إن التاريخ بحاجة إلى كتابة جديدة. وأحداثه في حاجة إلى أن يتم تجريدها من السياسة التي علقت بها. و في حاجة إلى أن يتم تجريدها من أهواء المؤرخين ونزعاتهم.
وشخصية صلاح الدين في حاجة إلى قراءة جديدة. كما أن هناك شخصيات تاريخية كثيرة في حاجة إلى إعادة قراءة.
محتويات [إخفاء]
إنقلاب صلاح الدين في مصر
استئصال الشيعة
كيف يبرر مثل هذا السلوك؟
ثورات الشيعة
شخصيات غطت السياسة على مساوئها.
وشخصيات غطى التعصب على منجزاتها.
وشخصيات غطت السيوف على انحرافاتها.
وصلاح الدين هو واحد من أولئك الذين غطت السيوف على انحرافاتهم وحجبت عن أعيننا مساوئهم وغمرت بالدماء التي أسالتها جسد الحقيقة.
إن السيوف لم تشهر في كل حين ابتغاء مرضاة الله. و أن أكثر السيوف التي شهرت في الإسلام كانت في سبيل السياسة. والقليل منها شهر في سبيل الله.
والتاريخ يحدثنا عن قادة كبار بل وصحابة شهروا سيوفهم وأبلوا بلاء حسنا من أجل الحصول على مغنم أو حكم و لاية كثيرة الخراج.
إننا في حاجة ماسة إلى التحرر من أوهام كثيرة حولها التاريخ إلى حقائق. في حاجة إلى الوعي بأحداث عومتها السياسة وظللتها السيوف.
لقد قامت دول بالحق على حساب دول قامت بالباطل. و قامت دول بالباطل على حساب دول قامت بالحق.
و بين قيام الدول وسقوطها تضيع حقائق وتبرز أباطيل و تموت عقائد وتحيا مذاهب ويذهب فقهاء ويأتي أدعياء.
ومع سقوط الفاطميين و قيام الأيوبيين غابت حقائق وضاعت عقائد وارتفعت رايات وطويت رايات.
مع قيام الأيوبيين دخلت مصر مرحلة جديدة في ظل عقيدة جديدة ونظام حكم جديد فرض عليها فرضا.
و منذ ذلك الحين استبدلت عقيدة الشيعة بعقيدة السنة.
واستبدلت الأسرة الفاطمية بالأسرة الأيوبية.
واستبدل الجامع الأزهر بالمدارس الشافعية والمالكية والأشعرية.
إنقلاب صلاح الدين في مصر
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تم ذلك في هدوء دون أي صعوبات؟
لقد دخل صلاح الدين مصر في عام 564 هـ واستولى على الحكم فيها بعد وفاة العاضد عام 567 هـ و بين هاتين الفترتين كانت هناك مآس ودماء.
يروي المقريزي: أرسل العاضد يستصرخ نور الدين محمود زنكي ويطالبه إنقاذ المسلمين من الفرنجة - بعد أن تحالف معهم شاور - فجهز أسد الدين شيركوه ومعه صلاح الدين عسكرا كثيرا وسيرهم إلى مصر. ونزل شيركوه القاهرة - بعد قتل شاور - فخلع عليه العاضد وأكرمه وتقلد شيركوه وزارة العاضد و قام بالدولة شهرين وخمسة أيام و مات.
وفوض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب فساس الأمور ودبر
لنفسه فبذل الأموال وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال. فلم يزل أمره في ازدياد و أمر العاضد في نقصان.
وأقطع أصحابه البلاد. وأبعد أهل مصر وأضعفهم. واستبد بالأمور و منع العاضد من التصرف. حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة. وتتبع جند العاضد وأخذ دور الأمراء وإقصاعاتهم فوهبها لأصحابه. و بعث إلى أبيه وإخوته. وأهله فقدموا من الشام عليه.
فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر. وهدم دار المعونة بمصر وعمرها مدرسة للشافعية. و أنشأ مدرسة أخرى للمالكية. وعزل قضاة مصر الشيعة وقلد القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي. وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله. وعزل سائر القضاة - في الأقاليم - واستناب قضاة شافعية. فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعي. واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر. ثم قبض على سائر من بقي من أمراء الدولة و أنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة. فأصبح البلد من العويل والبكاء ما يذهل.
وتحكم أصحابه في البلد بأيديهم وأخرج أقطاعات سائر المصريين لأصحابه.
وقبض على القصور وسلمها إلى الطواش بهاء الدين قراقوش الأسدي وجعله زمامها. وصار العاضد معتقلا تحت يده. وأبطل من الآذان حي على خير العمل.
وأزال شعار الدولة وخطب لخليفة بغداد 1.
هذه هي ملامح الإنقلاب الأيوبي في مصر. ذلك الإنقلاب الذي باركه الفقهاء والمؤرخون. لكونه أرحامهم من خصومهم الشيعة. و أن كان لم يحقق شيئا للإسلام و أنما حقق النفوذ والتمكن لآل أيوب.
وهو من وجهة نظر هؤلاء الفقهاء والمؤرخون يعتبر هذا الإنقلاب نصرا للإسلام باعتبار أن مذهب أهل السنة الذي يمثله صلاح الدين هو الإسلام الحق.
أما مذهب الشيعة فهو مذهب الزنادقة الباطنية.
و قد عبر كثير من الفقهاء المؤرخين عن فرحتهم بسقوط دولة الفاطميين وشاركوا العباسيين هذه الفرحة التاريخية بانهيار صرح الشيعة الذي أسهموا جميعا في هدمه.
يروي ابن الأثير: كتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره بقطع الخطبة للعاضد وإقامة الخطبة للمستضيء العباسي. فامتنع صلاح الدين واعتذر بالخوف من قيام الديار المصرية عليهم لميلهم إلى العلويين. و كان صلاح الدين يكره قطع الخطبة ويريد بقاءهم (بني فاطمة) خوفا من نور الدين فإنه كان يخاف أن يدخل إلى الديار المصرية يأخذها منه فكان يريد أن يكون العاضد معه. حتى إن قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه. فلما اعتذر لنور الدين بذلك لم يقبل عذره وألح عليه بقطع خطبته وألزمه إلزاما لا فسحة له في مخالفته. واتفق أن مرض العاضد مرضا شديدا واستشار صلاح الدين أمراءه فاختلفوا و كان أن قام أحد الفقهاء ويلقب بالأمير العالم وصعد المنبر في يوم الجمعة الأولى من محرم قبل الخطيب ودعا للمستضيء فلم ينتطح فيه عنزان وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ففعلوا.
و لما مات العاضد جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على القصر و ما فيه.
ووصلت البشارة إلى بغداد بذلك فضربت البشائر بها عدة أيام وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد له.
وسيرت الخلع من بغداد إلى نور الدين وصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية وأرسلت معها الرايات السود رايات العباسيين 2. ويروي ابن إياس عن أسباب موت العاضد قوله: فلما قطع الخطبة عن اسمه حصل له قهر عظيم وصار مع صلاح الدين كالمحجور عليه. و لا يتصرف في الأمور إلا بعد مشورة صلاح الدين. فما أطاق العاضد ذلك. فقيل إنه ابتلع فص ألماس فمات من يومه 3.
والعجيب أن صلاح الدين وهو المتسبب الأول في موت العاضد - جلس للعزاء فيه ومشى في جنازته 4.
استئصال الشيعة
بعد أن أسقط صلاح الدين حكم الفاطميين وأمسك بزمام الأمور في مصر استدار نحو جماهير الشيعة والمجتمع المصري ليمحو الشيعة من ساحته.
