حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
  • عنوان المقال: حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 19:44:1 1-9-1403

نبذة عن حياته الشريفة‏

لم يذکر المؤرّخون في شأن المولد الشريف للإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام تاريخا محددا ، لاتتضح سنة ولادته بین سنوات 148,151,153 .قیل بعضهم ان مولد الإمام الرضا عليه السّلام یکون في السنة التي استُشهد فيها جدّه الإمام الصادق عليه السّلام ذاتها، إذ إنّ شهادة الإمام الصادق عليه السّلام مؤرّخة بالخامس والعشرين من شهر شوّال عام 148ه و هو يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 148 من الهجرة المحمّديّة الشريفة. وهو الرأي الأقوى والأشهر، وقد قال به جماعة كثيرة من العلماء والمؤرّخين، منهم: الشيخ المفيد والشيخ الكلينيّ والكفعميّ والطبرسيّ والشيخ الصدوق وابن زهره و ابوالفداء و ابن الأثيرو ابن الجوزيّ و غيرهم ؛ أمّا محلّ المولد الشريف ومكانه.. فلا خلاف أنّه المدينة المنوّرة.
لُقِّبَ الإمام الرضا ( عليه السلام ) بكوكبة من الألقاب الكريمة ، وكل لقب منها يرمز إلى صفة من صفاته الكريمة ، وهذه بعضها : ( الصابر ) و ( الزكِي ) و ( الوفي ) و ( الفاضل ) و ( الصدِّيق ) و ( سراج الله ) ( قُرَّة عينِ المُؤمنين ) و ( مكيدة المُلحدين ) و ( كفو الملك ) و ( كافي الخلق ) و ( رب السرير ) و ( رئاب التدبیر )
و( الرضا ) هو اشهر القابه وصار اسماً يُعرف به . وقد عَلَّلَ العلماء السبب الذي من أجله لُقِّب بـ ( الرضا ) فقیل : إنما سُمِّي ( عليه السلام ) الرضا ، لأنه كانَ رِضَى لله تَعَالى في سَمَائِه ، وَرِضَى لِرسُوله والأئمة ( عليهم السلام ) بعده في أرضه . کما قیل : لُقِّب ( عليه السلام ) بذلك لأنه صَبَر على المِحَن والخُطُوب التي تَلَقَّاهَا مِن خُصُومِهِ وأعدَائِه .
أمّا أُمّه عليه السّلام فقد وردت لها عدّة أسماء و ألقاب منها : ( أم البنین ) و ( نجمة) و(سَكَن) و( شقراء ) و (طاهرة) و (الخيزران )
اولاده من الذكور خمسة، ومن الإناث واحدة و قد قال العلامة المجلسی إنّه عليه السّلام لم يترك إلاّ ولداً واحداً، وهو وصيّه الإمام أبو جعفر محمّد الجواد عليه السّلام.
و كانت مدة إمامته بعد أبيه 20 سنة و بدایة امامته متزامن مع نهایة خلافة الهارون العباسی و استشهد في طوس من أرض خراسان في صفر 203 هـ، و له يومئذ 55 سنة


