من أساطينه ، وقد احتَفّ به العلماء
والرُواة وهم يسجلون ما يفتي ( عليه السلام ) به وما يقوله من روائع الحِكَم
والآداب .
وقد شهد الإمام الصادق ( عليه السلام ) عملاق هذه الأمة ورائد نهضتها الفكرية بوفرة
علم ولده بقوله ( عليه السلام ) : (( إنّ ابني هذا
ـ وأشار إلى الإمام الكاظم ( عليه
السلام ) ـ لو سألتَه عما بين دَفّتَي المصحف لأجابك فيه بِعِلم
)) .
وقال ( عليه السلام ) في فضله أيضاً :
(( وعنده عِلم الحِكمة والفِهم والسّخاء ،
والمعرفة بما يحتاج إليه الناس فيما اختلفوا فيه من أمْرِ دينهم )) .
وقد روى العلماء عنه ( عليه السلام ) جميع أنواع العلوم مما امتلأت به الكتب .
وقال الشيخ المفيد : وقد روى الناس عن أبي الحسن ( عليه السلام ) فأكثروا ، وكان
أفقه أهل زمانه .
ونقل عن أبي حنيفة أنه قال : حججتُ في أيّام أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) ،
فلمّا أتيتُ المدينة دخلتُ دارَه ، فجلستُ في الدهليز أنتظر إذنه ( عليه السلام ) ،
إذ خرج صبيّ فقلت : يا غلام أين يضع الغريب الغائط من بلدكم ؟
قال : على رَسْلِك ، ثم جلس مستنداً إلى الحائط ثم قال :
((تَوَقَّ شُطوط الأنهار ، ومَساقط الثمار ، وأفنية المساجد ، وقارعة الطريق ، وتوارَ
خلف جدارٍ ، وشلّ ثوبك ، ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، وضع حيث شئتَ))
.
فأعجبني ما سمعت من الصبي ، فقلت له : ما اسمك ؟
فقال : (( أنا موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب
)) .
فقلت له : يا غلام ، ما المعصية ؟
فقال : (( إن السيّئات لا تخلو من إحدى ثلاث : إمّا أن تكون من الله وليست من العبد
، فلا ينبغي للرب أن يعذّب العبد على ما لا يرتكب ، وإمّا أن تكون منه ومن العبد ،
وليست كذلك ، فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الضعيف .
وإمّا أن تكون من العبد ـ وهي منه ـ ، فإن عَفا فَكرمه وَجُوده ، وإن عاقب فبذنب
العبد وجَريرَته )) .
قال أبو حنيفة : فانصرفت ولم ألقَ أبا عبد الله ، واستغنيتُ بما سمعتُ .
حكام عصره :
عاصر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) خلال فترة إمامته أربعة من الخلفاء العباسيين
وهم : المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد .
وقد زخرت هذه الفترة بالأحداث والوقائع التاريخية الخطيرة ، وكان من أبرز تلك
الوقائع هي الثورات والسجن والملاحقات والقتل الفردي والجماعي لآل علي بن أبي طالب
(عليهم السلام) ، وبني عمومتهم من الطالبِيّين .
فالولاة يحكمون ويعبثون ويتصرفون كيف شاءوا ما زالوا محافظين على طاعة الخليفة .
لأن المطلوب هو الولاء للخليفة العباسي لا بَسط العدل وإقامة أحكام الإسلام ، وفي
مثل هذه الأوضاع كان طبيعياً أن ينال الإمام ( عليه السلام ) الظلم والسجن
والاضطهاد .
موقفه ( عليه السلام ) من هارون الرشيد
:
عانى الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ألواناً قاسية من المِحَن والخطوب في عهد
الطاغية هارون الرشيد ، الذي جهد على ظلمه والتنكيل به .
فقد قضى ( عليه السلام ) زهرة حياته في ظلمات
سجونِه محجوباً عن أهله وشيعته.