لقد كان من الممكن لصلاح الدين أن يترك الجماهير على عقيدتها ما دام قد سيطر على البلاد واعتقل العائلة الفاطمية. إلا أنه أبى وأصر على أن يستأصل الشيعة والتشيع من مصر. فهل كان موقفه المتشدد هذا تجاه الشيعة نابعا من عقيدته السنية. أم كانت له دوافعه السياسية؟
يحدثنا التاريخ أن صلاح الدين كان شافعيا. وهنا تبرز صفته المذهبية بصورة تدعونا إلى تفسير موقفه تجاه الشيعة. على أساس أنه حماية للعقيدة كما يحلو للبعض من المؤرخين والفقهاء أن يصور الأمر على أنه صراع بين الحق والباطل.
الحق الذي مثله صلاح الدين وأقامه.
والباطل الذي مثله الفاطميين و سقطوا.
والحق أن القضية كما هي واضحة من رواية ابن الأثير السابقة لا صلة لها بالدين و أنما هي قضية سياسية في المقام الأول الهدف منها تثبيت حكم صلاح الدين. في مواجهة خطر داهم يتهدده وهو خطر الجماهير الشيعية المتربصة به.
من هنا أخذ صلاح الدين الشيعة بجريرة الفاطميين و لو كان منصفا لاكتفى بتصفية الفاطميين كحكم وسلطة. لكنه تجاوز هذا الحد إلى مطاردة المذهب ذاته وتصفية أتباعه والبطش بهم بكل الوسائل والسبل مما دفع بالشيعة الذين استفزتهم هذه الممارسات العدو أنية إلى الثورة في وجهه والتربص به لقتله.
و لو كان الشيعة وقتئذ أقلية لما تطلب الأمر من صلاح الدين أن يتطرف في مواجهتهم إلى هذا الحد.
و لو كان الشيعة لا وزن لهم و لا فاعلية لما كان هناك مبرر لاستئصالهم.
و لو كان الوجود الإعلامي للشيعة ضعيفا لما تطلب الأمر منه أن يقوم بدعم المدارس الشافعية والمالكية ويغدق عليها العطاء ويفرضها فرضا على المصريين 5.
ومما يثير التساؤل والتعجب أن هذا البطش و هذه القسوة التي واجه بها صلاح الدين شعب مصر - و لا أقول شيعة مصر - و قد ترك عليها تابعة قراقوش الذي يضرب به المثل إلى اليوم في مصر - هذا البطش و هذه القسوة يقابلها تسامح وتساهل مع أعداء الإسلام والمسلمين من الصليبيين يكاد يخرج عن حدود الإسلام.
وسبحان الله رغم ما فعل صلاح الدين في مصر لا تجد له ذكر فيها بينما الفاطميون الذين قضى عليهم لا زال ذكرهم على الألسن إلى اليوم. لا زال الناس يذكرون المعز لدين الله الفاطمي وجوهر الصقلي والحاكم بأمر الله وهناك شارع باسم المعز في قلب القاهرة القديمة وكذلك هناك شارع باسم جوهر الصقلي.
و لا زال جامع الأنور على باب الفتوح الذي بناه الحاكم قائما. و لا زال مسجد الصالح طلائع خارج باب زويلة موجودا ويطلق عليه العامة مسجد طلائع. كذلك مسجد الأقمر الذي بناه الوزير أبو عبد الله الأقمر وزير الآمر بأحكام الله.
حتى القلعة التي بناها وأكملها أو لاده استولى عليها محمد علي وبنى عليها مسجده الضخم الذي غطى عليها وسميت القلعة باسمه. وأصبح العامة يطلقون عليها قلعة محمد علي.
وتروي لنا كتب التاريخ أن الصليبيين كانوا يخرجون من بيت المقدس بعربات محملة بالنفائس والجواهر والذهب ومعهم أطفالهم ونسائهم ومتعلقاتهم وكذلك اليهود. وهم حين دخلوا بيت المقدس جعلوا الدماء تجري فيها كالأنهار و لم يرحموا طفلا و لا شيخا و لا امرأة. فعل هذا صلاح الدين مع الصليبيين واليهود لكنه لم يفعله مع المسلمين من الشيعة. فقد بطش بهم البطشة الكبرى وفعل بهم ما تقشعر له الأبدان 6.