في المدینة

بدأت فترة إمامته الإلهية سنة 183هـ.، وكانت دفّة الحكم السياسىّ يومذاك تدار بيد هارون الرّشيد فـي بغداد. وكانت سياسته قائمة على ممارسة القسر والإكراه، إذ كان عملاؤه يقهرون النّاس على دفع الضرائب، ويضطهدون الشيعة الفاطميّين وأبناءهم ويذبّحونهم، كما زجّوا نقيبهم وسيّدهم وعميدهم الإمام موسى بن جعفر (عليه‎السلام) فـي سجون البصرة وبغداد سنوات عديدة ثمّ قتلوه بالسمّ.
وهارون الرّشيد هذا، إضافة إلى ظلمه وجوره الجنونـي، كان يبثّ أفكاراً غريبة مترجمة عن الفكر الغربـي فـي أوساط المسلمين العلمية، ليتسنّى له عبر هذا العمل أن يوجّه أنظار النّاس إلى العلوم الأجنبيّة، ويجعل أهل البيت (عليهم السّلام) فـي عُزلة علميّة.
ولم يظهر الإمام الرّضا (عليه‎السلام) بإمامته فـي بداية الأمر نظراً إلى الأجواء السياسيّة السائدة بين المسلمين، وكانت صلته مقتصرة على أنصاره وشيعته دون غيرهم، لكنه اظهر بها فـي المدينة بعد مضي بضع سنين، منتهزاً الفرصة التـي أتيحت له، إذ أخذت حكومة هارون بالضّعف لوقوع الانتفاضات المختلفة، وتصدّى(عليه‎السلام) لرفع إشكالات الناس العقائديّة، وعلاج مشاكلهم الاجتماعيّة.
يقول (عليه‎السلام): «كنت أجلس فـي روضة جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله والعلماء متوافرون بالمدينة، فإذا أعيى الواحد منهم عن مسألة أشاروا إلي بأجمعهم وبعثوا إلـي المسائل فأجيب عنها».
أمّا هارون الرشيد الذي توجّه نحو خراسان لإخماد الاضطرابات هناك، فقد وافته المنيّة فيها سنة 193هـ ودفن فـي سناباد بطوس فـي إحدى الغرف السفليّة من قصر والـي طوس «حميد بن قحطبة الطائي» وإثر وفاته نشب الخلاف بين ولديه الأمين والمأمون، فتصدّر الأوّل مقام الحكم فـي بغداد، بينما تربّع الثانـي على العرش فـي مرو.
وظلّت نيران النزاع بين الأخوين متأجّجة طوال خمس سنوات، إلى أن شنّ جيش المأمون هجوماً على بغداد وفتك بالأمين سنة 198هـ، وهكذا خلا وجه الحكم كله للمأمون.
بيد أنّ العلويّين والسّادة الذين ضاقوا ذرعاً بجور هارون وكانوا ساخطين على حكومة ولديه أيضاً، ثاروا فـي كلّ من العراق، والحجاز، واليمن، مطالبين بأن يكون الحكم بأيدي آل محمّد (عليهم‎السلام)، فعقد المأمون العزم على دعوة سيّدهم الإمام علي بن موسى الرّضا (عليه‎السلام) إلى خراسان ليتمكّن من إخماد ثوراتهم، وتكون له مكانة فـي الجماهير الشيعيّة الغفيرة، ويتظاهر من خلال وجود الإمام (عليه‎السلام) فـي بلاطه بأنّ حكومته تحظى بتأييد الإمام (عليه‎السلام). لهذا وجّه أكثر من دعوة إلى الإمام، لكنّه كان يواجه الرفض فـي كل مرّة، إلى أن أبدل الاستدعاء بالتهديد، فعلم الإمام الرضا (عليه‎السلام) أنّ المأمون لن يكفّ عنه، فشدّ الرحال نحو خراسان سنة 200هـ. حقناً لدماء شيعته وحرصاً منه على حرمتها.
زار الإمام(عليه‎السلام) قبر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليودّعه قبل مغادرته المدينة. فودّعه غير مرّة، وفـي كلّ مرّة كان يعود إلى المرقد الطاهر رافعاً صوته بالبكاء. ثمّ ضمّ نجله الجواد (عليه‎السلام) إليه وأخذه معه إلى المسجد وألصقه بجدار الحرم النّبوي الطاهر، وعوّذه بالرسول(صلى الله عليه وآله). ثمّ أمر جميع نوّابه ووكلائه أن يأتمروا بأمره، ويتجنّبوا مخالفته، وأعلم أصحابه الثقات أنّه خليفته من بعده.

 

الحؤول دون دخوله الكوفة‏

لقد خُطّط مسار هجرة الإمام(عليه‎السلام) من المدينة إلى خراسان على نحوٍ يحول دون أي ردّ فعل شيعي علوي محتمل، فعلى هذا الأساس مرّ موكب الإمام(عليه‎السلام) بالكوفة بعيداً عنها دون أن يدخلها.
هذا وقد اعتبر بعض الكتاب مثل اليعقوبـي، والبيهقي مسير الإمام(عليه‎السلام) من بغداد إلى البصرة لكنّ هذا الرأي أو الاحتمال لا يحظى بمصداقيّة تذكر، إذ أنّه أوّلاً: عدّ أغلبيّة الكتّاب مرور الإمام بالقادسيّة قطعيّاً لا يرقى إليه شكّ، وحسب هذا الافتراض فإنّنا لو أخذنا الشّرائط الجغرافيّة فـي الحسبان، لا يمكن أن تكون بغداد قد وقعت فـي مسيره (عليه‎السلام). ثانياً: ورد فـي نقل البيهقي أنّ مبايعة طاهر ذي اليمينين للإمام فـي بغداد تمّت على ولاية عهده، وهذا ممّا لا أساس له من الصحّة، نظراً إلى حدوث قضية الولاية بعد هذا السّفر فـي مرو. وفوق ذلك نقل بعض المؤرّخين توجّه الإمام(عليه‎السلام) نحو الكوفة، حيث يقول السيّد محسن أمين العاملي: «تفيد بعض الروايات أنّ الإمام علي بن موسى الرضا(عليه‎السلام) ومرافقيه قدموا إلى الكوفة عبر البصرة» ويؤيّد العلاّمة المجلسي أيضاً توجّه الإمام إلى الكوفة. وربّما أريد بالسّفر إلى البصرة والكوفة فـي أخبار هؤلاء العظام، سفر آخر قام به الإمام قبل إشخاصه إلى خراسان