إلقاء القبض على الإمام ( عليه السلام ) :
ثَـقّل الإمام ( عليه السلام ) على هارون ، وَوَرّم أنفه منه ، وذلك لأنه ( عليه
السلام ) أعظم شخصية في العالم الإسلامي ، يَكنّ له المسلمون المَوَدّة والاحترام ،
في حين أن هارون لم يَحْظَ بذلك .
ويقول الرواة : إن من الأسباب التي أدّت هارون لِسجن الإمام ( عليه السلام ) أنه
لما زار قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد احتفّ به الأشراف ، والوجوه ،
والوزراء ، وكبار رجال الدولة ، أقبل على الضريح المُقدس ووجه للنبي ( صلى الله
عليه وآله وسلم ) التحية قائلاً : السلام عليك يا بنَ العَم .
فإنه قد افتخر على من سواه بَرَحِمِهِ المَاسّة من النبي ( صلى الله عليه وآله
وسلم ) ،
فإنه إنما نال الخلافة بهذا السبب .
وعندها كان الإمام الكاظم ( عليه السلام ) إلى جانبه فَسلَّم على النبي ( صلى الله
عليه وآله وسلم ) قائلاً : (( السَّلامُ عليكَ يَا أَبَتِ )) .
فحينها فقد الرشيد صوابه ، وَورَمَ أنفُه ، وانتفخت أوداجه ، فان الإمام ( عليه
السلام ) أقرب منه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأَلصَقُ به من غيره .
فاندفع الطاغية هارون بِنَبَراتٍ تقطرُ غضباً قائلاً : لِمَ قلتَ إنك أقرب إلى رسول
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مِنّا ؟!!
فأدلى الإمام بالحجة القاطعة التي لا يمكن إنكارها قائلاً :
(( لو بُعِث رسولُ اللهِ حَيّاً ، وخطب منك كَريمَتَك ،
هل كنتَ تجيبُه إلى ذلك )) ؟
وسارعَ هارون قائلاً : سبحان الله !! وإني لأفتخر بذلك على العرب والعجم .
فقال ( عليه السلام ) مقيماً عليه الدليل أنه أقرب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله
وسلم
) منه قائلاً : (( ولكنه لا يَخطِبُ مني ، ولا أُزَوّجه ، لأنه وَالدُنا لا والدكم ،
فلذلك نحنُ أقربُ إليه منكم )) .
وأقام الإمام ( عليه السلام ) دليلا آخر على قوله فقال لهارون :
(( هل يجوزُ لرسول
الله أن يدخلَ على حرمك وَهُنّ كَاشفات )) ؟
فقال هارون : لا .
فقال الإمام ( عليه السلام ) :
(( لكن لَه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنْ يدخُل على
حرمي ، ويجوز لَهُ ذلك ، فَلِذلك نحنُ أقربُ إليهِ منكم )) .
فثار الرشيد ، ولم يجد مسلكاً ينفذ منه لتفنيد حجة الإمام ( عليه السلام ) ، وانطوت
نفسه على الشر . وفي اليوم الثاني أصدر أوامره بإلقاء القبض على الإمام ( عليه
السلام ) ، فألقت الشرطة القبض عليه وهو قائم يصلي عند رأس جده النبي ( صلى الله عليه وآله
وسلم ) .فقطعوا عليه صلاته ، ولم يُمهلُوه لإتمامها ، فَحُمِل ( عليه السلام ) من ذلك
المكان الشريف وَقُيِّد وهو يذرف أَحَرَّ الدموع ، ويَبثُّ شكواه إلى جَدِّه قائلاً
: (( إِليكَ أشكو يا رَسولَ اللهِ )) .وحُمل الإمام
( عليه السلام ) وهو يرسف في القيود ، فَمَثُلَ أمام الطاغية هارون
فَجفَاه ، وأغلظ لَهُ في القول ، وَزَجَّ الإمام ( عليه السلام ) في السجن .