كيف يبرر مثل هذا السلوك؟
إنه ليس هناك من تبرير لهذا السلوك سوى أن الشعية هؤلاء كفار زنادقة إبادتهم قربى إلى الله. لكن الصليبيين واليهود كفار وزنادقة أيضا. فلما ذا التسامح هنا والبطش هناك.؟
لقد كانت لصلاح الدين بطانة حاقدة من الفقهاء والمنافقين الذين كانوا يزينون له مثل هذا السلوك العدو أني ويبررونه بدافع حماية عقيدة المسلمين والحفاظ عليها. ومع ذلك يذكر القاضي بن شداد في سيرته أن صلاح الدين كان حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى. وهو يصفه هذه الصفة و قد كتب كتابا كاملا في صلاح الدين 7.
يقول المقريزي:. واستمر الحال حتى قدمت عساكر شيركوه ووصول صلاح الدين إلى مصر عام 564 هـ فصرف قضاة مصر الشيعة كلهم وفرض المذهب الشافعي واختفى مذهب الشيعة الإسماعيلية و الإمامية حتى فقد من أرض مصر كلها. كما حمل صلاح الدين الكافة على عقيدة الأشعري في مصر وبلاد الشام و منها إلى أرض الحجاز واليمن وبلاد المغرب حتى أصبح الاعتقاد السائد بسائر هذه البلاد بحيث أن من خالفه ضرب عنقه 8. و يقول ابن تغري بردي في أحداث عام 565 هـ في و لاية العاضد الفاطمي: و قد وزر له - أي العاضد - الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. لم يكن له مع صلاح الدين إلا مجرد الاسم فقط. و في عام 566 هـ يقول: وفيها بني صلاح الدين مدرسة للشافعية و كان موضعها حبس المعونة. وبنى أيضا مدرسة للمالكية تعرف بدار العزل وولى صدر الدين عبد الملك بن درباس الكردي قضاء القاهرة.
و في عام 567 هـ مات العاضد و أنقطعت دولة الفاطميين من مصر بموته وأقام صلاح الدين الدعوة العباسية بمصر - أي الدعوة للخليفة العباسي - وأفرد صلاح الدين أهل العاضد ناحية عن القصر. وأجرى عليهم جميع ما يحتاجون إليه.
وسلمهم لخادمه قراقوش فعزل الرجال عن النساء واحتاط عليهم وفرق صلاح الدين الأموال التي أخذها من القصر في العساكر 9.
و يقول ابن خلكان: وتسلم صلاح الدين قصر الخلافة واستولى على ما كان به
من الأموال والذخائر و كانت عظيمة الوصف. وقبض على أو لاد العاضد و حبسهم في مكان واحد بالقصر وأجرى عليهم ما يمونهم وعفى آثارهم وقمع مواليهم وسائر نسائهم وفرق بين الرجال والنساء ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم. و كانت هذه الفعلة من أشرف أفعاله فلنعم ما فعل. فإن هؤلاء كانوا باطنيين زنادقة دعوا إلى مذهب التناسخ واعتقادهم حلول الجزء الإلهي في أشباحهم 10.
و كان صلاح الدين كما يقول ابن خلكان قد عزم على القبض على العاضد قبل وفاته هو وأشياعه واستفتى الفقهاء فأفتوه بجواز ذلك لما كان عليه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع في الصحابة والاشتهار بذلك فكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الشيخ نجم الدين الخبوشاني الشافعي 11.
ويعرب ابن خلكان عن فرحه وسعادته البالغة بمنجزات صلاح الدين بقوله:
وأضحى الدين واحدا بعد أن كان أديانا. والبدعة خاشعة. والجمعة جامعة.
والمذلة في شيع الضلالة شائعة. وذلك بأنهم اتخذوا عباد الله من دونه أولياء.