 

دخوله البصرة‏

واصل الإمام سفره باجتيازه القادسيّة، حيث دخل البصرة بعد ذلك ـ والبصرة مدينة بُنيت على أيدي المسلمين فـي عهد الخليفة الثّانـي وكان بناؤها قبل الكوفة ـ وكانت الظروف الموجودة فـي البصرة لصالح المأمون العبّاسي على ما يلوح من المصادر التاريخيّة المختلفة. ولو افترضنا ذلك، فمن البديهي أنّ المأمون كان يعتبر توجّه الإمام إلى البصرة والمرور به فيها عمليّة دعائيّة لنفسه، وكان يحاول استغلال ذلك لصالحه. فيما تبقّى من المسير بعد البصرة دخل الإمام(عليه‎السلام) خوزستان برّاً أو بحراً وأقام فـي الأهواز عدّة أيّام. وهناك مآثر لا تزال قائمة إلى الآن ممّا يذكّر بمرور الإمام بتلك المنطقة، مثل مسجد أسّسه الإمام(عليه‎السلام). يقول أبوهاشم الجعفري: «لـمّا بعث المأمون رجاء بن أبـي الضحّاك لحمل أبـي الحسن علـي بن موسى الرّضا على طريق الأهواز... وكنت بالشرقي من آبيدج (موضع)، فلمّا سمعت به سرت إليه... وكان مريضاً وكان زمن القيظ، فقال: أبغنـي طبيباً. فأتيته بطبيب، فنعت له بقلة، فقال الطبيب: لا أعرف أحداً على وجه الأرض يعرف اسمها غيرك، فمن أين عرفتها إلاّ أنّها ليست فـي هذا الأوان، ولا هذا الزمان، قال له: فابغ لـي قصب السكّر، فقال الطبيب: وهذه أدهى من الأولى، ما هذا بزمان قصب السكّر، فقال الرضا(عليه‎السلام): هما فـي أرضكم هذه وزمانكم هذا، فامضيا مع أبـي هاشم إلى شاذروان الماء، واعبراه فيرفع لكم جوخان ـ أي بيدر ـ فاقصداه فستجدان رجلاً هناك أسود فـي جوخانة، فقولا له: أين منبت السكّر وأين منابت الحشيشة الفلانيّة؟ يقول أبوهاشم: فقمتُ وإذاً الجوخان والرّجل الأسود. قال: فسألناه فأومأ إلى ظهره، فإذا قصب السكّر، فأخذنا منه حاجتنا... فرجعنا إلى الرضا(عليه‎السلام)، فحمد الله. فقال لـي المتطبّب: إبن من هذا؟ قلت: ابن سيّد الأنبياء. قال: فعنده من أقاليد النبوّة شيء؟ قلت: نعم، وقد شهدت بعضها وليس بنبـي. قال: وصيّ نبـيّ؟ قلت: أمّا هذا فنعم. فبلغ ذلك رجاء بن أبـي الضحّاك فقال لأصحابه: لئن أقام بعد هذا ليمدّن إليه الرّقاب، فارتحل به من رامْهُرمُز صوب نيسابور».
لقد وردت الحوادث إلى هذا الشوط من السفر فـي المصادر التاريخيّة كما نقلت الشوط الأخير من السفر أي من نيسابور إلى مرو واضحاً جليّاً، إلا أنّ تفصيل حركته(عليه‎السلام) بين الأهواز ونيسابور ليس واضحاً كلّ الوضوح. وهناك احتمالات عديدة فيما يخصّ طريق سفر الإمام(عليه‎السلام) هي:
الأهواز ـ فارس ـ إصفهان ـ قم ـ الرّي ـ سمنان ـ دامغان ـ نيسابور.
الأهواز ـ إصفهان ـ عبور الجبال ـ جبل آهوان ـ سمنان ـ نيسابور.
الأهواز ـ إصفهان ـ يزد ـ طبس ـ نيسابور.
الأهواز ـ فارس ـ كرمان ـ طبس ـ نيسابور.
وقد وردت أخبار أخرى فـي كتاب "إثبات الوصيّة" وكان الإمام(عليه‎السلام) بطبيعة الحال قد مرّ بمنازل ومدن أصغر أثناء مسيره. لكن ذكرت أهمّ المدن فـي الاحتمالات المذكورة دون القرى والمحلاّت الصغيرة. وقد ذكر المحدّث القمي النّقل الآتي عن دليل قافلة الإمام(عليه‎السلام) وجمّالها: «لمّا بلغنا إلى قريتـي (كرند أو كرمند أصفهان)، طلبت من الإمام(عليه‎السلام) أن يخطّ لـي حديثاً بيده (كتذكار) فأهدى إلـي هذا الحديث: «كن محبّاً لآل محمّد(صلى الله عليه وآله) وإن كنتَ فاسقاً، ومحبّاً لمحبّيهم وإن كانوا فاسقين».»
أجل لقد خلّف الإمام(عليه‎السلام) مآثر وراءه لدى مروره بالمدن أو القرى سواء كانت مآثر لفظيّة كالحديث المذكور أعلاه، ومآثر لأبنية وضع الإمام(عليه‎السلام) حجرها الأساس، أو غيرها من الآثار كتفجير عيون الماء وغرس الأشجار وسواهما.