سجنه ومحاولة اغتياله :
ألقى أزلام الخليفة القبض على الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وأرسلوه مُقيداً إلى
البصرة ، وقد وَكّل حسان السري بحراسته ، والمحافظة عليه .
وفي الطريق التقى به عبد الله بن مرحوم الأزدي ، فدفع له الإمام ( عليه السلام )
كُتُباً ، وأمره بإيصالها إلى ولي عهده الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وعَرّفه
بأنه ( عليه السلام ) الإمام من بعده .
وسارت القافلة تطوي البيداء ، حتى انتهت إلى البصرة ـ وذلك قبل التروية بيوم
ـ .
فسلَّم حسّانُ الإمامَ ( عليه السلام ) إلى عيسى بن جعفر ، فحبسه في بيت من بيوت
المحبس ، وأقفل عليه أبواب السجن .
وكان عيسى لا يفتحها إلا في حالتين ، إحداهما خروجه (عليه السلام ) إلى الطهور ،
والأخرى لإدخال الطعام إليه ( عليه السلام ) .وأقبل الإمام ( عليه السلام ) على العبادة والطاعة ، فكان يصوم في النهار ويقوم في
الليل ، ويقضي عامة وقته في الصلاة ، والسجود ، والدعاء ، وقراءة القرآن.
واعتبرَ تَفرّغَه للعبادة من نِعَم الله تعالى عليه ، فكان (عليه السلام )
يقول:
(( اللَّهم إنك تعلمُ أني كنتُ أسألك أن تُفرِّغَني لعبادتك ، اللَّهُم وقد فعلتَ ،
فَلَكَ الحمدُ )) .
الإيعاز لعيسى باغتياله:
وأوعز هارون الرشيد إلى عيسى بن جعفر عامِلهُ على البصرة باغتيال الإمام ( عليه
السلام ) ، وثقل الأمر على عيسى .
فاستشار خَوَاصّه بذلك ، فمنعوه وخَوّفوه من عاقبة الأمر ، فاستجابَ لهم ، ورفع
رسالة إلى هارون ، جاء فيها : ( يا أمير المؤمنين ، كُتِب إليّ في هذا الرجل ، وقد
اختبرتُه طولَ مَقامِه بِمَن حبستُهُ مَعه عَيْناً عليه ، لينظروا حيلته وأمره
وطويته ، ممن له المعرفة والدراية ، ويجري من الإنسان مجرى الدم
فلم يكن منه سُوءٌ قط ، ولم يذكر أمير المؤمنين إلا بخير ، ولم يكن عنده تَطلّع إلى
ولدية ، ولا خروج ، ولا شيء من أمر الدنيا .
ولا دعا قط على أمير المؤمنين ، ولا على أحد من الناس ، ولا يدعو إلا بالمغفرة
والرحمة له ولجميع المسلمين من ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فإن رأى أمير
المؤمنين أن يعفيني من أمره ، أو ينفّذ من يتسلّمه مِني ، وإلا سَرّحت سبيله ، فإني
منه في غاية الحرج ) .
ودلت هذه الرسالة على خوف عيسى من الإقدام على اغتيال الإمام ( عليه السلام ) ، وقد
بقي في سجنه سنة كاملة .
سجنه في بغداد :
واستجاب الرشيد لطلب عامله عيسى ، فأمره بحمل الإمام ( عليه السلام ) إلى بغداد ،
فَحُمِل إليها تحفّ به الشرطة والحرس .
ولما انتهى إليها, أمر الرشيد بحبسه ( عليه السلام ) عند الفضل بن الربيع ، فأخذ
الفضل وحبسه في بيته ، ولم يحبسه في السجون العامة ، وذلك لسمو مكانة الإمام ( عليه
السلام ) ، وعظم شخصيته ، فخاف من حدوث الفتنة واضطراب الرأي العام .واقبل الإمام ( عليه السلام ) على العبادة والطاعة ، وقد بهر الفضل بعبادته ، فقد
روى عبد الله القزويني قال : دخلتُ على الفضل بن الربيع ، وهو جالس على سطح داره
فقال لي : أُدنُ مني ، فَدنوتُ حتى حَاذَيتُه ، ثم قال لي : اشرفْ على الدار .
