مراحل الإمام موسى الكاظم (عليه السّلام)(*)
المرحلة الاُولى :
وتتمثل في نشأته (عليه السّلام) في ظل أبيه الإمام الصادق (عليه السّلام) ؛ حيث تميزت هذه المرحلة بظهور علمه الرباني وقدرته الفائقة على الحوار والمحاججة حتّى أفحم مثل أبي حنيفة وعمره الشريف آنذاك لا يتجاوز نصف عقد .
المرحلة الثانية :
وتبدأ بتسلّمه الإمامة بعد شهادة أبيه (عليه السّلام) في ظروف سياسية قاسية كان يُخشى فيها على حياته , حتّى اضطر الإمام الصادق (عليه السّلام) لأن يجعله واحداً من خمسة أوصياء في وصيته المشهوره التي بدّد فيها تخطيط المنصور العباسي لاغتيال وصي الإمام الصادق (عليه السّلام) .
وقد استمرت هذه المرحلة حتّى توفّي المنصور سنة (158) للهجرة .
المرحلة الثالثة :
وتبدأ منذ موت المنصور وتولّي المهدي العباسي , وتستمر بولاية موسى الهادي سنة (169) هـ على مركز السلطة , فهي تبلغ عقدين أو ما يزيد عليها بقليل . وكانت مرحلة انفراج نسبي لأهل البيت (عليهم السّلام) وأتباعهم , لا سيما في عهد المهدي العباسي ؛ لأنها مرحلة تحوّل سلطة إلى اُخرى , والجميع كان يدّعي القرب لأهل البيت (عليهم السّلام) .
المرحلة الرابعة :
هي المرحلة التي كانت معاصرة لحكم الرشيد ؛ حيث استولى على الحكم سنة (170) هـ , وهذا الشخص كان معروفاً بحقده على العلويين .
واستمرت هذه المرحلة حتّى شهادة الإمام (عليه السّلام) سنة (183) هـ . وتُعتبر هذه المرحلة من أصعب وأحرج المراحل وأدقّها من حيث التضييق على الامام الكاظم (عليه السّلام) . ولم ينتهِ العقد الأوّل من حكم الرشيد إلاّ والإمام (عليه السّلام) مُغيّب في مطامير سجون الرشيد التي لم يشهد لها التاريخ من مثيل ؛ ما بين سجن عيسى بن جعفر في البصره تارة , وسجن السندي بن شاهك في بغداد تارة اُخرى .
كلمات بحقِّ الإمام (عليه السّلام)
قال عنه الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( ... وعنده علم الحكم والفهم , والسخاء والمعرفة بما يحتاج الناس إليه , فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم )) .
قال هارون الرشيد لابنه المأمون وقد سأله عنه : هذا إمامُ الناس , وحجته على خلقه , وخليفته على عباده .
وقال له أيضاً : يا بُني , هذا وارث علم النبيِّين , هذا موسى بن جعفر , إن أردت العلم الصحيح فعند هذا .
وكتب عيسى بن جعفر للرشيد : لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي , وقد اختبرت حاله , ووضعت عليه العيون طيلة هذه المدة ؛ فوجدته لا يفتر عن العبادة , ووضعت مَن يسمع ما يقول في دعائه فما دعا عليكَ ولا عليَّ , ولا ذَكرنا بسوء , وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة ؛ فإن أنت أنفذت إليَّ من يستلمه منّي وإلاّ أخليت سبيله ؛ فإني متحرّج من حبسه .
الإمام الكاظم (عليه السّلام) وبناء الجماعة الصالحة
كرّس الإمام (عليه السّلام) جهده لإكمال بناء الجماعة الصالحة التي يهدف من خلالها إلى الحفاظ على الشريعة من الضياع , وقدّم من خلال ذلك النموذج الصالح الذي صنعته مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) .
