إن سيدة النساء فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مجهولةٌ قدراً ومهضومةٌ حقّاً، ولعل من مصاديق مجهولية قدرها، عدم الاستفادة من كلماتها وخطبها في: (الفقه) وعدم إدراجها ضمن الأدلة أو المؤيدات التي يُعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية.
فللسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) دور كبير في بناء وتدعيم قواعد الدين الإسلامي وتثبيت أركانه، إذ يقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (ولولا فاطمة لما خلقتكما).
فالزهراء (عليها السلام) سر الإمامة، ومحور خلق الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ..إذ إنها أنارت الحياة، وأقامت الدين الحق بأبنائها المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم) وبمواقفها التاريخية..
والى يومنا هذا ترى الإسلام محفوظاً بفضل وجودها ووجود آخر أئمة الهدى صاحب العصر والزّمان الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وهو بركة من بركات الصديقة الطاهرة، عليها وعلى أبنائها أفضل الصلاة والسلام.
ومن أهم ما بقي لنا من السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خطبتها في المسجد أمام الظالمين ومغتصبي حق الإمامة التي جعلها الله في بعلها وولدها عليهم الصلاة والسلام والتي اشتملت على علوم مختلفة ومعارف جمة، نختار منها ما يتعلق بعلم الفقه حيث قالت عليها السلام: «الجهاد عزّاً للإسلام».
ويمكن أن نستنتج من هذه العبارة المباركة عدة مسائل فقهية منها:
المسألة الأولى
يجب الجهاد في سبيل الله تعالى، والمراد بالجهاد: ما ذكر في الفقه بأقسامه الثلاثة: الابتدائي والدفاعي والبغاة، لا جهاد النفس، إذ المنصرف منه ذلك، وبقرينة قولها: (عزاً للإسلام).
وإن كان جهاد النفس أيضاً من الواجبات، بل سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الجهاد الأكبر)، وقد يكون ذلك نظراً لأصعبيته من جهات عديدة، إذ يستمر طوال حياة كل فرد ويواجه مختلف شهوات النفس: من حب المال والرئاسة، والرياء والسمعة، والكبر والعجب، وحفظ اللسان واليد والعين والسمع و…
قولها (عليها السلام): (والجهاد عزاً للإسلام) لأن أعداء الإسلام يحاولون ـ باستمرار ـ النفوذ إلى داخل بلاد المسلمين، والسيطرة على مقدراتهم ـ بشكل أو بآخر ـ فالجهاد يكون وقاية أو علاجاً رفعاً أو دفعاً، كما يكون سبباً لتقدم بلاد الإسلام، ويكون سبباً لإرجاع المنحرف إلى الصراط المستقيم، إذ الجهاد ابتدائي ودفاعي واصلاحي، كما قال سبحانه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله).
المسألة الثانية
كل ما يوجب عز الإسلام فهو واجب أو مستحب، فإذا كان وجوب الجهاد لأجل إعزاز الإسلام كان كل ما يوجب عزه راجحاً، وقد يصل إلى مرحلة الوجوب، باعتبار أن (العزة) ذات مراتب، بعضها واجب التحصيل، وبعضها مندوب.
فمثلاً (شعائر الله) بعضها واجب وبعضها مستحب، على حسب مالها من المدخلية في (عز الإسلام) كأحد الملاكات، كما لا يخفى.
القصاص حقناً للدماء
وفي المسائل التي يمكن استنتاجها من هذه العبارة الشريفة ما يلي:
المسألة الأولى
يجوز القصاص، وليس هو بواجب، فهو (حق) أعطاه الله للمعتدى عليه أو لذويه، له أن يأخذ به وله أن يعفو.
فالمراد بقولها (عليها السلام): (جعل الله القصاص) أي حق القصاص، بل قد يكـون الأرجـح ترك الأخذ بهذا الحق، ولذا قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص .. فمن عفي له عن أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة).
وقال عز وجل: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له).
قال الإمام الصادق عليه السلام في تفسيره للآية الشريفة (فمن تصدق به فهو كفارة له): (يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا عنه من جراح أو غيره).
وجعل الله تعالى حق القصاص، هو الذي (يحقن الدماء)، ولا يلزم جعل (وجوب القصاص) بل جعل الحقن أولى بدرجات من جعل الوجوب، لما فيه من رعاية شتى مقتضيات باب التزاحم، ولذا عبر تعالى بـ: (تصدق)، في الآية الشريفة.
وقد روي: (ان القصاص كان في شرع موسى عليه السلام والدية حتماً كان في شرع عيسى عليه السلام فجاءت الحنيفية السمحة بتسويغ الأمرين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في وصيته للمسلمين: «أيها الناس احيوا القصاص».
و(القصاص) أعم من النفس والجوارح والقوة، وإن كان في كلامها عليها السلام قد يقال بانصرافه للقتل، نظراً لـ(حقناً للدماء) فتأمل.
المسألة الثانية
من الضروري بيان فلسفة العقوبات في الإسلام للناس، حتى لا يتهموا الإسلام بالغلظة والقساوة، كما أشارت اليها (عليها السلام)، وكما ورد في كثير من الروايات.
فإن بعض الناس يتصورون أن بعض العقوبات قاسية من جهة أن الأفضل مثلاً في القاتل أن يسجن أو تؤخذ منه الدية لا أن يقتل، لكن هذه المزاعم غير تامة، فإن الإنسان إذا علم أن جزاء القتل هو السجن والغرامة، لا القصاص بالمثل، فإنه عادة لايعدل عن الجريمة، وخاصة إذا كان قادراً على التحايل والتلاعب بالقانون، من خلال دفع الرشوة، واتخاذ المحامي بالباطل، وتخفيف مدة العقوبة وغير ذلك.
