أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب قال : لما طعن عمر جعل يألم فقال له ابن عباس و كأنه يجزعه : يا أمير المؤمنين و لئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته ثم فارقته و هو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته و هو عنك راض ثم صحبت صحابتهم فأحسنت صحبتهم و لئن فارقتهم لتفارقنهم و هم عنك راضون .
قال : أما ما ذكرت من صحبة رسول الله و رضاه فإنما ذاك من مَنّ الله تعالى مَنّ به علي ، و أما ما ذكرت من صحبة أبي بكر و رضاه فإنما ذاك من مَنّ الله جل ذكره مَنّ به علي ، و أما ما ترى من جزعي فهو من أجلك و أجل أصحابك و الله لو أن لي طِلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله عَزَّ و جَلَّ قبل أن أراه 1.
و قد سجل التاريخ له أيضا قوله : ليتني كنت كبش أهلي يسمنونني ما بدا لهم حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون فجعلوا بعضي شواء و قطعوني قديدا ثم أكلوني و أخرجوني عذرة و لم أكن بشرا 2.
كما سجل التاريخ لأبي بكر مثل هذا ، قال لما نظر أبو بكر إلى طائر على شجرة : طوبى لك يا طائر تأكل الثمر و تقع على الشجر و ما من حساب و لا عقاب عليك ، لوددت أني شجرة على جانب الطريق مر علي جمل فأكلني و أخرجني في بعره و لم أكن من البشر 3 .
و قال مرة أخرى : " ليت أمي لم تلدني ، ليتني كنت تبنة في لبنة " 4 . . . تلك بعض النصوص أوردتها على نحو المثال لا الحصر .
و هذا كتاب الله يبشر عباده المؤمنين بقوله :
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ 5.
و يقول أيضا : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ 6، صدق الله العلي العظيم .
فكيف يتمنى الشيخان أبو بكر و عمر أن لا يكونا من البشر الذي كرمه الله على سائر مخلوقاته .
و إذا كان المؤمن العادي الذي يستقيم في حياته تتنزل عليه الملائكة و تبشره بمقامه في الجنة فلا يخاف من عذاب الله و لا يحزن على ما خلف وراءه في الدنيا و له البشرى في الحياة الدنيا قبل أن يصل إلى الآخرة ، فما بال عظماء الصحابة الذين هم خير الخلق بعد رسول الله - كما تعلمنا ذلك - يتمنون أن يكونوا عذرة، و بعرة ، و شعرة ، و تبنة ، و لو أن الملائكة بشرتهم بالجنة ما كانوا ليتمنوا أن لهم مثل طِلاع الأرض ذهبا ليفتدوا به من عذاب الله قبل لقاه .
قال تعالى : .﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ 7
و قال أيضا : .﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ 8
و إنني أتمنى من كل قلبي أن لا تشمل هذه الآيات ، صحابة كبارا أمثال أبي بكر الصديق و عمر الفاروق . .
بيد أنني أتوقف كثيرا عند مثل هذه النصوص لأطلّ على مقاطع مثيرة من علاقتهم مع الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و ما شهدتها تلك العلاقة من تخلف عن إجراء أوامره و تلبية طلبه في اللحظات الأخيرة من عمره المبارك الشريف مما أغضبه و دفعه إلى أن يأمر الجميع بمغادرة المنزل و تركه ، كما أنني أستحضر أمامي شريط الحوادث التي جرت بعد وفاة الرسول و ما جرى مع ابنته الزهراء الطاهرة من إيذاء و هضم و غمط و قد قال ( صلى الله عليه و آله ) : " فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني " 9.
و قالت فاطمة لأبي بكر و عمر :
نشدتكما الله تعالى ألم تسمعا رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) يقول : " رضا فاطمة من رضاي و سخط فاطمة من سخطي فمن أحب ابنتي فاطمة فقد أحبني و من أرضى فاطمة فقد أرضاني و من أسخط فاطمة فقد أسخطني ، قالا : نعم سمعناه من رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فقالت : فإني أشهد الله و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضيتماني و لئن لقيت النبي لأشكونكما إليه " 10.