فأشرفتُ على الدار ، فقال لي الفضل : ما ترى في البيت ؟
فقلت : أرى ثوباً مطروحاً .
فقال الفضل : انظر حسناً .
فتأملت ونظرتُ مليّاً فقلتُ : رجل ساجد .
فقال الفضل : هل تعرفه ؟
فقلتُ : لا .
فقال : هذا مولاك .
فقلت : من مولاي ؟
فقال : تتجاهلُ عَلَيّ ؟
فقلت : ما أتجاهل ، ولكن لا أعرف لي مولى .
فقال : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر .
وكان عبد الله ممن يدين بإمامته ( عليه السلام ) .
وأخذ الفضل يحدثني عن عبادته قائلاً : إني أَتَفَقّده الليل والنهار ، فلم أجده في
وقت من الأوقات إلا على الحال التي أُخبِرُك بها : إنه يصلي الفجر ، فَيُعقب ساعة
في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس .
وقد وكّل من يترصد له الزوال ، فلستُ أدري متى يقول الغلام : قد زالت الشمس ، إذ
يَثِبُ فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدد الوضوء ، فاعلم أنه لم يَنَم في سجوده ولا
أغفى .
فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلى العصر سَجَد سجدة فلا يزال في
صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة
فإذا صلى العتمة افطر على شِوىً يُؤتَى به ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد ، ثم يرفع رأسه
فينام نومة خفيفة .
ثم يقوم فَيُجدد الوضوء ثم يقوم ، فلا يزال يصلي حتى يطلع الفجر ، فلستُ أدري متى
يقول الغلام : إن الفجر قد طلع ، إذ قد وَثِبَ هو لصلاة الفجر .
فهذا دأبه منذُ حَولٍ لي .
فهكذا كان الإمام ( عليه السلام ) ، قد طبع على قلبه حُبّ الله تعالى ، وهام
بعبادته وطاعته .
ولما رأى عبد الله الفضل للإمام حَذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له :
اتّقِ الله ، ولا تُحدث في أمرِهِ حَدَثاً يكون منه زوال النعمة ، فقد تعلم أنه لم
يفعل أحدٌ سوءاً إلا كانت نعمتُهُ زائلة .
فانبرى الفضل يؤيد ما قاله عبد الله قائلاً : قد أرسلوا إِليّ غير مَرّة يأمرونني
بقتله ( عليه السلام ) فلم أُجِبهِم إلى ذلك .
فقد خاف الفضلُ من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام ( عليه
السلام ) ، وأعرض عن ذلك .
في سجن السندي بن شاهك(لعنه
الله):
فأمر الرشيد بنقل الإمام من سجن الفضل إلى سجن السندي بن شاهك ، والأخير كان شريراً
لم تدخل الرحمة إلى قلبه ، وقد تَنكّر لجميع القِيَم .
فكان لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً ، فقابل الإمام ( عليه السلام ) بكل قسوة
وجفاء ، فَضَيّق عليه في مأكله ومشربه ، وكَبّله بالقيود
ويقول الرواة : إنه قَيّد الإمام ( عليه السلام ) بثلاثين رطلاً من الحديد .
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) على عادته على العبادة ، فكان في أغلب أوقاته يصلي
لربه ، ويقرأ كتاب الله ، ويُمجّده ويَحمُده على أنْ فَرّغه لعبادته .
