حروب علنية بين المسلمين واليهود
  • عنوان المقال: حروب علنية بين المسلمين واليهود
  • الکاتب: السيد جعفر مرتضى العاملي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 17:14:1 1-9-1403

قريش تحرض اليهود على نقض العهد

قال عبد الرزاق : وكتب كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود : «إنكم أهل الحلقة والحصون ، وإنكم لتقاتلن صاحبنا ، أو لنفعلن كذا وكذا . ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم ، وهو الخلاخل ـ (شيء) ـ فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعت بنو النضير [على] الغدر الخ . .» .
ثم يذكر قضية غدر بني النضير ، وما جرى بينهم وبين المسلمين 1 .
ونحن نستقرب أن يكون بنو قينقاع هم أول من استجاب لطلب قريش هذا ، لا سيما وأن قريشاً قد كتبت لهم بعد بدر ، وكان نقض بني قينقاع للعهد بعد بدر أيضاً . أما قضية بني النضير فقد كانت في السنة الرابعة بعد أحد ، كما يقولون . وسيأتي الكلام حول ذلك في جزء آخر من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
كما أن المؤرخين يقولون : إن بني قينقاع لما كانت وقعة بدر ، أظهروا البغي والحسد ، ونبذوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي «صلى الله عليه وآله» : أن لا يحاربوه ، ولا يظاهروا عليه عدوه ، نبذوه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وكانوا أول من غدر من اليهود 2 .

 

تصعيد التحدي

قالوا : وكان بنو قينقاع أشجع وأشهر قوم من اليهود ، وأكثر اليهود أموالاً وأشدهم بغياً ، وكانوا صاغة ، وكانوا حلفاء لعبد الله بن أُبي ، وعبادة بن الصامت . فبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم ، إذ جاءت امرأة مسلمة إلى سوقهم 3 ؛ فجلست عند صائغ منهم ، لأجل حلي لها ؛ فأرادوها على كشف وجهها ، فأبت . فعمد الصائغ ، أو رجل آخر إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، وهي لا تشعر .
فلما قامت انكشفت سوأتها ؛ فضحكوا منها ؛ فصاحت ، فوثب مسلم على من فعل ذلك ، فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستنصر أهل المسلم بالمسلمين ، فغضب المسلمون .
وقال «صلى الله عليه وآله» : «ما على هذا قررناهم» ؛ فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتولى الله ورسوله ، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار .
وتمسك ابن أُبي بالحلف ، وأصر على الرسول «صلى الله عليه وآله» بتركهم ، وقال : «إنه امرؤ يخشى الدوائر ، فنزل فيه قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ﴾ 4إلى قوله تعالى : ﴿ ... فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ 5» 6 .
فجمعهم النبي «صلى الله عليه وآله» في سوقهم ، وقال لهم : يا معشر يهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ؛ فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم ، وعهد الله إليكم .
قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنَّا قومك ؟! ولا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب ، فأصبت لهم فرصة . إنّا والله ، لو حاربناك ، لتعلمن أنا نحن الناس .
فأنزل الله تعالى : ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ 7.
وقوله : ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ... ﴾ 8. كذا يقول المؤرخون .
فتحصن بنو قينقاع في حصونهم ، فاستخلف «صلى الله عليه وآله» على المدينة أبا لبابة ، وسار إليهم ، ولواؤه الأبيض (أو راية العقاب السوداء) يحمله أمير المؤمنين «عليه السلام» .
(وقولهم : بيد حمزة ينافيه ما تقدم وسيأتي من الأدلة الكثيرة على أن علياً «عليه السلام» كان صاحب لواء رسول الله «صلى الله عليه وآله» في كل مشهد) .
وحاصرهم النبي «صلى الله عليه وآله» خمس عشرة ليلة ، ابتداء من النصف من شوال السنة الثانية ، أو في صفر السنة الثالثة ، (وهو بعيد بملاحظة : أنهم إنما غضبوا من انتصار المسلمين في غزوة بدر) .
وقذف الله في قلوبهم الرعب ، وكانوا أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع ؛ فسألوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أن يخلي سبيلهم ، ويجليهم عن المدينة ، وأن لهم نساءهم والذرية ، وله الأموال والسلاح .
فقبل «صلى الله عليه وآله» منهم ، وفعل بهم ذلك ، وأخذ أموالهم وأسلحتهم ، وفرقها بين المسلمين ، بعد أن أخرج منها الخمس ، وأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات (بلد بالشام) .
فيقال : إنه لم يدر عليهم الحول حتى هلكوا .
وفي نص آخر : أنهم أنزلوا من حصونهم وكتفوا ، وأراد «صلى الله عليه وآله» قتلهم ، فأصر ابن أبي عليه «صلى الله عليه وآله» : أن يتركهم له بحجة أنه امرؤ يخشى الدوائر فلا يستطيع أن يتركهم ، وهم أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع ، قد منعوه من الأحمر والأسود ، على حد تعبيره ؛ فاستجاب النبي «صلى الله عليه وآله» إلى طلبه وإصراره ، وأجلاهم .
ونزل في ابن أبي قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ﴾ 4 إلى قوله تعالى : ﴿ ... فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ 5.
وقبل أن نمضي في الحديث لا بد من تسجيل النقاط التالية :