 

موافاته قم‏

على الرغم من أنّ مشاهير المؤرّخين يذهبون إلى أنّ قم كانت حسب تدبير المأمون فـي عداد المدن التـي يجب ألا يمرّ بها الإمام(عليه‎السلام)، فإنّ منهم من يذهب إلى أنّ الإمام(عليه‎السلام) قد وافاها عن طريق أراك أو إصفهان.
يقول المحدّث القمّي مستنداً إلى نقل السيّد بن طاووس: «لمّا طلب المأمون الرضا(عليه‎السلام) من خراسان توجّه من المدينة إلى البصرة، ولم يصل الكوفة، ومنها توجّه على طريق الكوفة إلى بغداد ثمّ قم».
لكنّ المشهور أنّ مسير الإمام(عليه‎السلام) كان يمرّ من إصفهان أو قربها إلى طبس ونيسابور.

 

قدومه إلى نيسابور‏

لقد اتّفق جميع المؤرّخين والمحدّثين على قدوم الإمام(عليه‎السلام) إلى نيسابور ـ وهي من أمصار خراسان فتحها الجيش الإسلامي سنة 23هـ فـي عهد الخليفة الثّانـي ويُرجِع البعض فتحها إلى وقائع سنة 31هـ. وبإمكاننا أن نعتبر سفر الإمام إلى نيسابور أروع مراحل هجرته، ومثالاً لاستقبال الأمّة إمامها.
كانت نيسابور فـي سالف العصر والأوان تعدّ حاضرة ثقافيّة وعلميّة حطّ الرحال فيها عظماء من أقاليم دانية وقاصية وانهمكوا فـي الدرس والبحث العلمي.
وقد تحدّث الحاكم النيسابوري (المولود في 405هـ) عن هذا الشّأن بإسهاب فـي تأريخه، فذكر العلماء الأجانب الذين قدموا إلى نيسابور وأقاموا فيها مشيراً إلى أسماء بلدانهم. وقد ورد فـي الكتاب المذكور ذكر بعض الصحابة والتّابعين الذين عاشوا فـي نيسابور وعملوا على بثّ المعارف والتّعاليم الدّينيّة.
دخل الإمام الرّضا(عليه‎السلام) نيسابور وسط استقبال جماهيري حافل عديم النظير، ونزل فـي ناحية تدعى «بلاش آباد» أو «بلاس آباد»، وحلّ فـي بيت امرأة اشتهرت بـ «پسنده» أو «پسنديده».
مكث الإمام(عليه‎السلام) فـي نيسابور عدّة أيّام، وذات يوم زار مرقد أحد أحفاد الإمام السّجاد(عليه‎السلام) وهو السّيّد محمّد المحروق.
يكتب الحاكم النيسابوري: «قال الإمام الرّضا(عليه‎السلام): دفن واحد من أهل بيتنا هنا فلنزره. ثمّ سار إلى روضة السلطان محمّد المحروق فـي تلاجرد حيث زار تلك الرّوضة المقدّسة... وفـي يوم من الأيّام ذهب الإمام الرّضا(عليه‎السلام) إلى حمّام فـي نيسابور يسمّى اليوم «حمّام الرضا». وكانت مياهه تنبع من عين نضبت منذ مدّة مديدة، فأشار إليها الإمام فغزرت مياهها، ثمّ بُنِي حوض فـي خارج الحمام بأمر الإمام(عليه‎السلام)، حيث اغتسل فيه وصلّى خلفه، فكان الناس يأتون ويغتسلون فـي ذلك الحوض تبرّكاً ثمّ يقيمون الصّلاة ويدعون فيستجيب الله لهم.»

