اختلف المؤرخون في متعلقات الصلح : بنوده ، مكانه ، زمانه بالضبط . . و مَن طلب الصلح أوّلا ؟ . . الخ . .<--break->
محتويات [إخفاء]
نقض البند الاول
نقض البند الثاني
نقض البند الثالث
نقض البند الرابع
نقض البند الخامس
و ما يهمنا أساساً بنود هذا الصلح ؛ حيث رجحنا من خلال الفصل الأول أن يكون الصلح طلباً من معاوية ، لقي استجابة من الإمام الحسن ( عليه السلام ) لأسباب سنذكرها فبعض الروايات تذكر أن معاوية بعث للإمام الحسن كتاباً مختوماً و طلب منه أن يشرط ما يريد ، ذكر ذلك الطبري و ابن الأثير ، و لكن معاوية نكل لما كان الإمام الحسن قد بعث له في الصلح و اشترط عليه شروطا قبل أن يصل إليه كتاب معاوية .
و تفيد بعض الروايات الأخرى أن الإمام الحسن (عليه السلام) أرسل سفيرين إلى معاوية هما عمرو بن سلمة الهمداني و محمد بن الأشعث الكندي ليستوثقا من معاوية و يعلما ما عنده فأعطاهما هذا الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان . .
إني صالحتك أن لك الأمر من بعدي و لك عهد الله و ميثاقه و ذمته و ذمة رسوله محمد ( صلّى الله عليه و آله ) و أشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد و عقد لا أبغيك غائلة و لا مكروها و على أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال و على أن لك خراج يسار دار أبجرد تبعث إليهما عمالك و تصنع بهما ما بدا لك 1 .
و في رواية ثالثة يرويها بعض المؤرخين أن الإمام كتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحد من أهل المدينة و الحجاز و لا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه فأجابه معاوية و كاد يطير فرحا إلا أنه قال أما عشرة أنفس فلا أؤمنهم فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه و يده فراجعه الحسن أني لا أبايعك أبداً و أنت تطلب قيساً أو غيره بتبعة قلّت أو كثرت فبعث إليه معاوية حينئذٍ برقّ أبيض و قال اكتب ما شئت فيه و أنا ألتزمه فاصطلحا على ذلك و اشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده فالتزم ذلك كله معاوية 1 .
و ذكر جماعة من المؤرخين أن الإمام و معاوية اصطلحا فارتضيا بما احتوته الوثيقة الآتية و قد وقع عليها كل منها : و هي : « بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة الخلفاء الصالحين و ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين و على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم و عراقهم و حجازهم و يمنهم و على أن أصحاب علي و شيعته آمنون على أنفسهم و أموالهم و نسائهم و أولادهم و على معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله و ميثاقه و ما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء و بما أعطى الله من نفسه و على أن لا يبغي للحسين بن علي و لا لأخيه الحسن و لا لأحد من أهل بيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) غائلة سراً و لا جهراً و لا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق شهد عليه فلان بن فلان و كفى بالله شهيداً 2 .
و ذكر صاحب شرح النهج رواية مفادها : أن معاوية بعث عبد الله بن عامر و عبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح فدعواه إليه فزهداه في الأمر و أعطياه ما شرط له معاوية و ألا يتبع أحد بما مضى و لا ينال أحد من شيعة علي بمكروه و لا يذكر علي إلا بخير و أشياء شرطها الحسن فأجاب إلى ذلك و انصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة و انصرف الحسن أيضاً إليها و أقبل معاوية قاصدا نحو الكوفة ، و اجتمع إلى الحسن ( عليه السلام ) وجوه الشيعة و أكابر أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يلومونه و يبكون إليه جزعاً مما فعله 3 .
و لأجل تجاوز هذه التناقضات و الاختلاف في الروايات و الوصول إلى أقرب صورة عن واقع الصلح قام الشيخ راضي آل ياسين في كتابه ( صلح الحسن ) بمحاولة للتنسيق بين هذه الشروط المتناثرة في الروايات المختلفة و صاغها في شكل بنود خمسة : و هي :
ـ المادة الأولى : تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله و سنة رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) و بسيرة الخلفاء الصالحين .
ـ المادة الثانية : أن يكون الأمر للحسن من بعده فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين و ليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد .
ـ المادة الثالثة : أن يترك سب أمير المؤمنين و القنوت عليه بالصلاة و ان لا يذكر عليا إلا بخير .
ـ المادة الرابعة : استثناء ما في بيت مال الكوفة و هو خمسة آلاف ألف يشمله تسليم الأمر و على معاوية أن يحمل إلى الحسن كل عام ألفي ألف درهم و أن يفضل بني هاشم في العطاء و الصلات على بني عبد شمس و أن يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل و أولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم و ان يجعل ذلك من خراج دار أبجرد ( مدينة داراب ولاية بفارس على حدود الأهواز ) .
ـ المادة الخامسة : على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم و عراقهم و حجازهم و يَمَنهم و أن يؤمّن الأسود و الأحمر و أن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم و أن لا يتبع أحد بها بما مضى و أن لا يأخذ أهل العراق بأحنة و على أمان أصحاب علي حيث كانوا و ان لا ينال أحد من شيعة علي بمكروه و أن أصحاب علي و شيعته آمنون على أنفسهم و أموالهم و نسائهم و أولادهم و ان لا يتعقب عليهم شيئاً و لا يتعرض لأحد منهم بسوء و يوصل إلى كل ذي حق حقه و على ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا . و على أن لا ينبغي للحسن بن علي و لا لأخيه الحسين و لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة سراً و لا جهراً و لا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق .
هذه أهم البنود كما أوردها الشيخ آل ياسين : و انفرد صاحب كتاب حياة الإمام الحسن ( عليه السلام ) ببندين لم يذكرهما الأول و هما :
أولاً : أن لا يسميه أمير المؤمنين ( نقلا عن تذكرة الخواص للجوزي ) .
ثانياً : ألا يقيم عنده الشهادة ( نقلا عن أعيان الشيعة ) .
هكذا و على قاعدة هذا الصلح تمت البيعة ، و بايع الكوفيون و سلم الحسن ( عليه السلام ) الأمر لمعاوية و الأرجح أن العملية تمت في الكوفة على خلاف ما تدعيه بعض المصادر من وجود لقاء آخر في مسكن لعقد الصلح . . و تجمع ثان من أجل تسليم الأمر بحضور الناس . . « فالأقرب انه لم يكن هناك لقاء في مسكن فقد ذهب الحسن مباشرة من المدائن إلى الكوفة حيث انعقدت البيعة العامة » 4 .
و نودي في الناس إلى المسجد و خطب معاوية في الجموع قائلاً : « أما بعد . . ذلكم فإنه لم تختلف أمة بعد نبيها إلا غلب باطلها حقها » و انتبه معاوية لما وقع فيه فاستدرك « إلا ما كان من هذه الأمة فإن حقها غلب باطلها ».
« يا أهل الكوفة أترونني قاتلتكم على الصلاة و الزكاة و الحج و قد علمت أنكم تصلون و تزكون و تحجون ؟ و لكني قاتلتكم لأتأمر عليكم و ألي رقابكم و قد آتاني الله ذلك و انتم كارهون ألا أن كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول و كل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين و لا يصلح الناس إلا ثلاث إخراج العطاء عند محله و إقفال الجنود لوقتها و غزو العدو لداره فإن لم تغزوهم غزوكم » 5.
و ذكر صاحب شرح النهج أن معاوية قال في خطبته : « ألا أن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به » 6 .
و ذكر أن معاوية ذكر علياً ( عليه السلام ) فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين ( عليه السلام ) ليرد عليه فأخذه الحسن بيده فأجلسه ثم قام فقال أيها الذاكر علياً أنا الحسن و أبي علي و أنت معاوية و أبوك صخر و أمي فاطمة و أمك هند و جدي رسول الله و جدك عتبة بن ربيعة و جدتي خديجة و جدتك قتيلة فلعن الله أخملنا ذكراً و ألأمنا حسباً و شرّنا قديماً و حديثاً و أقدمنا كفراً و نفاقاً ، فقال طوائف من أهل المسجد آمين » 7 .
