عامل مهم في صناعة التاريخ لم يعرفه المؤرخون
  • عنوان المقال: عامل مهم في صناعة التاريخ لم يعرفه المؤرخون
  • الکاتب: الشيخ علي الكوراني العاملي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 21:37:39 13-9-1403

 

1 ـ سياسة إجبار الشيعة على ولاية أبي بكر وعمر !

يقول بعض الباحثين : من الخطأ تفسير التاريخ بعامل الصراع المذهبي وتصوير أن كل أحداثه كان يحركها الصراع السني الشيعي !
فالقضية انتهت من يومها ، بعد أن رضي علي عليه السلام وبايع أبا بكر وعمر .
والقضية انتهت ، من يوم انتهت الدولة الدينية وجاءت الدولة العصرية .
والقضية انتهت ، من فكر الجيل المعاصر الذي يهتم بالقضايا المعاصرة ، ولا يهتم بالتسنن والتشيع ، ولا بالخلاف الذي كان بين علي وأبي بكر وعمر .
والقضية انتهت ، حيث بدأ العالم في الغرب والشرق يتشكل في أوطان ومجموعات بشرية ، تتعايش وتتعاون وتتحد على أساس الحقوق الإنسانية في الحرية والديمقراطية والمساواة ، بعيداً عن الإنتماء القومي والديني والمذهبي !
يقول مثل هذا المثقف : إن تفسير تاريخنا وحاضرنا بالعامل المذهبي ، مضافاً الى أنه خطأ من ناحية علمية ، فهو خطرٌ على المجتمع لأنه يثير حساسيات ماضية ، ويحيي أضغاناً زائلة ، ويبث الفرقة بين الناس !
نقول لهؤلاء : شكراً لكم على هذا الكلام الجميل ، لكنه إنما ينطبق على المنفتحين مثلكم على مفاهيم العصر ، وحقوق الإنسان ، والتعددية والتعايش مع من يخالفهم في الرأي والمذهب .. لكن كم يبلغ هؤلاء في من حولكم ؟!
إنهم نسبة قليلة ضئيلة أيها السادة ، أما عامة الناس وملايينهم الذين يعيشون في الرباط والقاهرة وبيروت وبغداد وطهران وكراتشي وجاوة ، فهو عندهم كلامٌ نظري مفصولٌ عن الواقع ، والواقع عندهم ضده تماماً !
إنه كلامٌ فيما ينبغي ، لكن مشكلتنا ما هو موجود الآن والذي هو ابن الماضي القريب ، وحفيد الماضي البعيد !
فالواقع هو الديكتاتورية .. وليس كلامنا عن الحكومات بل عن المسلمين ! فإن واقعهم الفرض بالجبر والقهر ، والتعتيم والعزل !
الجبر على أن تتولى أبا بكر وعمر وتعتقد فيهما في داخل عقلك وقلبك ما يفرضونه عليك ! وإلا ، فجزاؤك القمع والقهر والحرمان من الحقوق المدنية بل من حق الحياة ، لأنهم يُفْتُونَ بهدر دمك ووجوب قتلك ، وبأن أموالك غنائم شرعية حلالٌ زلالٌ لهم ، وعِرْضُكَ أي زوجتك وأختك وأمك ، يَصِرْنَ إماءً مملوكات شرعاً لمن يستولي عليهن ، ولا يحتاجون الى عقد زواج عليهن ولا عقد إجارة ليأمرونهنَّ بخدمته !
يقول أصحاب الكلام الشاعري الجميل : هذا كلامٌ فيه مبالغة وتضخيم !
ونقول لهم : نعذركم لأنكم لم تتطلعوا على ملفات محاكم البلد الفلاني ومئات أحكام الإعدام التي أصدرها القضاة بتهمة المساس بأبي بكر وعمر !
ولا اطلعتم على فتاوى تكفير ملايين المسلمين ومئات ملايينهم وهدر دمائهم بسبب أنهم لا يعتقدون ما يعتقده أصحاب الفتاوى في أبي بكر وعمر !
ولا اطلعتم على سياسة الطالبان في أفغانستان ودماء ألوف الشيعة التي أراقوها ونسائهم التي سَبَوْهَا واسْتَرَقُّوها ، بسبب أبي بكر وعمر !