 

مغادرته نيسابور وحديث سلسلة الذّهب‏

غادر الإمام(عليه‎السلام) نيسابور بعد عدّة أيّام من الإقامة فيها متوجّهاً نحو مرو وسط توديع جماهيري لم يسبق له مثيل حضره عدد كبير من العلماء. فطلب إليه إثنان من مشاهير أهل الحديث هما أبو زرعة الرازي ومحمّد بن أسلم الطوسي أن يحدّثهم بحديث من أجداده لا يأتي الدهر على ذكره، فكتب علي بن عيسى الأربلي فـي هذا الخصوص: «فعرض له الإمامان الحافظان للأحاديث النّبويّة أبو زرعة ومحمّد بن أسلم الطّوسي ـ رحمهما الله ـ فقالا: أيّها السيّد الجليل! يا ابن الأئمّة السّادة، أيّها السّلالة الطاهرة، نُقسم عليك بآبائك الطّاهرين إلاّ أريتنا وجهك المبارك وحدّثتنا بحديث عن آبائك، عن جدّك محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نذكرك فيه، فأوقف الإمام (عليه‎السلام) بغلته وألقى العماريّة عنه وطلع كالشّمس فأقرّ عيون الحاضرين بطلعته البهيّة، ووقف الناس ينظرون إليه بين صارخ وباكٍ ومتعفّر بالتّراب وجماعة كانت تقبّل قوائم بغلته، وارتفعت الأصوات بالضجيج، إلى أن صاح العلماء والفقهاء: «أيّها النّاس! اسمعوا، وتعلّموا وأنصتوا».»
وحدّث الإمام(عليه‎السلام) فـي ذلك الاجتماع الجماهيري الحاشد أهالـي نيسابور بحديث عُرف بحديث «سلسلة الذّهب»، وهو من الأحاديث الّتي تناقلته كتب الحديث، وأسناده صحيحة. وعلى الرّغم من وجود نصوص مختلفة له فـي مصادر الحديث، لكن تعدّد رواياته لا يقلّل من تواتره. وقد خصّص الشّيخ الصّدوق فـي كتاب عيون أخبار الرّضا (عليه‎السلام) باباً لهذا الحديث ـ عنونه بـ «ما حدّث به الإمام الرّضا(عليه‎السلام) فـي مربعة نيسابور» ـ ثمّ نقل أربعة أحاديث متشابهة فحوىً، ومتخالفة سنداً باختلاف يسير فـي نصوصها والحديث الأوّل منها هو: حدّثنا أبوسعيد محمّد بن الفضل بن محمّد بن إسحاق النيسابوري، عن أبـي علي الحسن بن علي الخزرجي الأنصاري السّعدي، عن عبدالسّلام بن صالح أبـي الصّلت الهروي، قال: كنتُ مع علي بن موسى الرّضا(عليه‎السلام) حين رحل من نيسابور، فإذاً محمد بن رافع وأحمد بن الحرث، ويحيى بن يحيى واسحاق بن راهويه وعدّة من أهل العلم قد تعلّقوا بلجام بغلته فـي المربعة (وطلبوا من الإمام(عليه‎السلام) أن يحدّثهم بحديث عن آبائه) فأخرج الإمام الرّضا(عليه‎السلام) رأسه من العماريّة وعليه مطرف من خزّ ذو وجهين، وقال: حدّثنـي أبـي، العبد الصّالح موسى بن جعفر عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبـي طالب، قال سمعت النّبـي(صلى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: «قال الله: إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدونـي، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ الله بالإخلاص دخل فـي حصنـي، ومن دخل فـي حصنـي أمن من عذابـي».