 

ألف : نزول الآية في ابن أبي

إن نزول قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ... ﴾ 4في ابن أبي محل شك ، وذلك لما يلي :
1 ـ إن ابن أبي لم يكن مؤمناً ، والآية تخاطب الذين آمنوا .
هذا بالإضافة إلى ذكر النصارى في الآية ، ولم يكن للنصارى دور في قضية بني قينقاع .
الا أن يقال : إن الخطاب للمؤمنين ، وذكر النصارى إنما هو لإعطاء قاعدة كلية ، وتحذير المؤمنين من موقف يشبه موقف ابن أبي ، فما فعله ابن أبي كان سبب نزول الآية في تحذير المؤمنين من موقف كهذا .
2 ـ إن الظاهر بل المصرح به هو أن سورة المائدة قد نزلت جملة واحدة في حجة الوداع سنة وفاته «صلى الله عليه وآله» 9 ، وقضية بني قينقاع إنما كانت قبل أحد .
فهل تأخر نزول الآية عن مناسبتها ما يقرب من ثماني سنين ؟!! .

حقيقة القضية

ولعل السر في دعوى نزول مجموع الآيات في هذه المناسبة ، هو الخداع والتضليل للسذج والبسطاء ، وتشكيكهم في قضية الغدير ، التي كانت ولا تزال الشوكة الجارحة في أعين شانئي علي «عليه السلام» ومبغضيه .
فالظاهر هو : أن هذه الآيات قد نزلت لتحذير المسلمين من الاتجاه الذي كانت بوادره تظهر وتختفي بين الحين والآخر ، من الاندفاع نحو أهل الكتاب بصورة عامة .
حتى لقد كان الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» نفسه يواجه بعض ما يعبر عن هذا الاندفاع نحو الثقافة اليهودية ، والخضوع لهيمنة فكر أهل الكتاب عموماً!!
وقد رأى النبي «صلى الله عليه وآله» في يد عمر (رض) ورقة من التوراة ، فغضب ، حتى تبين الغضب في وجهه ، ثم قال : ألم آتكم بها بيضاء نقية ؟! والله ، لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي .
وفي رواية : أمهوكون فيها يا بن الخطاب ؟ الخ . .
وفي أخرى : أن عمر نسخ كتاباً من التوراة بالعبرية ، وجاء به ، فجعل يقرؤه على رسول الله «صلى الله عليه وآله» 10 .
وقد قدمنا هذا الحديث مع مصادره في المدخل لدراسة هذه السيرة ، فراجع .
وقد ازداد هذا الاتجاه نحو ثقافة أهل الكتاب ، عنفاً وقوة بعد وفاة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» . وهذا موضوع هام جداً ، ومتشعب الأطراف ؛ حيث إن علامات التأثر بأهل الكتاب قد ظهرت بشكل أو بآخر في كثير من المجالات : العقائدية ، والفكرية ، والفقهية ، وغير ذلك .
وقد بحثنا فيما سبق هذا الموضوع ، وتوصلنا فيه إلى العديد من النتائج المذهلة على صعيد الفكر ، والسياسة ، والعقيدة ، والتشريع . فليراجع .

 

