في البيت الفاطميّ
  • عنوان المقال: في البيت الفاطميّ
  • الکاتب: نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام
  • مصدر: نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام
  • تاريخ النشر: 19:47:5 1-9-1403

الأسوة هُم

في صدر الإسلام.. مرّت الجزيرة العربيّة بحالةٍ من الفقر والحرمان، فتلك الصحراء المترامية الأطراف تتطلّب جهوداً كبرى ليحصل منها المرء على شرابه وطعامه، فأين منها العَجَزة والفقراء والضعفاء ؟! وكم كان المحرومون يرفعون عيونهم إلى كبراء القوم فيتحسّرون ويتأوّهون لِما يجدون فيهم من البذخ والإسراف والترف والطغيان!
ولم يسكّن آلامَ المساكين المحرومين إلاّ آياتُ الوحي، وزهدُ رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم، فضلاً عن عطائهم ومواساتهم ومشاركتهم في أحوالهم، فكانت حياتهم صلوات الله عليهم تحكي الزهد والصبر والعفاف، كما تحكي النزاهة والترفّع والإباء والرفعة عن أدناس الدنيا ومذلاّتها، فإذا نظر المُدقَعُ في شؤونهم الخاصّة شَعَر أنّه أفضل حالاً، أو في الأقل أنّه مُساوى ومُواسى مِن قِبَلهم سلام الله عليه.
لقد كانت معيشة أهل البيت النبويّ بسيطةً سليمة، تفوح بالكفاف من جهة، وبالرضى عن الله تبارك وتعالى مِن جهةٍ أخرى. حتّى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وهو أشرف الخَلق ـ شدّ على بطنه حَجَرَ المجاعة، وشارك المساكين في حرمانهم، وعاش معهم واحداً منهم، وكذلك أخوه ووصيّه عليُّ بن أبي طالب وابنته وبضعتُه الطاهرة فاطمة الزهراء عليهما السلام حينما جمعهما بيت المودّة الزوجيّة، ذلك البيت القدسي الذي مَلآه عبادةً وعطاءً، وفاض على الفقراء خيراً ورحمة، وكان للناس أُسوةً وقدوة، في: الألفة والتعاون والمحبّة والصبر والزهد والحياة البسيطة الطيّبة.
كتب أنور الجندي المصري في ( السيرة النبويّة: ص 359 ): إنّ فاطمة عليها السلام عاشت في بيت عليّ عليه السلام عيشةَ زوجها الذي يَضَعُه المتصوّفة في قمّتهم من تقشّفه ( أي يتباهون بالانتساب إليه والمضيّ على طريقته )، ويَضعُه التاريخ بين أبطال حروب النبيّ صلّى الله عليه وآله في المكان الأوّل، وإذا أطلق الناسُ على العالِم بين الصحابة وُصِف الإمام، فإنّه هو. أدخَلَها عليها السلام رسولُ الله صلّى الله عليه وآله إلى عليٍّ في خميل ( فراش بسيط ) وقربةٍ للماء، ووسادةِ أدم ( جلد ) حَشْوُها إذْخر ( ورق شجر الإذخر ).
 