 

الامام فی الطریق

دخل الإمام الرّضا(عليه‎السلام) مرو عاصمة المأمون بعد مروره بنيسابور وغيرها من المناطق الأخرى، فاستقبله المأمون وأكرم وفادته.
وقد بذل المأمون جهوداً كبيرة لتنفيذ خططه السّياسيّة. وقال للإمام الرّضا(عليه‎السلام) مبتدئاً: «إنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك.» لكنّ الإمام(عليه‎السلام) رفض هذا الاقتراح وأجاب قائلاً: «إن كانت هذه الخلافة لك والله جعلها لك، فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أن تجعل لـي ما ليس لك».
لم يكفّ المأمون عن اقتراحه، واستمرّت المفاوضات شهرين اثنين. وأخيراً أبدل اقتراح الخلافة باقتراح ولاية العهد، وقال للإمام(عليه‎السلام) بمنتهى الصلافة: «فبالله أُقسم لئن قبلتَ ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك».
ولمّا لم يجد الإمام(عليه‎السلام) بدّاً من ذلك، اضطرّ إلى قبول ولاية العهد بشروط اشترطها قائلاً: «إنّي داخل فـي ولاية العهد على أن لا آمر، ولا أنهي، ولا أفتـي ولا أقضي، ولا أولّي، ولا أعزل، ولا أغيّر شيئاً ممّا هو قائم، وتعفينـي من ذلك كلّه.»
ويدلّ اشتراط هذه الشّروط على نقطة هامّة، هي أنّ الإمام الرّضا(عليه‎السلام) بوصفه نقيب العلويّين وإمام الشيعة يرى حكومة المأمون غيرشرعيّة، وأنّه يكره أداء أي دور فـي الإدارة السياسيّة للبلاد.
مهما يكن من أمر، فقد أعلن عن ولاية العهد رسميّاً فـي رمضان سنة 201 هـ وكتب المأمون بذلك إلى شتّى أرجاء البلاد، وضرب الدراهم باسم الإمام الرضا(عليه‎السلام)، وزوّجه ابنته «أمّ حبيب»، وأبدل اللباس والرايات السود التـي كانت رمز العبّاسيّين وشعارهم باللباس الأخضر والرايات الخضر. وقد أثارت هذه الخطوة حفيظة العبّاسيّين وأزّمت الموقف فـي عاصمتهم بغداد وإن أثّرت إلى حدّ ما فـي تخفيف محنة العلويّين والشّيعة.
يقول أبوالصّلت الهروي: «وجعل له ولاية العهد من بعده ليري النّاس إنّه راغب فـي الدّنيا فيسقط محلّه من نفوسهم، فلمّا لم يظهر منه فـي ذلك للنّاس إلا ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً فـي نفوسهم، جلب عليه المتكلّمين من البلدان طمعاً فـي أن يقطعه واحد منهم فيسقط محلّه عند العلماء ويشتهر نقصه عند العامّة، فكان لا يكلّمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدّهريّة ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلا قطعه وألزمه الحجّة، وكان الناس يقولون: والله إنّه أولى بالخلافة من المأمون».
ولمّا رأى المأمون نفسه فـي مأزق وعلم استياء العبّاسيّين واغتياظهم منه، قرّر أن ينقل العاصمة من مرو إلى بغداد، فتحرّك منها وفـي أثناء الطريق قضى على وزيره الإيرانـي «فضل بن سهل» فـي مدينة سرخس استرضاءاً للعبّاسيّين والقوّاد. ولدى توقّفه فـي طوس آن الأوان للقضاء على علي بن موسى الرّضا (عليه‎السلام)، لذا أقام مجلساً سمّ فيه الإمام(عليه‎السلام) بسمّ ناقع ممّا أدّى إلى استشهاد الإمام (عليه‎السلام)، فحمل الجثمان الطاهر لفلذة كبد المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى قرية سناباد (مشهد الحاليّة) ودفن في جانب القبلة من قبر هارون الرشيد.
«صلوات الله وسلامه على ذلك الإنسان السّماوي والسيّد الفاطمي يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيّاً عند ربّه».
والمشهور أنّ الإمام(عليه‎السلام) استشهد فـي الأيّام الأخيرة من صفر سنة 203هـ ، وتفيد بعض الروايات أنّه ولد له ولد واحد فقط، اسمه «محمّد» ولقبه «الجواد»، وهو تاسع أئمّة الشيعة.
يقول ولده الجليل فـي زيارة مرقد أبيه الغريب:
«ضمنت لمن زار قبر أبـي بطوس عارفاً بحقّه الجنّة على الله عزّ وجلّ».