و مما جاء في خطاب الحسن ( عليه السلام ) أيضاً :
« الحمد لله الذي توحد في ملكه و تفرد في ربوبيته يؤتي الملك من يشاء و ينزع الملك عمن يشاء . و الحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم و أخرج من الشرك أولكم و حقن دماء آخركم فبلاؤنا عندكم قديماً و حديثاً أحسن البلاء إن شكرتم أو كفرتم ، أيها الناس إن ربّ علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه و لقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله ولم تجدوا مثل سابقته فهيهات هيهات! طالما قلّبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم و هو صاحبكم و عدوكم في بدر و أخواتها جرّعكم زنقاً و سقاكم علقاً و أذلّ رقابكم و أشرقكم بريقكم فلستم ملومين على بغضه و أيم الله لا ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم و قادتهم في بني أمية و لقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدوا عنها حتى تهلكوا لطاعتكم طواغيتكم و انضوائكم إلى شياطينكم فعند الله أحتسب ما ينتظر من سوء دَعَتكم و حيف حكمكم ثم قال : يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله صائب على أعداء الله ، نكال على فجار قريش ، لم يزل آخذاً بحناجرها جاثماً على أنفاسها ليس بالملومة على أمر الله و لا بالسروقة لمال الله و لا بالفروقة في حرب أعداء الله أعطى الكتاب خواتمه و عزائمه دعاه فأجابه و قادة فاتبعه لا تأخذه في الله لومة لائم فصلوات الله عليه و رحمته » 8 .
و مما ذكره ابن الأثير في الكامل أن الحسن ( عليه السلام ) خطب فقال :
« أيها الناس إنما نحن أمراؤكم و ضيفانكم و نحن أهل بيت نبيكم الذي أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا و كرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيبه » 9 .
و في البحار أن الإمام الحسن قال :
« و أن معاوية زعم لكم أنني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها أهلاً فكذب معاوية نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله عز و جل و على لسان نبيه ولم نزل أهل البيت مظلومين منذ قبض الله نبيه » 10 .
و أما قيس بن سعد الذي كان يرفض الصلح و يتمسك بقتال معاوية مع أربعة آلاف فارس فإنه اضطر في النهاية للبيعة بعد أن أذن له الإمام الحسن ( عليه السلام ) ؛ فقد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد أربعة آلاف فارس فأبى أن يبايع فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع فأقبل على الحسن فقال أفي حلّ أنا من بيعتك ؟ فقال نعم فألقى له كرسي و جلس على سرير و الحسن معه فقال له معاوية أتبايع يا قيس! قال نعم و وضع يده على فخذه ولم يمدها إلى معاوية فجاء معاوية من سريره و أكب على قيس حتى مسح يده على يده وما رفع إليه قيس يده » 11 .
ولم يبق الإمام الحسن (عليه السلام) إلا أيام قلائل في الكوفة بعد الصلح توجه من بعدها إلى المدينة .
و بعد معرفة بنود الصلح وإطاره التاريخي يمكن أن نحلل مواده و نرى ما كان مصيرها من حيث التزام الطرفين بها و عدم التزامهما بها .
فالقراءة الموضوعية للمعاهدة تكشف أنها مشحونة بالقيود و الالتزامات بالنسبة لمعاوية : العمل بكتاب الله و سنة رسوله ، عدم سب أمير المؤمنين ، عدم ملاحقة الشيعة و تحقيق الأمن العام للناس ، إعطاء الحسن ما حدد له من عطاء و كذلك للهاشميين و لأنصار آل البيت ، عدم العهد بالأمر لأحد من بعده .
بينما لا يوجد إلزام بالنسبة للإمام الحسن سوى تسليم الأمر لمعاوية .
و هذا يؤكد أن العهد و كأنه تعويض لحق فوّت فيه الإمام لظروف قاهرة مقابل التزامات من قبل معاوية .
فالجو العام للعهد يعطى هذا الانطباع بأن الطرف الشرعي قد أقصى من جهة ظالمة باغية و قد خضع هذا الطرف الشرعي مقابل جملة من الشروط .
و الانطباع الثاني الذي تعطيه القراءة الإجمالية الموضوعية للمعاهدة أن الجهة الثانية الملزمة بأكثر الشروط جهة متحلّلة من الضوابط و القيود الشرعية و الأخلاقية و إلا فأي معنى أن يشرط عليه الحكم بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة الخلفاء إلا أن تكون سيرته في الناس إلى ذلك الحين بعيدة عن الشريعة و عن جادة ـ الكتاب و السنة ـ .