كتابه إلى هارون :
وأرسل الإمام ( عليه السلام ) رسالة إلى هارون الرشيد أعرب فيها عن نقمته عليه ،
وهذا هو نَصّها : (( إِنّه لن يَنقضي عَنّي يوم من البلاء حَتى ينقضي عَنك يوم من
الرّخَاء حتى نَفنَى جميعاً إلى يومٍ ليس فيه انقضاء ، وهُناك يَخسرُ المُبطلون )) .
وحكت هذه الرسالة ما أَلمّ بالإمام ( عليه السلام ) من الأسى في السجن ، وأنه
سيحاكم الطاغية هارون الرشيد أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون .
شهادته ( عليه السلام ) :
عهد هارون إلى السندي باغتيال الإمام ( عليه السلام ) ، فَدُسّ له سُمّاً فاتكاً في
رطب ، وأجبره السندي على تناوله .
فأكل ( عليه السلام ) مِنهُ رطبات يسيرة ، فقال له السندي : زِد على ذلك .
فَرَمَقَهُ الإمام ( عليه السلام ) بَطَرْفِه وقال له : (( حَسبُكَ ، قد بَلغتُ ما
تحتاجُ إليه )) .
وتفاعل السم في بدنه ( عليه السلام ) ، وأخذ يعاني الآلام القاسية ، وقد حفت به
الشرطة القُساة .
ولازَمه السندي ، وكان يُسمِعُه مُرَّ الكلام وأقساه ، ومَنعَ عنه جميع الإسعافات
لِيُعَجّل له النهاية المَحتومة .
ولما ثقل حاله ( عليه السلام ) وأشرف على النهاية ، استدعى المُسيّب بن زهرة ، وقال
له : (( إني على ما عَرّفتُك من الرحيل إلى الله عزَّ وجلَّ ، فإذا دَعوتُ بِشُربة
من ماءٍ فَشربتُها ورأيتني قد انتَفَختُ واصفَرَّ لوني واحمَرَّ واخضَرَّ ،
وَأتَلَوَّنُ ألواناً ، فأخبر الطاغية بوفاتي )) .
فقال المُسيَّب : فلم أزلْ أراقب وَعده ، حتى دعا ( عليه السلام ) بشربة فَشربَها ،
ثم استدعاني فقال : (( يا مُسيَّب ، إن هذا الرِّجس السِّندي بن شَاهك سَيزعم أنه
يتولَّى غسلي ودفني ، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً ، فإذا حُمِلت إلى المقبرة
المعروفة بمقابر قريش فَألحِدُوني بها )) .
قال المُسيَّب : ثم رأيتُ شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه ، وكان عهدي
بسيِّدي الرضا ( عليه السلام ) وهو غلام ، فأردت أن أسأله ، فصاح بي سيدي الكاظم (
عليه السلام ) وقال : (( أَليسَ قَد نَهَيتُك ؟! )) .
ثم إنه غاب ذلك الشخص ، وجئتُ إلى الإمام ( عليه السلام ) فإذا به جثة هامدة قد
فارق الحياة ، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد .
وكانت شهادته ( عليه السلام ) , في 25 رجب من سنة 183 هـ .
فخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين
، وخرجَت الشيعة وهي تلطم الصدور ، وتذرف الدموع ، وخرجت السيدات من نسائهم وَهُنَّ
يَندبْنَ الإمام ( عليه السلام ) ويرفَعْنَ أصواتَهُنَّ بالنياحَة عليه ( عليه
السلام ) .
وسارت مواكب التشييع في شوارع بغداد ، وهي تردد أهازيج اللوعة والحزن .
وسارت المواكب متجهة إلى محلة باب التبن وقد ساد عليها الحزن ، حتى انتهت إلى مقابر
قريش في بغداد .
فَحُفِر للجثمان العظيم قبر ، فواروه فيه وانصرف المشيعون وهم يعددون فضائله ( عليه
السلام ) ، ويَذكُرون بمزيد من اللَّوعة الخسارةَ التي مُني بها المسلمون .
فَتَحيَّات من الله على تلك الروح العظيمة ، التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها
ومآثرها .