نبعة من الجنّة
إذا توجّهت المشيئة الإلهية إلى أمر، وصبّت عنايتها عليه، فإنّ خلقاً فريداً يظهر، تبقى العقول والقلوب مذهولةً أمامه، وقد شاء الله جلّت عظمتُه أن يخلق امرأةً تكون ابنةً لأشرف الأنبياء والمرسلين، وقرينةً لسيد الأوصياء الطاهرين، وأُمّاً للأئمة الميامين، فسكب إرادته جلّت قدرتُه على أمره فكانت فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، تلك الحوراء الإنسيّة.. قال السيوطيّ في ظل قوله تعالى: سبحانَ الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجدِ الحرام.. (1):
أخرج الطبرانيّ عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لمّا أُسريَ بي الى السماء أُدخلتُ الجنّة فوقفتُ على شجرة من أشجار الجنّة لم أرَ في الجنة أحسنَ منها ولا أبيض ورقاً ولا أطيب ثمرة، فتناولت ثمرةً من ثمرتها، فأكلتُها فصارتْ نطفةً في صلبي،... فحملتْ (أي خديجة) بفاطمة، فإذا اشتقتُ الى ريح الجنّة شممتُ ريح فاطمة(2). وقد ذكرها النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم في أحاديث عديدة معرِّفاً بها أنّها: حوراء إنسيّة، أو حوراءُ آدميّة، وأنّها الطاهرة التي قالت أمّها خديجة أمّ المؤمنين رضوان الله عليها: إنّي حملتُ حملاً خفيفاً، فإذا خرجت حدّثني الذي في بطني(3).
و شاء الله تباركت آلاؤه أن يكون للزهراء الطاهرة عليها السلام في دنيانا هذا وعالمنا المشهود استقبالٌ مشرِّفٌ خاصّ، يكون لها ولأمّها السيّدة خديجة رحمها الله كرامةً ومزيداً من الإجلال، بعد أن كانت نسوةُ مكّة قد هجرن خديجة، فلم يدخلن عليها، ولم يُسلّمْن عليها، ولم يتركنَ امرأةً تدخل عليها، فاستوحشت لذلك، فلم تزلْ كذلك حتّى حضرتها الولادة فوجّهتْ الى نساء قريش وبني هاشم أن تَعالينَ لِتلينَ منّي ما تلي النساءُ من النساء، فأرسلنَ اليها: أنت عصيتِنا، ولم تقبلي قولَنا، وتزوّجتِ محمداً يتيمَ أبي طالب فقيراً لا مال له، فلسنا نجيء، ولا نلي من أمركِ شيئا. فاغتمّتْ خديجة عليها السلام لذلك(4).
يقول المحبُّ الطبريّ: روى الملأُ في سيرته صلّى الله عليه وآله أنّه قال: فبينما هي (أي خديجة) كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة... فقالت إحداهنّ: أنا أمُّكِ حوّاء، وقالت الأخرى: أنا آسية بنت مُزاحم، وقالت الأخرى: أنا كلثم أختُ موسى، وقالت الأخرى: أنا مريم بنت عمران أمُّ عيسى، جئنا لنليَ من أمركِ ماتلي النساء. قالت (خديجة): فولدتُ فاطمةَ سلام الله عليها فوقعتْ حين وقعتْ على الأرض ساجدةً رافعة إصبعَها(5).
و في رواية الشيخ الصدوق رحمه الله: قال الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل حول ولادة جدّته الصديقة فاطمةَ عليها السلام: ... فبينا كذلك إذْ دخل عليها أربع نسوة سُمرٍ طوال كأنّهنّ من نساء بني هاشم، ففزعت (أي خديجة) منهنّ لمّا رأتهنّ، فقالت إحداهنّ: لا تحزني يا خديجة فإنّا رسُلُ ربِّكِ إليكِ، ونحن أخواتُك: أنا سارة، وهذه آسية بنتُ مزاحم وهي رفيقتُك في الجنّة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثومُ أختُ موسى بن عمران، بعثَنا الله إليكِ لنليَ منكِ ما تلي النساء... فوضعتْ فاطمةَ طاهرةً مطهَّرة، فلمّا سقطتْ الى الأرض أشرق منها النور..(6).
و كان ذلك في العشرين من جُمادى الآخرة في السنة الخامسة من المبعث النبويّ المبارك.. وفي يوم من أيّام الله.. الجمعة، وبقعةٍ طيّبة في أرض الله.. مكّة المكرّمة، هلّ النور السماويّ فتهلّل المُحيّا النبويّ..
شـرّف اللهُ جُـمـادى الآخـرةة |
|
فـغدت وهْـي جمادى الفاخـرة |
و تـبـاهـتْ أشهرُ الحَولِ بهـا |
|
حـيـث جـاءت بالبتولِ الطاهرة |
فـانـظـروا العشرين منه لترَوا |
|