و أي معنى لإلزامه بإرجاع الأمر لأهله (الحسن) سوى اعتراف ضمني بأنّ الحسن هو الخليفة الشرعي و أن هذه الجهة غاصبة تريد أن تكرسها ملوكية زائفة . و أما الشرط بعدم سب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) و عدم ملاحقة الشيعة و تحقيق الأمن العام فيكشف بوضوح المستوى الأخلاقي الهابط للخليفة الجديد و مدى بطشه و ظلمه .
بعبارة وجيزة إن معاهدة الصلح توحي بين سطورها بعدم شرعية معاوية . . و لكن استغراق المؤرخين و الدارسين في القراءة التجزيئية ربما غيب هذا الدلالة إلى حدٍّ ما .
و بعد هذه القراءة الإجمالية الكلية للمعاهدة نقف عند أهم فصولها :
أولاً :العمل بكتاب الله و سنة رسوله و بسيرة الخلفاء الصالحين : فتنازل الإمام عن الخلافة لمعاوية يقيده هذا الشرط فالإمام لم يفوض معاوية بأن يسوس البلاد و العباد وفق أهواءه و أطماعه و آرائه المريضة و مشاعره الجاهلية الحاقدة و إنما ألزمه أن يعمل بكتاب الله و سنة رسوله و أيضاً بسيرة الخلفاء الصالحين . و هنا لابدّ من التوقف عند هذا القيد الثالث ( سيرة الخلفاء الصالحين ) قد نص عليه سداً لذريعة قد يتمسك بها معاوية و هو العمل برأيه فألزم بالتقيد بسيرة الخلفاء الصالحين أي لا نخرج عما تعارف عليه المسلمون من سبل الحكم و السياسة في عهد الخلفاء المرضيين عند المسلمين .
و في الحقيقة هذا الشرط ، بهذا القيد الثالث يجعلنا نقارن بين موقف الإمام علي ( عليه السلام ) لما حاولوا أن يلزموه بشرعية الخلفاء السابقين في واقعة الشورى حيث طُلب منه الالتزام بسيرة الشيخين و لكنه رفض و قال أعمل بكتاب الله و سنة رسوله و برأيي . فكان هذا الموقف موجبا لخروجه و قبول عثمان بن عفان الشرط . .
فالإمام علي ( عليه السلام ) يرفض الالتزام بأي شيء مقابل كتاب الله و سنة رسوله لأنه إمام حق أما معاوية فلابد من إلزامه بسيرة الخلفاء الآخرين رغم عدم إيمان الحسن بشرعيتهم لأنه إمام جور و ظلم و زور .
ثانياً : ولاية العهد ؛ اختلفت الروايات في هذه المسألة فبعضهما ذكرت أن الإمام اشترط على معاوية أن الأمر للحسن فإن لم يكن فللحسين و بعضها تقول أن الإمام اشترط عليه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين .
و على كلا الحالتين فولاية معاوية لابد أن تبقى فلتة و حالة مؤقتة و شاذة لترجع الخلافة إلى معدنها و كيانها الصحيح لينتبه المسلمون لخطورة تحويل الخلافة إلى ملكية أموية . . و تكون لهم الشرعية في مقاومته و محاربته حينئذٍ .
ثالثاً : عدم سب أمير المؤمنين (عليه السلام) : هذا الشرط يكشف بجلاء استهتار معاوية بالأخلاق والتعاليم الإسلامية و إلا فبأي حق يسب مسلم مسلماً ، فكل المسلم على المسلم حرام : نفسه و ماله و عرضه و لكن أين معاوية من الإسلام و أحكامه ؟ و إذا كان كذلك حق المسلم فما بالك بعلي الذي عظمه القرآن و مجده الرسول و كان من أهل البيت الذين فرض الله على كل المسلمين مودتهم﴿ ... قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ... ﴾ 12.
رابعاً : الأمن العام للشيعة و للحسن و الحسين و أهل البيت . فقد تعهد بأن لا يلحق مكروه و أذى بأنصار علي وشيعته و لا يبغي على الحسن و الحسين و لا لأهل بيت النبي ولم تنص المعاهدة على هذا الشرط سوى لما عرف به معاوية من غدر . . كما تكشف حرص الإمام على شيعته و حقن دماءهم و حفظ وجودهم في وجه هذه الفتنة العمياء التي عصفت بالإسلام و أهله ؛ فتنة معاوية و بني أمية .