ب : حول الراية

إن ما يبدو : هو أن الراية في هذه الحرب كانت سوداء ، لأن هذه هي راية حرب ، وغضب رسول الله «صلى الله عليه وآله» على أهل الكفر والشرك والضلال ، يقول الكميت مشيراً إلى ذلك :
وإلا فارفعوا الرايات سوداً *** على أهل الضلالة والـتعدي
وقد كانت رايته «صلى الله عليه وآله» يوم فتح مكة سوداء ، وكانت راية أمير المؤمنين «عليه السلام» في حربه لأعدائه سوداء أيضاً ، ولعل في هذا إلماماً إلى أن من يحاربهم «عليه السلام» لا يفترقون عمن حاربهم الرسول «صلى الله عليه وآله» فيما سبق .
وسنشير في أوائل غزوة أحد إلى أن حامل لواء النبي «صلى الله عليه وآله» في جميع حروبه هو أمير المؤمنين «عليه السلام» ، فكل ما يذكر خلاف ذلك ما هو إلا عربدة وتضليل .
وأما أن راية العُقاب كانت قطعة من برد لعائشة ، كما ذكره الحلبي 11 ، فنحن نشك في ذلك ، لأنه هو نفسه قد ذكر في وقعة خيبر : أن «المقريزي لما ذكر رتب الرياسة في الجاهلية ، ذكر : أن العُقاب كان في الجاهلية راية تكون لرئيس الحرب . وجاء الإسلام وهي عند أبي سفيان ، وجاء الإسلام والسدانة واللواء عند عثمان بن أبي طلحة ، من بني عبدالدار» 12 .
والعبارة مشوشة كما ترى ، ولكنها تدل على أي حال على أن العقاب لم تكن من مرط عائشة . ثم إننا لا ندري لماذا اختار برد عائشة ليكون راية له!! .

 

ج : الخمس

1 ـ وقد تقدم : أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد فرق السلاح والأموال التي غنمها من بني قينقاع على المسلمين ، مع أنها كانت مما أفاء الله عليه ، فهي له دون غيره .
ولكنه «صلى الله عليه وآله» آثر أن يفرقها بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها ، إعانة لهم ، ولطفاً بهم ، وعطفاً عليهم .
2 ـ وقالوا : إن خمس بني قينقاع كان أول خمس قبضه رسول الله «صلى الله عليه وآله» 13 .
وهذا محل شك أيضاً ، فقد تقدم قولهم : إنه قد خمس ما غنمه المسلمون من المشركين في غزوة «قرقرة الكدر» . وكذا قيل في غزوة بدر ، وفي سرية ابن جحش .
وتوجيه ذلك بأن المراد هنا : أنه أول خمس قبضه ، وفيما تقدم كان «صلى الله عليه وآله» لا يقبض الخمس ، وإنما يرده على المسلمين ، خلاف الظاهر ، خصوصاً إذا أثبت البحث العلمي : أنه «صلى الله عليه وآله» قد بقي يقسم الخمس على المسلمين ، كما فعل في غزوة حنين ، فلعل الرواة قد رووا هذه الأوليات بحسب حضورهم . فالذي حضر هذه الغزوة ورأى النبي «صلى الله عليه وآله» قد خمس غنائمها ، لعله لم يحضر التي قبلها ، وكذا الحال بالنسبة للراوي الآخر في الغزوة الأخرى ، فلا بد من التحقيق حول هذا الموضوع .

 

د : بعض أهداف ونتائج حرب بني قينقاع

إن حرب المسلمين لبني قينقاع ، وهم أشجع اليهود ، وأكثرهم مالاً ، والقضاء عليهم معناه :
1 ـ أنه «صلى الله عليه وآله» لا يريد أن يفسح المجال لهم ـ كما يقول العلامة الحسني ـ لأن (يطمعوا به ، ويكتلوا حولهم من يشاركهم الرأي من المنافقين والأعراب) ، لأن صبر النبي «صلى الله عليه وآله» عليهم ، وأمره للمسلمين بالتحمل مهما أمكن ، جعل اليهود يظنون : أن هذا ناتج عن ضعف وخور ؛ فاستمروا في تحرشاتهم 14 .
2 ـ أن يسهل القضاء على الآخرين من الأعداء ، ممن هم أقل منهم قوة وعدداً ، وعدة ومالاً ، لأنهم إذا رأوا أن أصحاب الشوكة لم يستطيعوا أن يأتوا بشيء ، فإنهم سوف يقتنعون بأنهم ـ وهم الأضعف ـ أولى أن لا يأتوا بشيء أيضاً .
3 ـ إن ما غنمه المسلمون من بني قينقاع ، من شأنه أن يزيد من طموح عدد من الناس من المسلمين للقضاء على أعدائهم ، ويسهل عليهم الوقوف في وجههم ؛ حيث يرتاح بالهم من جهة معاشهم ، ولا يبقى ما من شأنه أن يثير مخاوفهم ، ويستبد بتفكيرهم .
4 ـ كما أن ذلك : إنما يعني التخلص من عدو داخلي ، يعرف مواضع الضعف والقوة ، وربما يكون أخطر من العدو الخارجي بكثير .
5 ـ ثم إن القضاء على اليهود كان يتم على مراحل ، وذلك بطبيعة الحال أسهل وأيسر من القضاء عليهم فيما لو كانوا مجتمعين دفعة واحدة ، وفي صعيد واحد ، يعين بعضهم بعضاً ، ويشد بعضهم أزر بعض .
6 ـ والمسلمون أيضاً ، إذا رأوا أنفسهم قد استطاعوا القضاء على أشجع اليهود ، وأكثرهم قوة ونفوذاً ، فإنهم سوف يتشجعون للقضاء على من سواهم ، ولا يبقى مجال للخوف ولا للتردد .