ولا على التطبيق العملي لفتوى الزرقاوي من جماعته وحلفائهم جماعة صدام ، وما أراقوا من دماء زكية لرجال ونساء وأطفال باسم أبي بكر وعمر !
يقولون لك : هذه مواقف المتعصبين من الوهابيين السلفيين ، فلا يقاس عليها الوضع في كافة بلاد المسلمين !
نقول : نشكركم لأنكم اعترفتم بأن العامل المذهبي عامل فعالٌ في صناعة الأحداث عند هؤلاء الذين تسمونهم المتعصبين ، لكن ألا ترون أن أفكارهم المتعصبة هي المسيطرة أو المتبناة في عامة البلاد ؟! فلو أن إمام مسجد صغير في مصر ، وهي ألْيَنُ البلاد السنية وأكثرها مرونةً ، قال أنا لا أعتقد بإمامة أبي بكر وعمر ورأيي فيهما سلبي ، فماذا سيكون موقف الناس منه ثم موقف السلطة ! سيفتحون عليه قضية في المحكمة أنه عدو لصحابة النبي صلى الله عليه وآله ، وعدو لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله ولقرآنه ودينه! فهل هذا إلا الإكراه الفكري ؟!
أليس معناه أولاً : أن حزب أبي بكر وعمر لهم الحق في السيطرة على عقلك وقلبك ، فهم لذلك يُصدرون لك الأمر أن تجعل في فكرك وشعورك عقيدة ولاية أبي بكر وعمر ، وأنهما إمامان بعد النبي صلى الله عليه وآله .
تسألهم : أنا بشرٌ مثلكم ، فلماذا تصادرون حريتي في أن أفكر وأعتقد ما يصل إليه فكري ويقتنع به شعوري ، فمن أعطاكم هذا الحق والولاية عليَّ ؟ فيقولون لك : الله أعطانا ذلك !
تقول لهم : ثم كيف تطلبون مني أمراً غير مقدور ، فالقناعة الفكرية والحب القلبي ليس أمراً اختيارياً ! فيقولون : لا ، نحن نأمرك أن تقنع نفسك وقلبك !
أليس معناه ثانياً : أنهم حزبُ ( من لم يكن معنا فهو علينا ومن كان علينا يقتل ) ! وهو نفس منطق الذين هاجموا بيت علي وفاطمة عليهما السلام يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وقالوا : من لم يبايع أبا بكر فحكمه أن نحرق عليه بيته !
ومعناه ثالثاً : أن الله تعالى فَوَّض أبا بكر وعمر أن يفرضا على هذه الأمة بعد نبيها رأيهما ، ويحرِّما عليها الرأي الآخر تحت طائلة العقوبة بالقتل ، ولهذا كان حكم أهل البيت عليهم السلام والسبعين صحابياً الذين امتنعوا عن بيعة أبي بكر القتل أو الحرق ! وهذا ما لم يفوضه لنبي ولا لصحابة نبي طوال التاريخ !
ومعناه رابعاً : أنه لا يجوز لأحد من الأمة أن يطرح الرأي الآخر ، حتى لو كان حديثاً عن وصية النبي صلى الله عليه وآله بإمامة أهل بيته عليهم السلام وأنها إمامة ربانية !
ومعناه خامساً : أنه لا يجوز لأحد أن يتكلم بما يعتبر عند حزب أبي بكر وعمر إساءةً لهما ، حتى لو كان كلامه آيةً قرآنيةً أو حديثاً نبوياً !
معناه : أن تكون مسلماً يعني أن تقبل بمصادرة حريتك وفكرك ومشاعرك ! وأن تدخل في أمة الرأي الواحد ، وفي دولة الحزب الواحد ، وديكتاتوريته !
هذا هو واقع تاريخنا البعيد والقريب ، تاريخ الدول والحكام وعلمائهم! وهو نفسه الواقع في عصرنا ، وليس الكلام الجميل الذي يقوله المنادون بالإنسان وحقه في الرأي والتعبير !
فهل رأيت كيف عمل أتباع الخلافة وما زالوا يعملون ليفرضوا على كل الأمة إمامة أبي بكر وعمر وتقديسهما ؟ وهل اقتنعت أن خطة فرض ولايتهما كانت وما زالت عاملاً في صناعة الأحداث ؟!