خامساً : الحقوق المالية ؛ نصت المعاهدة على مبالغ مالية للحسن ( عليه السلام ) و حقوق دائمة خراج دار أبجرد ( مدينة فتحت عنوة ) يوزع بين أولاد من قتل مع أمير المؤمنين في صفين و الجمل .
و هذا الفصل الوحيد الذي يتصدى للمسألة المالية : فكل الفصول الأخرى كانت تستهدف حفظ الدين و التشيع و حفظ الأنصار و حماية كيان الأمة .
أما هذا الفصل فيعالج المسألة المالية و نرى الإمام يحاول حفظ حقوقه و حقوق أهل بيته و حقوق شيعته من العطاء فاشترط ذلك على معاوية لأنه يتوقع أن يحارب الشيعة و رموزهم اقتصادياً و يمنعهم حقوقهم من بيت مال المسلمين . و لا ورع لديه و لا تقوى تعصمه من ذلك .
و سيأتي مناقشته ما أثير من تهم حول هذا البند في الفصل الثالث حيث يشكك البعض في نوايا الحسن ( عليه السلام ) ليدعي انه باع الخلافة لمعاوية بالمال ؟!
و أما السؤال الآخر فهو إلى أي مدى التزم الطرفان ببنود المعاهدة ؟
من جهته لقد سلّم الحسن ( عليه السلام ) الأمر لمعاوية كما سجل التاريخ ذلك و لكن معاوية نقض كل بنود المعاهدة وهذا ليس ببعيد عن شخص مثله كيف لا و قد لوح بذلك وحبر المعاهدة لم يجف بعد حيث صرح قائلاً : « و كل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين » 13 .
و لقد أثبت التاريخ صدق وعده بنقص عهوده! فلقد انتهك بنود المعاهدة بنداً بندا ولم يف بواحد البتة .
نقض البند الاول
فأين معاوية من العمل بكتاب الله و سنة رسوله و الشواهد على مخالفته لكتاب الله و سنة رسوله لا تحصى و قد صنفت مؤلفات لعرض هذه المخالفات ربما أهمها : الجزء العاشر والحادي عشر من موسوعة الغدير للعلامة الأميني .
نقض البند الثاني
لقد نقض معاوية هذا البند عندما نصب ولده يزيد وليا للعهد وأكره الناس عليه .
حاول معاوية تنصيب يزيد في حياة الحسن ( عليه السلام ) بطلب من المغيرة بن شعبة والي معاوية على الكوفة في حركة تزلف سعى من خلالها حفظ موقعه و تعزيزه بعد أن أوشك على الانهيار ( في قصة تسردها كتب التاريخ ) و لكن هذه المحاولة فشلت رغم مؤامرات معاوية لحبك مسرحيات تأييد ليزيد كما تنقل كتب التاريخ إلا أن بعض وجوه القوم ذكروه بعهده للحسن فقد قال له الأحنف بن قيس . . « و قد علمت يا معاوية أنك لم تفتح العراق عنوة ولم تظهر عليه مقصا و لكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك فإن تف فأنت أهل الوفاء و أن تغدر تظلم والله إن وراء الحسن خيولاً جياداً و أذرعاً شداداً و سيوفاً حداداً و إن تدن له شبرا من غدر تجد وراءه باعا من نصر و أنك تعلم من أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك و لا أبغضوا علياً و حسناً منذ أحبوهما و ما نزل عليهم في ذلك غير من السماء و أن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم و القلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم » و تأكد معاوية أن الأمر لن يستتب لابنه يزيد و الحسن حي فصمم على التخلص منه وكان منه ما كان من سمه . . كما مرّ بنا في الفصل الأول . و أما المحاولة الثانية فحدثت بعد وفاة الحسن و كانت إحدى أسباب ثورة الحسين ( عليه السلام ) .
نقض البند الثالث
كان معاوية يعلم أن الأمر لن يستتب له و لبني أمية لو عرف المسلمون القادة الربانيين الحقيقيين ، من هنا لم يفتأ يفتري و يروج الأكاذيب عن علي و آله . و رغم التزامه بعدم سب علي في عهد الصلح مع الحسن لكنه لم يف بعهده « فقد دأب على لعن علي ( عليه السلام ) ويقنت في صلاته و جعلها سنة في خطب الجمعة و الأعياد و بدل سنة محمد ( صلّى الله عليه و آله ) في خطبة العيدين المتأخرة عن صلاتهما و قدمها عليه لإسماع الناس لعن الإمام الطاهر » 14 .