و دعنا من هذه الرواية التي تدمي القلوب ، فلعل ابن قتيبة و هو من علماء أهل السنة المبرزين في كثير من الفنون و له تآليف عديدة في التفسير و الحديث و اللغة و النحو و التاريخ ، لعله تشيع هو الآخر كما قال لي أحد المعاندين مرة عندما أطلعته على كتابه تاريخ الخلفاء ، و هذه هي الدعاية التي يلجأ إليها بعض علمائنا بعدما تعييهم الحيلة ، فالطبري عندنا تشيع و النسائي الذي ألف كتابا في خصائص الإمام علي تشيع و ابن قتيبة تشيع و حتى طه حسين من المعاصرين لما ألف كتابه الفتنة الكبرى و ذكر حديث الغدير و اعترف بكثير من الحقائق الأخرى فهو أيضا تشيع ! ! .
و الحقيقة أن كل هؤلاء لم يتشيعوا و عندما يتكلمون عن الشيعة لا يذكرون عنهم إلا ما هو مشين ، و هم يدافعون عن عدالة الصحابة بكل ما أمكنهم ، و لكن الذي يذكر فضائل علي بن أبي طالب و يعترف بما فعله كبار الصحابة من أخطاء نتهمه بأنه تشيع ، و يكفي أن تقول أمام أحدهم عند ذكر النبي : " ( صلى الله عليه و آله ) " أو " تقول علي ( عليه السلام ) " ، حتى يقال : إنك شيعي ، و على هذا الأساس قلت يوما لأحد علمائنا و أنا أحاوره : ما رأيك في البخاري ؟ قال : هو من أئمة الحديث و كتابه أصح الكتب بعد كتاب الله عندنا و قد أجمع على ذلك علماؤنا .
فقلت له : إنه شيعي ، فضحك مستهزئا و قال : حاشى الإمام البخاري أن يكون شيعيا ! ! قلت : أو ليس أنك ذكرت بأن كل من يقول : " علي ( عليه السلام ) " فهو شيعي ؟ قال : بلى ، فأطلعته و من حضر معه على صحيح البخاري و في عدة مواقع عندما يأتي باسم علي يقول : ( عليه السَّلام ) و فاطمة ( عليها السلام ) و الحسين بن علي ( عليهما السلام ) 11 فبهت و ما دري ما يقول .
و أعود إلى رواية ابن قتيبة التي ادعى فيها أن فاطمة غضبت على أبي بكر و عمر ، فإذا شككت فيها فإنه لا يمكنني أن أشك في صحيح البخاري الذي هو عندنا أصح الكتب بعد كتاب الله ، و قد ألزمنا أنفسنا بأنه صحيح و للشيعة أن يحتجوا به علينا و يلزموننا بما ألزمنا به أنفسنا و هذا هو الإنصاف للقوم العاقلين .
فها هو البخاري يخرج من باب مناقب قرابة رسول الله ، أن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) قال : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني .
كما أخرج في باب غزوة خيبر ، عن عائشة أن فاطمة ( عليها السلام ) بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منه شيئا فوجدت 12 فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت 13.
و النتيجة في النهاية هي واحدة ذكرها البخاري باختصار و ذكرها ابن قتيبة بشيء من التفصيل ، ألا و هي أن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) يغضب لغضب فاطمة و يرضى لرضاها و أن فاطمة ماتت و هي غاضبة على أبي بكر و عمر .
و إذا كان البخاري قد قال : ماتت و هي واجدة على أبي بكر فلم تكلمه حتى توفيت فالمعنى واحد كما لا يخفى ، و إذا كانت فاطمة سيدة نساء العالمين كما صرح بذلك البخاري في كتاب الاستئذان باب من ناجى بين يدي الناس ، و إذا كانت فاطمة هي المرأة الوحيدة في هذه الأمة ، التي أذهب الله عنها الرجس و طهرها تطهيرا ، فلا يكون غضبها لغير الحق و لذلك يغضب الله و رسوله لغضبها ، و لهذا قال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه و سخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر باكيا حتى كادت نفسه أن تزهق ، و هي تقول : و الله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها ، فخرج أبو بكر يبكي و يقول : لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي 14
.