 

2 ـ الوحدة الاسلامية من وجهة نظر اهل البيت عليهم السلام

من الأدوات المهمة التي يستعملها أتباع الخلافة لقمع مخالفيهم وإجبارهم على تولي أبي بكر وعمر ، شعار : الوحدة الإسلامية .
يقولون لك : ألستَ تعتقد أن وحدة الأمة الإسلامية فريضةٌ شرعية على جميع المسلمين ، ومطلبٌ حياتي منطقيٌّ للجميع ؟ فتقول : بلى ، أعتقد بذلك .
يقولون لك : إذن حَكَمْتَ على نفسك! فلا تطالب بالحرية التي تضر بالوحدة ويجب عليك أن تتولى أبا بكر وعمر ولا تمس بهما ، لأن المساس بهما يثير أولياءهما ويخرِّب الوحدة !
ثم يقولون لك إن من يتولونهما هم الأكثرية وعلى الأقلية أن تطيع الأكثرية !
وهو كلام ظاهره حقٌّ وباطنه باطل ، لأن نتيجته: مصادرة قناعتك وعقيدتك ومصادرة أرادتك ومصيرك !
تقول لهم : يا مسلمين ألا يوجد عندكم حلٌّ آخر ، يضمن وحدتنا ويرضيكم ولا يسلبني ما منحني ربي من حرية التفكير والتعبير والإعتقاد والعبادة ؟
يقولون : لا ، لا يوجد إلا ما قلنا لك !
إن الخطأ في هذا المنطق أنه يحصر مشاريع الوحدة الإسلامية والإنسانية في الإجبار على مذهب الحاكم ! وهي الوحدة التي طبقها الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وآله أبو بكر وعمر وعثمان وبنو أمية وبنو العباس ، ثم دولة الأدارسة في المغرب ، والأمويين في الأندلس ، والمماليك في مصر ، ودولة أبناء عثمان جُق !
وهي الوحدة التي يتبناها الوهابيون وكل الإسلاميين أصحاب مشروع الخلافة في عصرنا ، وتقوم على أساس الغلبة القبلية والقهر ، وفرض البيعة بالقوة بلا شورى ولا انتخاب ولا حق في الإمتناع عن الرأي ! وبكلمة : على أساس مصادرة حرية كل من خالف الحاكم ! إنهم يريدون إعادة دورة النظام القرشي الذي أنتجته السقيفة وقمعت به الأنصار وأهل البيت عليهم السلام ،فكان نتيجته أن تَسَلَّطَ بنو أمية ، ثم كانت ردة الفعل فتسلط بنو عباس ، ثم تسلط العسكر من المماليك والأتراك ، حتى دفنت الخلافة العثمانية في استانبول ، بأيدي الغربيين ومساعدة الوهابيين !
أما مذهب أهل البيت عليهم السلام فيقدم مشروعاً للوحدة بين المسلمين أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم ، هو الوحدة السياسية التي تخلو من القهر والغلبة ، وتحترم حرية الإنسان المسلم التي قررها له الإسلام ، في التفكير والبحث والإجتهاد ، والإعتقاد والتعبير والممارسة . فهذه هي الوحدة التي دعا إليها وعمل لها أهل البيت النبوي الأطهار عليهم السلام بعد أن فقدت الأمة وحدتها الطبيعية بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وانتقلت الى الوحدة الجبرية بالغلبة والقهر ، وفرض مذهب الخليفة الحاكم .

 