ولقد ركّز الإمام (عليه السّلام) على بُعد الانتماء لخطِّ أهل البيت (عليهم السّلام) , ولا سيما الانتماء السياسي , وقد جوّز (عليه السّلام) اندساس بعض أتباعه في جهاز السلطة الحاكمة . وأبرز مثال توظيف علي بن يقطين ووصوله إلى مركز الوزارة .
إنّ الاقتراب من أعلى موقع سياسي من أجل الإطاحة بالمعلومات السياسية وغيرها التي تصدر من الحاكم أمر ضروري ؛ لئلاّ يتعرّض الوجود الشيعي للإبادة أو الانهيار .
وشاهد على ذلك أنّه لمّا عزم موسى الهادي على قتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) بعد ثوره الحسين بن علي الخير (صاحب معركة فخ) , وتدخّل أبو يوسف القاضي , واستطاع تغيير رأي الهادي بأنّ الإمام (عليه السّلام) لم يكن مذهبه الخروج , ولا مذهب أحدٍ من ولده , واستطاع ان يُقنع السلطان .
هنا كتب علي بن يقطين إلى الإمام (عليه السّلام) بضرورة الأمر , وطلب منه السماح له بالتخلّي من منصبه أكثر من مرّة , لكن الإمام (عليه السّلام) نهاه عن ذلك , وقال له : (( ياعلي , إنّ لله تعالى أولياءَ مع أولياء الظلمة ؛ ليدفع بهم أولياءه , وأنت منهم يا علي )) .
نهج الإمام (عليه السلام) في المعالجة الأخلاقيّة
اتخذ الإمام (عليه السّلام) أساليب عديدة للموعظة والإرشاد ومعالجة الانهيار الأخلاقي الذي أخذ ينتشر ويستحكم في أعظم الحواضر الإسلاميّة التي كان الإمام (عليه السّلام) يتواجد فيها . وقد استطاع (عليه السّلام) أن يربّي في المجتمع الإسلامي نماذج حيّة تكون قدوة للناس في كبح جماح الشهوات الهائجة وإطفاء نيران الهوى المشتعلة .
وممّن تأثّر بالإمام (عليه السّلام) ولمع اسمه في المجتمع الإسلامي أبو نصر بشر بن الحارث , المروزي الأصل البغدادي المسكن , والذي أصبح من العرفاء الزهّاد بعد توبته على يد الإمام الكاظم (عليه السّلام) .
وهذه قصته : ذُكر أنّ الإمام الكاظم (عليه السّلام) حين اجتاز على داره ببغداد سمع أصوات الغناء والطرب تعلو من الدار , وخرجت منها جارية وبيدها قُمامة , فرمت بها في الطريق , فالتفت إليها الإمام (عليه السّلام) قائلاً : (( ياجارية , صاحبُ هذه الدار حُرٌّ أم عَبد ؟ )) .
فأجابت : حر .
فقال (عليه السّلام) : (( صدقتِ , لو كان عبداً لخاف من مولاه )) .
ودخلت الجارية إلى الدار , وكان بشر على مائدة السكر , فقال لها : ما الذي أبطاءك ؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمام (عليه السّلام) , فخرج بشر حافياً مسرعاً حتّى لحق بالإمام (عليه السّلام) وتاب على يده الشريفة , واعتذر من الإمام (عليه السّلام) وبكى .
وبعد ذلك أخذ بشر بتهذيب نفسه في طاعة الله تعالى , وببركة الإمام (عليه السّلام) أصبح مناراً للتائبين , وسُمّي بعد ذلك ببشر الحافي ؛ لسيره خلف الإمام (عليه السّلام) حافياً .
اعتقال الإمام (عليه السّلام)
لمّا شاع ذكر الإمام (عليه السّلام) وانتشرت فضائله ومآثره في بغداد ضاق الرشيد من ذلك ذرعاً , فأمر باعتقاله , وأودعه سجن الفضل بن يحيى . ولمّا رأى الفضل عبادة الإمام (عليه السّلام) وإقباله على الله تعالى لم يُضيّق عليه , وكان يرسل له كلَّ يوم بمائدة فاخرة من الطعام .