غير أن كثيرا من المؤرخين و من علمائنا ، يعترفون بأن فاطمة ( عليها السلام ) خاصمت أبا بكر في قضية النحلة و الإرث و سهم ذي القربى فردت دعواها حتى ماتت و هي غاضبة عليه ، إلا أنهم يمرون بهذه الأحداث مرور الكرام و لا يريدون التكلم فيها حفاظا على كرامة أبي بكر كما هي عادتهم في كل ما يمسه من قريب أو بعيد ، و من أعجب ما قرأته في هذا الموضوع قول بعضهم بعد ما ذكر الحادثة بشيء من التفصيل قال : " حاشى لفاطمة من أن تدعي ما ليس لها بحق ، و حاشى لأبي بكر من أن يمنعها حقها " .
و بهذه السفسطة ظن هذا العالم أنه حل المشكلة و أقنع الباحثين و كلامه هذا كقول القائل : " حاشى للقرآن الكريم أن يقول غير الحق ، و حاشى لبني إسرائيل أن يعبدوا العجل " .
لقد ابتلينا بعلماء يقولون ما لا يفقهون و يؤمنون بالشيء و نقيضه في نفس الوقت و الحال يؤكد أن فاطمة ادعت و أبا بكر رفض دعواها فإما أن تكون كاذبة و " العياذ بالله " حاشاها ، أو أن يكون أبو بكر ظالما لها و ليس هناك حل ثالث للقضية كما يريدها بعض علمائنا .
و إذا امتنع بالأدلة العقلية و النقلية أن تكون سيدة النساء كاذبة لما ثبت عن أبيها رسول الله قوله : فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ، و من البديهي أن الذي يكذب لا يستحق مثل هذا النص من قبل الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، فالحديث بذاته دال على عصمتها من الكذب و غيره من الفواحش ، كما أن آية التطهير دالة هي الأخرى على عصمتها و قد نزلت فيها و في بعلها و ابنيها بشهادة عائشة نفسها 15، فلم يبق إذن إلا أن يعترف العقلاء بأنها ظلمت فليس تكذيبها في دعواها إلا أمرا ميسورا لمن استباح حرقها إن لم يخرج المتخلفون في بيتها لبيعتهم 16.
و لكل هذا تراها - سلام الله عليها - لم تأذن لهما في الدخول عليها عندما استأذنها أبو بكر و عمر ، و لما أدخلهما علي أدارت بوجهها إلى الحائط و ما رضيت أن تنظر إليهما 16.
و قد توفيت و دفنت في الليل سرا بوصية منها حتى لا يحضر جنازتها أحد منهم 13 ، و بقى قبر بنت الرسول مجهولا حتى يوم الناس هذا و إنني أتسأل لماذا يسكت علماؤنا عن هذه الحقائق و لا يريدون البحث فيها و لا حتى ذكرها ، و يصورون لنا صحابة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و كأنهم ملائكة لا يخطئون و لا يذنبون . السماوي 17
___________
1. صحيح البخاري ج 2 ص 201 .
2. منهاج السنة لابن تيمية ج 3 ص 131 . حلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 ص 52 .
3. تاريخ الطبري ص 41 . الرياض النضرة ج 1 ص 134 . كنز العمال ص 361 . منهاج السنة لابن تيمية ، ج 3 ص 120 .
4. تاريخ الطبري ص 41 الرياض النضرة ج 1 ص 134 . كنز العمال ص 361 . منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج 3 ص 120 .
5. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآيات: 62 - 64، الصفحة: 216.
6. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآيات: 30 - 32، الصفحة: 480.
7. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 54، الصفحة: 215.
8. القران الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 47 و 48، الصفحة: 463.
9. صحيح البخاري ج 2 ص 206 باب مناقب قرابة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) .
10. الإمامة و السياسة لابن قتيبة ج 1 ص 20 . فدك في التاريخ ص 92 .
11. صحيح البخاري ج 1 ص 127 ، 130 و ج 2 ص 126 ، 205 .
12. وجدت : غضبت .
13. a. b. صحيح البخاري ج 3 ص 39 .
14. تاريخ الخلفاء المعروف بالإمامة و السياسة لابن قتيبة الدينوري ج 1 ص 20 .
15. صحيح مسلم ج 7 ص 121 و ص 130 .
16. a. b. تاريخ الخلفاء ج 1 ص 20 .
17. ثم اهتديت ، للدكتور محمد التيجاني السماوي ، تحقيق و تعليق مركز الأبحاث العقائدية