سموا أعداء الله أصفياء. وتقطعوا أمرهم بينهم شيعا وفرقوا أمر الأمة و كان مجتمعا. وكذبوا بالنار فجعلت لهم نار الحتوف ومزقوا كل ممزق وقطع دابرهم وحقت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا (و تمت كلمة ربك صدقا وعدلا) 12.
ثورات الشيعة
و كان من نتائج السياسة الإرهابية الدموية التي اتبعها صلاح الدين في مواجهة الشيعة أن فر الشيعة إلى الشام وجنوب مصر حيث لا تزل دعوة التشيع لها أعوانا في مأمن من بطش صلاح الدين. و قد أخذت التجمعات الشيعية هناك في تجميع صفوفها من أجل التصدي له.
ويروي ابن الأثير أنه في عام 569 هـ و في شهر رمضان كشفت محاولة للانقلاب على صلاح الدين وقتله من قبل مجموعة من العلويين. وقبض عليهم صلاح الدين وصلبهم و كان على رأسهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر. وله ديو أن شعر مشهور في غاية الحسن والرقة والملاحة 13.
ولقد حاول العاضد أن يتخلص من صلاح الدين وحرض عليه خادمه المؤتمن.
إلا أن المحاولة كشفت وقتل المؤتمن على أيدي رجال صلاح الدين.
يروي ابن الأثير حول هذه الحادثة: فغضب السودان لقتل المؤتمن فحشدوا و جمعوا فزادت عدتهم على خمسين ألفا وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية فاجتمع العسكر وقاتلوهم بين القصرين. وكثر القتل بين الفريقين. فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم بالمنصورة فأحرقها على أموالهم وأو لادهم. فلما أتاهم الخبر بذلك و لوا منهزمين فركبهم السيف وأخذت عليهم أفواه السكك فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل فأجيبوا إلى ذلك فخرجوا من مصر إلى الجيزة. فعبر إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر فأبادهم بالسيف و لم يبق منهم إلا القليل الشريد 14.
و في عام 570 هـ تجمع السودان حول رجل يدعو لإقامة الحكم الفاطمي في أسو أن و قد جمع من حوله خلقا كثيرا.
يقول ابن تغري يروي عن أحداث هذا العام: و كان أهل مصر يؤثرون عودهم - أي عودة الفاطميين - فسير صلاح الدين جيشا كثيفا وجعل مقدمه أخاه الملك العادل فساروا والتقوا به - أي بزعيم الثورة - وكسروه. ثم بعد ذلك استقرت له قواعد الملك 15.
و في عام 572 هـ يقول ابن تغري: وفيها كان مقدم السودان من صعيد مصر.
ساروا من الصعيد إلى مصر في مائة ألف أسود ليعيدوا الدولة الفاطمية. فخرج إليهم أخو صلاح الدين الملك العادل بكر وبمن معه من عساكر مصر والتقوا مع السودان فكانت بينهم وقعة هائلة وقتل كبير السودان و من معه 16.
و هذه هي الثورة الثالثة التي قام بها الشيعة ضد صلاح الدين و كانت في السنة السادسة من حكمه.
و في نفس العام أيضا وقعت ثورة أخرى في مدينة قفط بصعيد مصر أخمدها صلاح الدين وأرسل لها أخاه العادل على جيش فقتل من أهلها ثلاثة آلاف
وصلبهم على شجرها ظاهر قفط بعمائهم وطيالسينهم 17.
و قد تعرض صلاح الدين لعدة محاو لات لاغتياله في مصر والشام من قبل عناصر شيعية سعت للانتقام منه بسبب جرائمه في حق الشيعة 18.
والمتأمل في هذا الصراع الذي دار بين صلاح الدين و الشيعة في مصر يتبين له أن صلاح الدين استخدم وسائل غير مشروعة في قمع معارضيه تتنافى مع الإسلام.
و أن لجوء صلاح الدين إلى مثل هذه الوسائل اللاإنسانية التي مارسها على الفاطميين - مثل عزل الرجال عن النساء وإحراق بيوت السودان على أو لادهم وأموالهم - هذه الوسائل إنما تكشف عجزه عن استئصال التشيع وحب آل البيت من قلوب المصريين 19.