3 ـ كان التشيع دائما طاقة لتجديد حياة الامة

من سنن الله تعالى أنه يَمُدُّ الحياة البشرية بالطاقة الجديدة دائماً ، طاقة الطبيعة المتجددة يومياً وسنوياً .. وطاقة الناس الذين يولدون فيجددون حياة الأمم والمجتمعات . وبمجموعة أخرى من عوامل استمرار الكائن الفردي أو الإجتماعي ، التي تُؤَمِّن مواصلته للحياة وتطوره وتكامله.
وعندما قال الله تعالى لعرب الجزيرة في أواخر حياة نبيه صلى الله عليه وآله: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ 1 ، فهو يقصد أن هذا القانون جاهز وَسَيُفَعِّلُه الله تعالى في وقته! خاصةً أنه حذرهم به في سورة ( محمد ) التي تطلب منهم تحديد موقفهم من نبوته وعترته ، وحمل رسالته من بعده صلى الله عليه وآله !يقصد عز وجل أن عنده مخازن جديدة من الأمم الأخرى سيضيفها إلى الأمة التي أنشأها فيمدها بدم جديد ، ويكون الجيل الثاني خيراً من الأول﴿ ... ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ 1 ! وليس كما زعموا أنه أفضل الأجيال !
فلو لم تدخل الشعوب الأخرى المحيطة بالجزيرة في الإسلام ، لأكلت قبائل الجزيرة بعضها بعضاً باسم الإسلام ، وأماتوه وماتوا !
كيف لا ، وهم الذين أكلوا بعضهم بالأمس في صراعات سخيفة وحروب وحشية ، من أجل متاع بألف درهم ، أو من أجل عنفوان بدوي فارغ ؟!
إن دخول اليمن في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله في الأمة وبطريقة فيها إعجاز كان مقصوداً إلهياً لإغناء مخزون الأمة ، فلا ننسَ أن ثقل الفتوحات الإسلامية قام على أكتاف اليمانيين .
وكذلك كان دخول الشعوب المحيطة في الجزيرة في الإسلام مقصوداً إلهياً أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وبشَّر به من أول بعثته ، فوعد أمته بلاد كسرى وقيصر ، ثم دفع الأمة باتجاهه بحيث يجد الحاكم بعده نفسه مجبراً على مد الإسلام إلى محيط الجزيرة ، ولهذا فرضت الفتوحات نفسها على أبي بكر وعمر رغم مخالفتهما لها ! وهذا موضوع مهم لسنا في صدد بحثه ، بل نحن بصدد بيان المخطط الإلهي لبقاء الإسلام وتجديد الطاقة والدم في الأمة بمخزون العترة النبوية ومأساتها ! فلولا وجود أهل البيت عليهم السلام لفرضت القبائل القرشية خلافتها بدون معارض ، أو بمعارض من الأنصار لا يملك بديلاً فكرياً ولا عملياً ، ولَسَارَ التاريخ بمسار آخر ، في منطقة جغرافية أقل ، وبعقلية إدارية شبيهة بتقاسم قبائل قريش للرفادة والسقاية والحجابة وراية الدفاع عن حقوق القبيلة !
ولَمَا عرفت الأمة البديل الكامل لمذاهب الخلافة ، في العقيدة والشريعة ، ولما عرفت الإجتهاد ودور العقل ، والإنفتاح على العلوم ..
ولولا عليٍّ وبقية العترة النبوية عليهم السلام لَمَا ظهرت حقيقة زعماء قريش وفرضهم على تاريخ الأمة قانون الغلبة والتسلط والإجبار ، ومصادرة حريات الآخرين وقتلهم ! ولَمَا وجد مشروع إعادة العهد النبوي واستنقاذ الأمة من مخالب بني أمية ! ولَمَا كانت ثورة الإيرانيين على ظلم بني أمية وتقديمهم قيادة الثورة على طبق من الدماء إلى العباسيين .
ولولا العترة النبوية الطاهرة عليهم السلام ، لَمَا كانت مأساتهم وإقصاؤهم عن الحكم ، واضطهادهم وظلمهم وتقتيلهم في كل أرض وتحت كل نجم . ولَمَا وجد دويُّ هذه ( التراجيديا ) الدينية العميق في وجدان الأمة ، ولا تكوَّن مخزونها الفاعل في ضميرها ، وصار طاقة تحركها باتجاه التغيير والثورة .
إن كل ما نراه اليوم من غنى وتحفز في ثقافة الأمة ، وهذا التطلع من مفكري الأمة ومثقفيها للتعرف على قضية أهل البيت وأطروحتهم عليهم السلام .. إنما جاء من قناعة الأمة بأن فكر الخلافة والإجبار قد استنفد طاقته ، فهي تبحث عن بديله التاريخي عند أهل البيت عليهم السلام .
وبهذا المنظار ، نجد أن التشيع كان في تاريخ الأمة وما زال ، مضخةً تُجدد دورتها الدموية كلما انخفض ضغط الأمة من تراكم الفساد وتفاقم المرض ! ونفحةً نبوية تُرَوْحِنها ، كلما دفعها هجيرها البدوي نحو اليَبَس !