 

ه‍ : الحجاب

إن قضية المرأة التي أرادوها على كشف وجهها ، قد يقال : إنها تدل على أن الحجاب كان مفروضاً حينئذٍ ، أي في السنة الثانية للهجرة ، مع أن المعروف هو : أن الحجاب قد فرض بعد ذلك بعدة سنين .
إلا أن يقال : إن الحجاب قد كان موجوداً في الجاهلية .
أو يقال : صحيح إن فرض الحجاب وإيجابه قد كان في سنة خمس ، أو بعدها ، لكن الالتزام بالحجاب ، على اعتبار أنه محبوب ومطلوب لله ، وأمر راجح وحسن قد كان قبل ذلك بسنين . وذلك اتباعاً لتوجيهات النبي «صلى الله عليه وآله» ، وترغيباته ، ودعواته إلى ذلك ، إذ لا يبعد أن يكون تشريع الحجاب قد جاء تدريجاً ؛ لتتقبله النفوس ، وتألفه العادة .
ولا سيما إذا لاحظنا : أنه ربما كان أمراً صعباً على نساء الجزيرة العربية ، اللواتي يعشن في جو حار جداً ، كما هو معلوم .
وعلى كل حال ، فإن هذا الأمر يحتاج إلى تحقيق ، ولسوف نتحدث عنه بشيء من التفصيل فيما يأتي إن شاء الله تعالى .

 

و : الغرور والإيمان

إننا نلاحظ : أنه «صلى الله عليه وآله» حتى حينما انتصر على المشركين في بدر ذلك الانتصار الباهر والساحق ، وكذلك حينما انتصر عليهم في غيرها من المواقف الصعبة ، فإنه لا ينسب انتصاراته إلى نفسه ، أو إلى جيشه .
ولا يسمح لنفسه بأن تتوهم : أنها هي التي انتصرت بالقوة ، والعدة ، والعدد ، أو بالعبقرية الحربية ؛ لأنه يعلم أن الانتصار الذي سجل في بدر مثلاً ، لم يكن في المقاييس المادية انتصاراً .
وإنما هو معجزة إلهية ، لا يمكن لأحد أن يحترم نفسه إلا أن يذعن إلى هذه الحقيقة ، ويسلم بها . وهذا هو ما قرره الله تعالى بقوله : ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ... ﴾ 15.
كما أنه تعالى قد تعرض لحالة العجب بالنفس في حنين ، فقال : ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ... ﴾ 16.
بينما نجد بني قينقاع مغرورين بقوتهم وشوكتهم ، حتى قالوا له : لو حاربناك لتعلمن : أنا نحن الناس . فأوعدهم الله بالهزيمة والخذلان . وصدق الله وعده ، فزاد ذلك من يقين المؤمنين وتصميمهم ، ومن ذل الكافرين وخزيهم .

 

ز : الاستجابة لابن أُبي

وإن استجابة النبي «صلى الله عليه وآله» لابن أُبي في بني قينقاع ، كانت تهدف إلى الحفاظ على الجبهة الداخلية من التصدع . ولولا ذلك فلربما كان ينتهي الأمر إلى النزاعات المكشوفة ، والمواجهات العلنية ، الأمر الذي لم يكن في صالح الإسلام والمسلمين في تلك الفترة ؛ فإن الإبقاء على العلاقات الحسنة مع المنافقين في تلك الظروف كان أمراً ضرورياً ؛ لكسب أكبر عدد منهم في المستقبل ، عن طريق التأليف والترغيب ، وكذلك من أبنائهم ، ثم توفير الطاقات لعدو أشد وأعتى .
كما أن إجلاء بني قينقاع ، كما يعتبر ضربة روحية ونفسية لغيرهم من اليهود ، كذلك هو يعتبر إضعافاً لابن أبي ومن معه من المنافقين . فخسران الأعداء متحقق على كل تقدير .