وبعد أن علم هارون العباسي بذلك أمر بنقل الإمام (عليه السّلام) إلى سجن السندي بن شاهك , وأمره بالتضييق عليه , فاستجاب هذا الأثيم إلى طلبه ؛ فكان يُقابل الإمام (عليه السّلام) بقسوة وجفوة وغلظة , فأمره أن يقيّد الإمام (عليه السّلام) بثلاثين رطلاً من الحديد , ويقفل الباب في وجهه , ولا يخرجه إلاّ للوضوء .
محاولة لسمِّ الإمام (عليه السّلام)
عزم هارون العباسي على قتل الإمام (عليه السّلام) بعد أن سمع بمناقبه ومآثره والتي كانت الناس تتداولها فيما بينها ؛ فدعا برطب , وأخذ رطبة ووضع فيها سمّاً , وقال لخادمه : احمله إلى موسى بن جعفر وقل له : إنّ أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب , ويُقسم عليك بحقِّه لما أكلته عن آخره ؛ فإنّي اخترته لك بيدي . ولا تتركه يُبقى شيئاً , ولا يُطعم أحداً منه .
فحمل الخادم الرطب وجاء به إلى الإمام (عليه السّلام) , وأبلغه برسالة هارون , فأخذ الإمام (عليه السّلام) يأكل من الرطب . وكانت للرشيد كلبة عزيزة لديه , فجذبت نفسها وخرجت تجرّ بسلاسلها الذهبيّة حتّى جاءت قرب الإمام (عليه السّلام) , فبادر الإمام ورمى رطبة فأكلتها , فما لبثت أن ضربت نفسها في الأرض فماتت , واستوفى الإمام (عليه السّلام) باقي الرطب .
الاغتيال الأخير للإمام (عليه السّلام)
أوعز هارون الرشيد إلى السندي بن هاشك الأثيم بقتل الإمام (عليه السّلام) , فاستجاب وعمد لرطب فوضع فيه سمّاً فتّاكاً وقدّمه للإمام (عليه السّلام) , فأكل منه عشر رطبات , فقال له السندي : زد على ذلك .
فرمقه الإمام الكاظم (عليه السّلام) وقال له : (( حسبك ؛ فقد بلغت ما تحتاج إليه )) .
ولمّا سُقي السمَّ أخذ الإمام (عليه السّلام) يلاقي الألم الشديد حتّى التحقت روحه بالرفيق الأعلى ؛ فاظلمّت الدنيا بفراقه , وأشرقت الآخرة بنورهِ .
وحسب الأوامر المتّبعة من هارون وُضع الجثمان الطاهر للإمام (عليه السّلام) على جسر الرصافة ؛ لينظر إليه القريب والبعيد . وأحاطت جثمانه الطاهر شرطة الرشيد , وقد كُشف وجهه ؛ قاصدين بذلك انتهاك حرمة الإمام (عليه السّلام) , والحطَّ من كرامته , والتشهير به .
وكانو ينادون بنداء مفجع : هذا إمام الرافضة فاعرفوه , هذا موسى بن جعفر تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروه إنّه ميّت .
وقد ألحقوا بندائهم هذا السبّ والشتم بعبارات تدل على مدى حقدهم .
وبعد انتهاء الغُسل حملوا الجثمان الطاهر إلى المرقد الشريف , وقد هرع الناس إلى تشييع الإمام (عليه السّلام) بمواكب تجوب بغداد بالحزن واللوعة .
فسلامٌ عليه يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حياً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تجدر الإشارة إلى أنّ هذا المقال قد اُخذ من موقع منتديات العراق ـ المنتدى الإسلامي ـ بتصرّف من موقع معهد الإمامين الحسنين (عليهما السّلام)