إن هذه الآية المباركة تدل وبشكل واضح على مشروعية زيارة القبور وخصوصاً قبور الأنبياء عليهم السلام إذ أن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله لم تحصره الآيـة في زمن حياته (ص)، وبإعتبارنا أمة مؤمنة بالكتاب العزيز وانه الدستور الذي يرسم لها الطريق الواضح فمضمون هذه الآية يكفي للدلالة على مشروعية الزيارة هـذه أولاً.
وثانياً: إن لأرواح الأنبياء نحو من التأثير بالنسبة للشخص الذي قصدها فالآية تدل على أن هؤلاء القوم لو جاؤوك واستغفروا الله وأنت تستغفر لهم حيـاً أو ميتاً لوجدو الله تواباً ريحما فمسألة التوسّل بالأولياء من المسائل الواضحة التي تشير إليها الآية المباركة ولا نريد أن نقف عليها طويلاً الآن.
أهداف زيارة القبور عند الأمم السابقة
إن زيارة القبور ظاهرة قديمة موجودة عند الشعوب الموغلة في التأريخ وقبل الإسلام بقرون طويلة كالإغريق واليونان وغيرهم من الشعوب كانوا يزورون قبور عظمائهم لأهداف يمكن إجمالها كما يأتي:
أولاً: الداعي الأخلاقي. إحتراماً لهذه الرموز وإيفاءً لحقّها وللخدمات الجليلة التي قدمتها إن كانت من الرموز العامة كالعلماء والمصلحين.
ثانياً: داعي وجداني: هو بالنسبة لبقية الأشخاص أما بداعي الحب أو الشوق أو غيرها من الدواعي النفسية.
ثالثاً: إن هذه الظاهرة لها منشأ عقائدي وخلاصته هو الحصول على بركة أرواح الأولياء وخصوصاً عند المؤمنين منهم حيث كانوا يعتقدون بقاء الأرواح بعد الأبدان وهذا الإعتقاد قديم وموجود عند الأمم التي سبقت الإسلام وأنهم كانوا يعتقدون أن الروح لا يقربها فناء. وهذه الدواعي كانت من المناشئ لحصول هذه الظاهرة.
الميراث الإجتماعي وتربية الأنبياء
لقد ركّزت دعوات الأنبياء على فكرة بقاء الروح وخلودها بعد الروح والتركيز على هذه القضية كان من أركان الإيمان وهو الخطوة الأولى في إثبات المعاد وكانت الركيزة الأساسية في تربية الناس وتعليمهم حتى تحولت إلى ثقافة عامة وتصدّوا للإجابة على الشبهات التي كانت تطرحها أممهم بل إن بعض الأنبياء أحيا أمام قومه الكثير من الأموات كما حصل لنبي الله عيسى عليه السلام وهذا المقدار حتماً له تأثير على الناس ثم تناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل كحدث خارق للعادة. ويمكن القول إن أغلب هذه العوامل التي أنشأ هذه الظاهرة ظاهرة زيارة القبور يرجع إلى تربية الأنبياء السابقين وهذه بقايا من آثارهم التربوية والعلمية ولكن بعض هذه المعاني قد أعتراه الغموض وأضيفت إليه بعض الطقوس التي لم يأتي بها الأنبياء (ع).
الفلسفة والميراث الدينـي
نستطيع أن نقول ان في الفترة التي انتعشت فيه الحركة العقلية وخصوصاً في اليونان استطاعت في أغلب أدوارها وخصوصاً في زمن أفلاطون وارسطوا أن تسجل تقدّماً واضحاً في مقام البحث العقلي فقد استطاعت من جهة عقلية ان تثبت وجود الأرواح وأنها مغايرة للأبدان وأن لها طابع البقاء والخلود كما ساد اعتقاد عندهم نتيجة لبقاء الأرواح إن أرواح الصالحين تمد الناس بالخير ولذلك شيّدت المدارس العلمية قرب قبور الفلاسفة.
إنحراف الهدف
عزيزي القارئ إنك علمت الأهداف القيمة والتربوية والأخلاقية لزيارة القبور ولكن للأسف الشديد هذه الأهداف القيمة والأخلاقية إنحرفت عن مسارها الحقيقي بين الشعوب القديمة وبرزت ظاهرة جديدة إسمها عبادة الأرواح وهو الذي تشبّث به البعض الآن عندما يدعوا إلى محو القبور أو منع الزيارة وكان الذي يقوم بذلك وبالخصوص الآشوريون والبابليون وأمم أخرى حيث يصل الأمر إلى تقديم القرابين للمزور مع وجود روح العبادة لتلك القبور.
تصحيح المسيرة
إحتاج هذا الإنحراف إلى عملية تصحيح وإعادته على المسار الصحيح السابق وقد ورد في الحديث الشريف (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) وهدف هذا الحديث واضح للفصل بين مرحلتين، بين عادة تحمل طابع وثني وبين إحياء ظاهرة أسس وجودها الأنبياء ولكن تحمل طابع العبودية لله فاحتاج المشروع إلى وقت لتربية الناس وترسيخ العقائد بهم وصقل نفوسهم حتى يأذن لهم بمواصلة المسيرة التي بدأها غيرهم.
أهداف الزيارة العامة في الإسلام
لقد وردت أحاديث تنص على إستحباب زيارة القبور فضلاً عن الأولياء منه ما رواه ابن ماجه في السنن ومالك في الموطأ وغيرها من كتب الصحاح ويمكن إجمال بعض هذه الأهداف.