 

ح : بنو قينقاع تحت الأضواء

وأما لماذا تجرأ بنو قينقاع على نقض العهد ، فالظاهر :
أن ذلك يرجع : إلى غرورهم واعتدادهم بشجاعتهم ، وبكثرتهم ، ولعلهم كانوا يتوقعون نصر حلفائهم من الخزرج لهم ، كما يظهر من قولهم له «صلى الله عليه وآله» : لتعلمن أنا نحن الناس .
ثم هناك اعتمادهم على ما يملكونه من خبرة عسكرية ، ومعرفة بالحرب ، وقد عبروا عن ذلك أيضاً بقولهم له «صلى الله عليه وآله» : لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب . وإلا ، فإننا لا نرى مبرراً لأن تعلن قبيلة واحدة الحرب على كثير من القبائل في المدينة ، إن كانت لا تملك شيئاً من مقومات النصر المحتمل . ولكن كثرتهم وخبرتهم الحربية لم تغن عنهم شيئاً ، كما أن حلفاءهم من الخزرج لم يفعلوا لهم شيئاً ، لأن المؤمنين منهم تخلوا عنهم ، لأن الوفاء لهم خيانة لعقيدتهم ومبدئهم وإيمانهم ، الذي يبذلون أرواحهم في سبيل الحفاظ عليه .
وأما المنافقون منهم فلم يتمكنوا من نصرهم ، بسبب ما قذف الله في قلوبهم من الرعب ، وكون ذلك سوف يتسبب لهم بانشقاقات وخلافات داخلية .
وأقصى ما استطاع ابن أُبي أن يقدمه لهم ، هو أن يمنع من استئصالهم ، مع الاكتفاء بإجلائهم إلى مناطق بعيدة لن يمكنهم الصمود فيها أكثر من سنة ، وليواجهوا من ثم الفناء والهلاك .
وأما لماذا لم يهب اليهود لنصرة بني قينقاع ، فإن ذلك يرجع إلى أنه قد كان بينهم وبين سائر اليهود عداوة ، وذلك لأن اليهود كما قال ابن اسحاق :
«كانوا فريقين ، منهم بنو قينقاع ولفهم 17 ، حلفاء الخزرج ، والنضير وقريظة ولفهم حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم . وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان : لا يعرفون جنة ، ولا ناراً ، ولا بعثاً ، ولا قيامة ، ولا كتاباً ، ولا حلالاً ، ولا حراماً .
فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أساراهم ، تصديقاً لما في التوراة ، وأخذ به بعضهم من بعض ، يفتدي بنو قينقاع من كان من أسراهم من أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما في أيدي الخزرج منهم ، ويطلون ما أصابوه من الدماء وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لأهل الشرك عليهم» 18 .
وكانوا بذلك مصداقاً لقوله تعالى وهو يخاطب اليهود :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ... ﴾ 19صدق الله العلي العظيم 20 .

_____________

    1. المصنف لعبد الرزاق ج5 ص359 .
    2. راجع : تاريخ الخميس ج1 ص408 ، والسيرة الحلبية ج2 ص208 ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش السيرة الحلبية) ج2 ص2 ، والمغازي للواقدي ج1 ص176 و 177 .
    3. راجع هذه القضية في : الكامل لابن الأثير ج2 ص137 و 138 ، والبداية والنهاية ج4 ص3 و 4 ، والسيرة الحلبية ج2 ص208 .
    4. a. b. c. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 51، الصفحة: 117.
    5. a. b. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 56، الصفحة: 117.
    6. راجع : الدر المنثور ج2 ص290 و 291 عن : ابن اسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر ، وابن أبي شيبة .
    7. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 12 و 13، الصفحة: 51.
    8. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 58، الصفحة: 184.
    9. راجع : الدر المنثور ج2 ص252 عن أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر في الصلاة ، والطبراني ، وأبي نعيم في الدلائل ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن أبي شيبة ، والبغوي في معجمه ، وابن مردويه ، وأبي عبيدة وغيرهم .
    10. راجع مقدمة ابن خلدون ص436 ، وأضواء على السنة المحمدية ص162 ، والإسرائيليات في التفسير والحديث ص86 ، وفتح الباري ج13 ص281 عن ابن أبي شيبة وأحمد ، والبزار ، ومسند أحمد ج3 ص387 ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة التي أشرنا إلى طائفة منها في تمهيد الكتاب .
    11. السيرة الحلبية ج2 ص209 وج3 ص35 .
    12. السيرة الحلبية ج3 ص35 و 36 .
    13. تاريخ الطبري ج2 ص174 .
    14. راجع : سيرة المصطفى ص379 .
    15. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 123، الصفحة: 66.
    16. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 25، الصفحة: 190.
    17. لفهم : أي من يعد فيهم .
    18. السيرة النبوية ، لابن هشام ج2 ص188 و 189 .
    19. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 84 و 85، الصفحة: 13.
    20. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، 2005م . ـ 1425هـ . ق ، الجزء السابع .