ألا ترى كيف تَخَثَّر المخزون الديني والروحي والإنساني في أواخر خلافة عثمان ؟ فثار الصحابة وولوا علياً عليه السلام فأيقظ حيويتها وأغنى مخزونها ؟
ثم كيف انخفض مستوى الأمة الإنساني في زمن يزيد ، فأحيا مسيرتها الإمام الحسين عليه السلام بدمه الطاهر ، ودماء الطالبين بثاره ، وأجَّجَ فاعليتها ؟!
والى أيِّ مستوىً هابط وصلت الأمة بتهتك خلفاء بني أمية ، فضَخَّت فيها ثورة زيد بن علي رحمه الله وشعارات الحسنيين والعباسيين بثارات الحسين وظلامات أهل البيت عليهم السلام ، روحَ الثورة والتغيير والتجديد ؟
وعندما أفرط ملوك بني عباس بطغيانهم ، كيف مدَّت ثورات العلويين الأمة بالقيم ، وعلمتها انتزاع حقها في الثورة والتغيير ؟
وعندما غرقت الدولة العباسية في أفكار المادية اليونانية والفارسية ، كيف أثرى الإمام الرضا عليه السلام مخزونها من صريح الإسلام ووحي النبوة ؟
وعندما تهرَّأ النظام العباسي ، كيف جاءت الموجة الفاطمية من الغرب وقدمت بديلاً منافساً ، جدَّد الحياة والتفكير في الأمة ؟
ثم رفدتها موجة البويهيين ففرضت على العاصمة أن تخرج من جمودها الحنبلي ، وتعطي لمذهب أهل البيت عليهم السلام حريته ليغني فكرها !
وعندما ضعفت دولة البويهيين وجاءت موجة التعصب والترف السلجوقي كيف فَقَدَ جسم الأمة قدرته على المقاومة والدفاع ، فجاءتها دفعة المضادات الحيوية من وحشية المغول لتحرك كرياته البيضاء ، ولم تكن هذه الكريات المباركة إلا الشيعة ومذهب أهل البيت عليهم السلام ؟
وعندما زاد ضغط الصليبيين على سواحلها وأعماقها ، كيف تشكلت في دول وإمارات وكان للشيعة في حلب ومصر والشام ولبنان دور قيادة المقاومة !
ينسى أتباع الخلافة مقاومة الشيعة الفاطميين ، وقرنين من مقاومة الجيش المصري الشيعي للروم والفرنجة ، ويُطبِّلون لصلاح الدين السني ! وهل كان جيشه إلا الجيش المصري الشيعي الذي تسلق صلاح الى قيادته ، وجيش الحمدانيين في حلب الذين اشترطوا على ابن الزنكي حريتهم المذهبية ، فوقَّع لهم على شروطهم ؟!
ثم انظر كيف جاءت موجة الأتراك العثمانيين لضرب القوة الشيعية وفرض الخلافة السنية بكل تعصب العباسيين والأمويين ، فرافقتها موجة شيعية أقامت الدولة الصفوية لحفظ حريتها المذهبية !
وعندما انهارت الخلافة العثمانية بضغط الإنكليز وحروب الوهابيين ضدها ، ودفنوها في إستانبول ! كيف انهارت المؤسسة الدينية في العالم السني وصمدت المؤسسة الشيعية وحفظت وجودها واستقلالها ؟
وعندما فشلت مقاومات الأمة القومية منها واليسارية والحركات السنية ، كيف ظهرت المرجعية الشيعية في إيران ، فضخَّت في الأمة روح المقاومة والحياة ؟
وعندما انهزمت الجيوش والأنظمة العربية أمام إسرائيل ، كيف ظهرت موجة المقاومة الحسينية في شيعة لبنان فهزمت فئة قليلة دولة إسرائيل الأسطورية ، وضخَّت في الأمة الدم الجديد للحياة والمقاومة ؟!
وعندما أرادت الوهابية أن تقلد الشيعة في الثورة على الغرب ، وضربت مركزهم التجاري العالمي فجُنُّوا وأعلنوا الحرب على المسلمين ، كيف عجز السنة أن يخاطبوهم فجاء الخطاب الشيعي موازناً بين خطي المقاومة والتعايش!

***
إن بقاء الأمة اليوم بعناصر القوة في ثقافتها ، مدينً للفكر الشيعي الذي تمسك بالنص ، ولم يخضع لمنطق القبيلة في السقيفة .
ومدينٌ في مواصلة حياته لدماء أهل البيت عليهم السلام التي بذلوها بسخاء لسقي قِيَم الوحي والدفاع عن حرية الإنسان المسلم المستباحة !
وبهذا تعرف سبب ما يشهده عصرنا من توجه واسع في شعوب الأمة نحو أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله تريد أن تفهم قصتهم ومذهبهم ، لأنهم في مخزونها الذهني والتاريخي مشروع نجاة ، عندما يستنفد مذهب الخلافة طاقته وخطابه ! 2 .

___________

    1. a. b. القران الكريم: سورة محمد (47)، الآية: 38، الصفحة: 510.
    2. كيف رد الشيعة غزو المغول ( دراسة لدور المرجعين نصير الدين طوسي و العلامة الحلي في رد الغزو المغولي ) ، العلامة الشيخ علي الكوراني العاملي ، مركز الثقافي للعلامة الحلي رحمه الله ، الطبعة الأولى ، سنة 1426 ، ص 205 ـ 217 .