أولاً: ترقيق القلب لأن الزيارة تذكّر بالموت والموت يبعد الإنسان عن الدنيا ولا يجعله متعلّقاً بها فله دور في إيجاد حالة الخشية والرقة وهو واعظ على حد تعبير الحديث (كفى بالموت واعظا).
ثانياً: التذكير بالآخرة فإن إنشغال الإنسان بأعماله الحياته قد يؤدي إلى نسيان الآخرة فتأتي مثل هذه الزيارة لتذكّر الإنسان بالمصير الذي ينتهي إليه.
ثالثاً: الحصول على بركة أرواح الأولياء.
وفي الآية المباركة إشارة إلى هذه المعاني الثلاثة.
أهداف زيارة الحسين (ع)
ان لزيارة الحسين (ع) نفس الأهداف المتقدمة مع حصول أهداف جديدة ونذكر منها:
الهدف الأول: الندم على عدم النصرة.
وقد نشأ بعد مقتله الشعور بالتقصير والإثم وكان له مظاهر متعدّدة كثورة التوابين والإقبال على القبر الشريف من قبل أهل الكوفة خصوصاً وأهل العراق عموماً ويمكن القول بأن هذا الهدف بالحقيقة هدف تأريخي يشمل الجيل المعاصر للإمام الحسين (ع) الذي كان يشعر بالتقصير وعدم النصرة أمام تضحيات سيد الشهداء (ع).
الهدف الثاني: القربى إلى الرسول (ص):
باعتبار ان النبي (ص) أوصى بذريته وبآله وعترته بتكريمهم وإحترامهم وعدم التقدم عليهم والعمل بأوامرهم ومن أبسط مظاهر التكريم هو زيارة تلك القبور الطاهرة ولقد ورد في الحديث الشريف (من حب أن يصافح مائة ألف وأربعة وعشرون نبي فليزر الحسين).
الهدف الثالث: تحصيل الأجر والثواب:
فالروايات تؤكد أنه تعالى أجرى للإمام كرامات نصّت الرواية على ثلاث منها، إستجابة الدعاء تحت قبّته وهو مما يشوّق المؤمنين للتشرّف والوقوف تحت القبّة الطاهرة حتى يتظرّعوا إلى الله عزوجل بألوان الدعاء ببركة الإمام الحسين (ع) وإظهار العبودية للمولى. وجعل الإمام في ذريته والشفاء في تربته.
الهدف الرابع: رفض الظلم:
كانت أحد الأساليب في رفض الحكومات الظالمة وإعلان التبرء منها هو زيارة قبر سيد الشهداء وعدّها لون من ألوان المقاومة لما يمثله (ع) من رمز للحرية والحق ورفض الظلم ومقاومة الطغاة وكان يجد الزائر فسحةً للتعبير عن الكبت النفسي والإجتماعي الذي كان يعيشه في نفسه بسبب تلك الأنظمة المستبدّة.
لذلك كانت ظاهرة الزيارة مخيفة لهذه الحكومات فسعت بطريقة وأخرى إلى إلغائها وأرادت أن تعطي لهذا الإلغاء طابعاً شرعياً وعلمياً ويمكن القول ان تحريم الزيارة وجعلها بدعة كانت هذه الفكرة نواتها سياسية سعى حكّام بني أمية زرعها في الوسط الإسلامي ثم غذّتها كل الحكومات التي جاءت بعدها لإشتراكها معها في الظلم والإستبداد حتى تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى مسألة فقهية ثم تطوّرت وصارت مسألة عقائدية حتى أصبحوا يكفّرون من يقول بجواز زيارة القبور!!!.
الهدف الخامس : إيقاض الأمة وتحريكها:
المتتبع للتاريخ الإسلامي يعلم جيّداً إن الحكومات التي توالت على الأمة الإسلامية حكومات أموية وعباسية وغيرها سعت إلى طمس معالم الحق والدين بل سعت إلى تحريف النصوص المباركة الواردة من الشارع كما حصل في زمان معاوية من وضع للأحاديث المكذوبة أما لرفع شخص ظالم أو ترويج فكرة باطلة وشيئاً فشيئاً بدأت هذه الحكومات تسحب الأمة الإسلامية إلى الجاهلية فبدأت تنتشر قيم الجاهلية البائدة كالظلم والربا والزنا وأكل حقوق الضعفاء وقتل الأبرياء وغيرها من مظاهر الحياة الجاهلية.
فكان الأئمة عليهم السلام يحثّون أصحابهم للمداومة على هذه الزيارة لكي يتأثروا بروح الحسين (ع) بإعتبار ان الشيعة هم حملة الحق وتعرّضوا للضغوط في مختلف العصور فأرادوا الأئمة (ع) أن يصنعوا رجال على مستوى المسؤولية بأن يعيش أهل البيت في فكرهم بشكل حي من أجل إيجاد نمط يتفاعل مع الحسين (ع) وأهدافه وآدابه ليجدوا عند ملامستهم كربلاء والوقوف على القبر الطاهر القيم الخالدة التي عاشتها الثورة الإلهية ويعيدوا تجسيد ذات الكيان الأمّة المنهك كالصبر والكرامة والأباء والفداء والإلتفاف حول المبدأ الصحيح. جعلنا الله من الذين يتشرّفون بزيارة قبور الأولياء وخصوصاً قبر سيد الشهداء عليه السلام وينالون من فيض عطائه والحمد لله رب العالمين.