ولذلك قالت عليها السلام: «والقصاص حقناً للدماء».
وقالوا: (قتل البعض إحياء للجميع).
وقالوا: (القتل أنفى للقتل).
وقال القرآن الكريم: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون).
ومن أوضح الأدلة على ذلك ما نشاهده عن ازدياد الجرائم في العالم الغربي، وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر.
المسألة الثالثة
حقن الدماء واجب، وإراقتها محرم، ففي الحديث: (زوال الدنيا أهون على الله من إراقة دم مسلم).
وقال (عليه السلام): (من اعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة بين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله تعالى).
وقال (عليه السلام): (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله).
و(القصاص) المذكور في كلامها (عليها السلام) هو إحدى الطرق التي تؤدي إلى حقن الدماء، فكل ما يؤدي – ولو تسبيباً – إلى إراقة الدم محرم، من غير فرق بين إراقة الدم كلياً كالقتل، أو جزئياً كما في قطع يد أو رجل أو فقء عين أو جدع أنف أو صلم اذن أو ما أشبه ذلك.
ولا يخفى أن وجوب (حقن الدم) وحرمة إراقته من باب المثال، وإلا فمطلق إزهاق النفس حرام ولو بحرق أو غرق أو سم أو ما أشبه ذلك، وهكذا بالنسبة إلى إسقاط عضو عن الفعالية وإذهاب قوة.
نعم لا يجوز القصاص بالمثل في بعض الموارد، مثلاً من أحرق إنساناً فإنه لا يحرق في قباله، كما أن من أغرق شخصاً فإنه لا يغرق كما اغرق، وهكذا، وقد ثبت هذا الاستثناء بالأدلة الخاصة المخصصة لقوله سبحانه: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).
وقوله سبحانه: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)، وما أشبه ذلك من العمومات التي لولا التخصيص لكانت شاملة لكل الأقسام.
الوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة
المسألة الأولى
يجب الوفاء بالنذر اذا اجتمعت فيه شروطه، وفي مخالفته الكفارة، كما فصل في الفقه، بخلاف النذر المنهي كما ورد: (ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن النذر لغير الله ونهى عن النذر في معصية او قطيعة رحم).
قال تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً).
وهذا مما يشير إلى أن عدم الوفاء بالنذر يعرض الإنسان لشر ذلك اليوم.
وقال سبحانه: (واوفوا بعهد الله اذا عاهدتم).
وقال جل وعلا: (ليوفوا نذورهم).
وقال (عليه السلام): (كن منجزاً للوعد موفياً بالنذر).
ولا يبعد أن يراد بالنذر في قولها (عليها السلام) الأعم من النذر واليمين الاصطلاحيين، فإن (نذر) بمعنى الفرض والإيجاب واليمين: القسم وفيه الغرض، وهو ـ على قول ـ مأخوذ من اليد اليمنى حيث أن المتحالفين كانا ـ غالباً ـ يضرب كل واحد منهما يمينه بيمين صاحبه فيتحالفان.
ومنه يعلم حال العهد ايضا، فهو قسم من النذر بالمعنى الأعم…
وكان اهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) المصداق الأجلى لمن يوفون بالنذر، قال تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً).
وكان وفاؤهم به في المرتبة العليا، وكانوا هم الأولى بصدق هذه الصفة عليهم، كما في قصة نزول سورة (هل أتى) وغيرها.
قولها (عليها السلام): (والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة) فان الله سبحانه تفضل على من وفي بنذره بغفران ذنبه، ومن الممكن أن يكون ذلك عقلياً أيضاً، يراد به المغفـرة الدنيويـة والأثر الوضعي التكويني، فالنذر معناه الإيجاب، فمن أوجب على نفسه شيئاً اذا وفى به ستر في المجتمع ما سلف من أخطائه، فيكون نظير معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر).
ومما يؤيده قوله(صلى الله عليه وآله): (…واذا نقضوا العهد سلط الله عليهم عدوهم).
ولكن قد يقال: بأن الظاهر ارادة المعنى الأول في قولها (عليها السلام): (تعريضاً للمغفرة) ويمكن القول بإرادة كلا المعنيين، فتكون اللام للجنس، ولا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما لا يخفى.
هذا وقد ورد في بعض التفاسير: (يوفون بالنذر: الذي اخذ عليهم من ولايتنا).
وعنه (عليه السلام): (يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا).
المسألة الثانية
من اللازم ان يجعل الإنسان نفسه في معرض مغفرة الله سبحانه، وان يتجنب المواطن التي تجعله في معرض غضبه تعالى.
فمصاحبة الأخيار والجلوس في مجالسهم والنية الصالحة وان لم يمكن تحقيقها خارجاً وشبه ذلك، مما يجعل الإنسان في معرض مغفرته جل وعلا، وفي الحديث الشريف: (ان لربكم في ايام دهركم نفحات الا فتعرضوا لها).
وقال تعالى: (وسارعوا الى مغفرة من ربكم). وقال سبحانه: (والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً). ومن البين ان ما يوجب التعرض لمغفرة الله الواجبة واجب، وما يوجبه من المستحبات مستحب. و(الوفاء بالنذر) من الواجبات التي جعلها الله سبحانه (تعريضاً لمغفرته) فهو بيان منها (سلام الله عليها) لإحدى الطرق التي تقود الى ذلك.