___________
1. خطط المقريزي ج 2 ص 39. و أنظر النجوم الزاهرة ج 5 ترجمة العاضد ص 334. وفيه أن صلاح الدين أفرد أهل العاضد ناجية عن القصر وأجرى عليهم جميع ما يحتاجون إليه. وسلمهم إلى الخادم قراقوش فعزل الرجال عن النساء واحتاط عليهم.
2. الكامل في التاريخ ج 9 ص 111: 112. و يبدو أن فرح العباسيين بموت العاضد ونهاية الفاطميين كان أشد من فرحة الأيوبيين. مع العلم أن الأيوبيين يشكلون نفس التحدي والخطورة على العباسيين. لكن هناك فرق.
واعتبر ابن إياس أن استيلاء صلاح الدين على مصر من قبيل الفتوحات.
انظر بدائع الزهور ج 1 ق 1 ص 148.
3. بدائع الزهور. و في النجوم الزاهرة: تو في العاضد الخليفة الرابع عشر من خلفاء الفاطميين (ثلاثة في المغرب وإحدى عشر في مصر) عن ثلاث وعشرين سنة. واختلفوا في أسباب وفاته: أحدها أنه تفكر في أموره فرآها في إدبار فأصابه ذرب عظيم فمات فيه. والثاني أنه لما خطب لبني العباس وبلغه ذلك اغتم و مات. والثالث أنه لما أيقن بزوال دولته كان في يده خاتم له فص مسموم فمصه فمات منه. ج 5 ص 356.
4. هناك الكثير من الإشارات التي تؤكد أن صلاح الدين دبر لقتل العاضد.
انظر خطط المقريزي وبدائع الزهور والنجوم الزاهرة والكامل وحسن المحاضرة.
5. أحرق صلاح الدين نفائس الكتب التي كانت بدار الحكمة ودار العلم كما أغلق الجامع الأزهر. يروي المقريزي: وأبطل صلاح الدين الخطبة فيه. فلم يزل الجامع الأزهر معطلا عن إقامة الجمعة فيه مائة عام منذ صلاح الدين إلى بيبرس. ج 3 / 150.
6. أنظر المراجع التاريخية.
7. هو القاضي بهاء الدين الشافعي ت 632 هـ . والكتاب هو: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية. و أنظر ترجمة نجم الدين الخبوشاني الفقيه الشافعي نديم صلاح الدين والذي كان يحرضه على الشيعة ويطعن في عقائدها ويكفرها. و لما مات وجد لديه ألوف الدنانير قد جمعها بغير الحق و لم يصرفها في وجوهها المشروعة. وأسف عليه صلاح الدين وخاب ظنه فيه. انظر النجوم الزاهرة ج 6 / 116.
8. خطط المقريزي
9. النجوم الزاهرة ج 5.
10. وفيات الأعيان ج 5 ص 341. نقلا من تاريخ الذهبي. وتأمل قول الذهبي وهو مؤرخ شامي متعصب: أن هذه الفعلة من أشرف أفعاله. و من أين أتى بهذا الاتهام التناسخ والحلولية. وهل تقول الشيعة بهذا.؟ إن الذهبي نهج نهج مؤرخي السنة مثل ابن كثير وابن الأثير وابن تغري بردي والسيوطي و غيرهم الذين أعماهم الحقد على الشيعة فتصيدوا لها الأخطاء وألقوا عليهم التهم جزافا. والذهبي هذا يعد من تلامذة ابن تيمية وهو الذي قام بتلخيص كتابه منهاج الكرامة. و قد سمى هذا الملخص منهاج الاعتدال و قد انقلب على ابن تيمية بعد ذلك. انظر سير أعلام النبلاء. و أنظر لنا عقائد السنة وعقائد الشيعة.
11. المرجع السابق ص 344.