ولم يزل معاوية و عماله دائبين على ذلك حتى تمرن عليه الصغير و هرم الشيخ فكانت العادة مستمرة منذ شهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى سنة عمر بن عبد العزيز طيلة أربعين سنة على صهوات المنابر و في الحواضر الإسلامية كلها من الشام إلى الري إلى الكوفة إلى البصرة إلى عاصمة الإسلام المدينة المشرفة إلى حرم الله مكة المعظمة إلى شرق العالم الإسلامي و غربه . و قد صارت سنة جارية و دعمت في أيام الأمويين سبعون ألف منبر يلعن فيها أمير المؤمنين 15 .
و طفق معاوية يوزع الأموال بسخاء و المناصب على الصحابة و التابعين الذين استجابوا له في وضع الأكاذيب في حق علي و تحريف أحاديث عن رسول الله تقتضي الطعن في علي و البراء منه و العياذ بالله و من أمثال هؤلاء : أبو هريرة و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و سمرة بن جندب و عروة بن الزبير .
نقض البند الرابع
أورد الشيخ راضي آل يس ما رواه الطبري من أن أهل البصرة قد حالوا بين الحسن و بين خراج دار أبجرد وقالوا : فيئنا .
أما ابن الأثير فقد أشار إلى أن منعهم كان بأمر من معاوية 16 .
وهكذا لم يسلم حتى الشرط المالي الذي يمثل حقاً طبيعياً للحسن و الحسين و شيعتهما في بيت مال المسلمين حيث لهما نصيب من بيت المال كما أن الحسنين لهما سهم ذو القربى المنصوص عليه في كتاب الله .
نقض البند الخامس
لقد نصّت المعاهدة على الأمن العام لشيعة علي وأنصار الحسن حيثما كانوا ، وعدم التعرض بسوء للحسن والحسين ولا لأحد من أهل البيت ولكنها سنة معاوية في الغدر ، ونقض العهود فالتاريخ يعج بالقصص والأحداث التي تحكي ما فعله معاوية بشيعة علي من تجويع وتعذيب وقتل وسجن وتشريد . ومن الأسماء البارزة التي نالت شرف الشهادة فداء لعلي ( عليه السلام ) وارتقت إلى سماء الشهادة تحت بطش معاوية و أعوانه : حجر بن عدي الكندي وأصحابه رشيد الهجري و عمرو بن الحمق الخزاعي و جويرية بن مسهر العبدي و أوفى بن حصن . .
و أما الذين روعوا و عذبوا فلا مجال لإحصائهم . .
باختصار لقد انتهك معاوية هذا البند ليحقق بجدارة أوليات بكر في أفاعيل منكرة و بوائق فريدة في حق شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
« فكان أول رأس يطاف به في الإسلام (من أصحاب علي) بأمره ( معاوية ) يطاف به و كان أول إنسان يدفن في الإسلام منهم و بأمره يفعل به ذلك و كانت أول امرأة تسجن في الإسلام منهم و هو الآمر بسجنها و كان أول شهداء يقتلون صبراً في الإسلام منهم و هو الذي قتلهم » 17 18 .
_____________
1. a. b. انظر : باقر شريف القرشي : حياة الإمام الحسن بن علي ، ج 2 دار البلاغة ط 1993 ص 221 و 227 .
2. انظر باقر القرشي : م س ص 226 .
3. ابن أبي الحديد : شرح النهج ، م س ج 11 ص 233 .
4. هشام جعيط : الفتنة دار الطليعة ص320 .
5. راضي آل يس : صلح الحسن ، م س ص 285 .
6. ابن أبي الحديد : م س ص 234 .
7. م ن ص 235 .
8. م ن ص 223 .
9. ابن الأثير : الكامل في التاريخ : 3 / 406 .
10. المجلسي : بحار الأنوار : 10 / 114 .
11. ابن أبي الحديد : شرح النهج : 11 / 236 .
12. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 23، الصفحة: 486.
13. شرح النهج : م س ص 234 .
14. الأميني : الغدير ، ج 10 دار الكتب الإسلامية ص 257 .
15. م س ص 215 و 266 .
16. راضي آل يس : صلح الحسن ص317 .
17. راضي آل ياسين : صلح الحسن ص 362 .
18. كتاب صلح الإمام الحسن من منظور آخر لكاتبه اسعد بن علي : الفصل الثاني .