12. المرجع السابق نفس الصفحة. وتأمل التهم الجزافية غير المعقولة. ومثل اتخاذ عباد الله من دونه أولياء وتسمية أعداء الله بالأصفياء والتكذيب بالنار. إن مثل هذه التهم لم تسرد على لسان أحد من المؤرخين. فضلا عن كونها تنم عن قلة وعي بالعقائد والأديان. فلم توجد فرقة و لا دين أنكر الآخرة أو كذب بالنار. ثم إنه هل توحدت الأمة بقيام الأيوبيين. وهل كان أمرها مجتمعا قبل قيام الفاطميين.؟
وتأمل شماتة مؤرخ آخر هو السيوطي
حيث يقول: وأخذ صلاح الدين في نصر السنة وإشاعة الحق وإهانة المبتدعة والانتقام من الروافض و كانوا بمصر كثيرين. حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ج 2 ص 25.
و قد انبرى السيوطي في كتاب أصدره بهذه المناسبة أسماه: كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد.
وألف ابن الجوزي كتابا أسماه: النصر على مصر.
وألف أبو بكر الباقلاني كتابا أسماه: كشف الأسرار وهتك الأستار.
وألف الغزالي كتابا أسماه: فضائح الباطنية.
وألف غير ذلك كثير من الكتب بأو أمر وتوجيهات الحكام والسلاطين. أي جناية تلك التي ارتكبها هؤلاء الفقهاء والمؤرخين في حق الأمة و في حق تاريخها. و في حق الأجيال القادمة.؟
و لم يكن أمر الشماتة ينحصر في الفقهاء والمؤرخين بل امتد ليشمل الشعراء الذين يأكلون على كل الموائد الذين أورد شعرهم السيوطي في حسن المحاضرة.
أنشد العماد يقول:
قد خطبنا للمستضئ بمصر * نائب المصطفى إمام العصر
ألستم مزيلي دولة الكفر * من بني عبيد بمصر هذا هو الفضل
زنادقة شيعية باطنية * مجوس و ما في الصالحين لهم أصل
13. الكامل ج 9 ص 123 / 124. ويروي شهاب الدين المقدس في كتابه الروضتين في أخبار الدولتين ص 219 تحت عنو أن صلب عمارة اليمني:
اجتمع جماعة من دعاة الدولة المصرية المتعصبة المتشددة المتصلبة وتزاوروا فيما بينهم خيفة وخفية وأحكموا الرأي والتدبير وتبيتوا أمرهم بليل. و بعد أن أوشى بهم زين الدين علي (واحد منهم) أمر السلطان
بإحضار مقدميهم واعتقالهم لإقامة السياسة فيهم. وصلب يوم السبت ثاني شهر رمضان جماعة منهم بين القصرين منهم عمارة. وأفنى بعد ذلك من بقي منهم.
14. الكامل ج 9 ص 103.
15. النجوم الزاهرة ج 6 ص 24 و أنظر أحداث سنة 584 هـ ومحاولة التحريض على الثورة بالقاهرة.
16. المرجع السابق أحداث عام 572 هـ . السنة السادسة من حكم صلاح الدين.
17. خطط المقريزي ج 1 ص 436. والطيالسين نوع من الملابس.
18. يروي ابن تغري عن أحداث عام 571 هـ : وفيها وثب الإسماعيلية على السلطان وهو على إعزاز - مكان بالشام - جاءه ثلاثة في زي الأجناد فضربه واحد بسكين في رأسه فلم يجرحه وخدشت السكين خده وقتل الثلاثة. و في حصار صلاح الدين لحلب هاجمت مجموعة فدائيي الإسماعيلية خيمة صلاح الدين واصطدموا بحراسه ودار قتال سقط فيه عدد من القتلى والجرحى من الجانبين. وحدثت غارة إسماعيلية أخرى سقط فيها عدد من الجرحى. مما دفع بصلاح الدين إلى محاصرة قلاع الإسماعيلية بالشام وقتل وأسر الكثيرين. النجوم ج 6 / 10.
19. الشيعة في مصر للكاتب المصري صالح الورداني.