قالت الروايات

• أنّ الإمام أبا جعفر الباقر عليه السلام قال: « إنّ فاطمة عليها السلام ضَمِنَت لعليٍّ عليه السلام عملَ البيت والعجين والخبز وقَمّ البيت، وضَمِن لها عليٌّ عليه السلام ما كان خلف الباب: نقلَ الحطب، وأن يجيء بالطعام.
فقال لها يوماً: يا فاطمة، هل عندكِ شي؟ قالت: والذي عظّم حقَّك، ما كان عندنا منذ ثلاثةِ أيّامٍ شيءٌ نُقريك به. قال: أفَلا أخبرتِني! قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله نهاني أن أسالك شيئاً فقال: لا تَسألين ابنَ عمِّك شيئاً، إن جاءكِ بشيءٍ عَفْوٍ وإلاّ فلا تَسأليه.. » ( تفسير العيّاشي 171:1، تفسير الصافي للفيض الكاشاني 332:1، قصص الأنبياء للجزائري:402، البرهان للسيّد هاشم البحراني 282:1 ).
• وروى ابن الجوزي في ( أحكام النساء:124 ) أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام قال: « لقد تزوّجتُ فاطمة ومالي ولها فراشٌ غير جلدِ كبش، ننام عليه بالليل ونضعه على الناضح بالنهار، ومالي ولها خادمٌ غيرها. ولمّا زوجّها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أرسل بي معها بخميلةٍ ووسادةِ أدم ( حشوها ليف )، ورحاءينِ وسقاء وجرّتَين، فجرت بالرحاء حتّى أثّرت في يدها، واستقت بالقربة حتّى أثّرت القربة بنحرها، وقمّت البيت حتّى اغبّرت ثيابها، وأوقدت تحت القِدر حتّى دَكِنَت ثيابُها » ( الناضح: بعير السقي ).
• وفي روايةٍ أخرى نُقل عنه قوله عليه السلام: « إنّها كانت عندي وكانت مِن أحبّ أهله إليه صلّى الله عليه وآله، وإنّها استقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها، وطحنت بالرَّحى حتّى مَجَلَت يدُها، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القِدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها مِن ذلك ضررٌ شديد! » ( علل الشرائع للشيخ الصدوق:366 / ح 1، ذخائر العقبى لمحبّ الدين الطبري:50، حلية الأولياء لأبي نُعَيم 70:1.. وغيرها. مَجَلَت: تقرّحت من العمل، وتكوّن ماء بين الجلد واللحم. دَكِنَت: اسودّت ).
• وكتب ابن شهرآشوب في ( مناقب آل أبي طالب 30:2 ): إنّ يعقوب ( النبيّ عليه السلام ) ارتدّ بصيراً بقميص ابنه ( يوسف عليه السلام )، وكان لعليّ عليه السلام قميصٌ مِن غزل فاطمة عليها السلام يقي به نفسَه في الحروب. ( عنه: بحار الأنوار 54:39 / ح 15 ).
• وقال زيد بن الحسن: سمعتُ أبا عبدالله ( الصادق )عليه السلام يقول: « كان عليٌّ عليه السلام يستقي ويحتطب، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز، وتُرقّع » ( تنبيه الخواطر لورّام 148:2، الكافي للكليني 165:8 / ح 167 ).
• وفي ( الفضائل:112 ) لابن شاذان، و ( درّ بحر المناقب:30 ) لابن حسنَوَيه، و ( رياض الأبرار:7 ) للجزائري.. وغيرها:
دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله على عليٍّ عليه السلام فوجَدَه هو وفاطمة عليها السلام يطحنانِ في الجاروش، فقال صلّى الله عليه وآله: « أيُّكما أعيا ؟ »، فقال عليٌّ عليه السلام: « فاطمةُ يا رسول الله »، فقال لها: « قُومي يا بُنيّة ». فقامت، وجلس النبيّ صلّى الله عليه وآله موضعَها مع عليٍّ عليه السلام فواساه في طحن الحَبّ.
• وفي ( مناقب آل أبي طالب 342:3 )، و ( مسند فاطمة عليها السلام:62 ) للسيوطي الشافعي، و ( شواهد التنزيل 445:2 / ح 1110 ) للحسكاني الحنفي.. وغيرها، عن جابر الأنصاري أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله رأى فاطمة عليها السلام وعليها كساء من أجلّة الإبل، وهي تطحن بيديها وتُرضع ولدَها، فدَمِعَت عينا رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: « يا بِنتاه، تَعجّلي مرارةَ الدنيا بحلاوة الآخرة »، فقالت: « الحمدُ لله على نَعمائهِ، والشكرُ للهِ على آلائهِ ». فأنزل الله: ولَسَوفَ يُعطِيكَ ربُّكَ فَتَرضى [ سورة الضحى:5 ].
• وكثيرةٌ عديدةٌ وفيرةٌ هي الأخبار في ذلك، نختمها بهذه الرواية الشريفة رواها: السبزواري محمّد بن محمّد في ( جامع الأخبار:275 ـ 276 / ح 751 ـ الفصل 59 في خدمة العيال )، والسيّد نعمة الله الجزائري في ( الأنوار النعمائية 154:2 )، والشيخ المجلسي في ( بحار الأنوار 132:101 / ح 1 ):
عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام قال: « دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وفاطمةُ جالسةٌ عند القِدْر وأنا أُنقّي العدس، قال: يا أبا الحسن، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: إسمَعْ منّي ـ وما أقولُ إلاّ مِن أمر ربّي ـ، ما مِن رجلٍ يُعين امرأتَه في بيتها إلاّ كان له بكلّ شعرةٍ على بدنه عبادة سنة: صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه الله تعالى من الثواب مِثل ما أعطاه الصابرين: داودَ النبيّ ويعقوبَ وعيسى عليهم السلام.
يا عليّ، مَن كان في خدمة العيال في البيت ولم يأنَفْ كتب اللهُ تعالى اسمَه في ديوان الشهداء، وكتب الله له بكلّ يومٍ وليلةٍ ثواب ألف شهيد، وكتب له بكلِّ قَدَمٍ ثوابَ حجّةٍ وعُمرة، وأعطاه الله تعالى بكلّ عَرَقٍ في جسدِه مدينةً في الجنّة.
يا عليّ، ساعةٌ في خدمة العيال خيرٌ من عبادةِ ألفِ سنة وألفِ حجّةٍ وألف عمرة، وخيرٌ مِن عِتق ألفِ رقبة وألفِ غزوة، وألف مريضٍ عاده، وألفِ جمعة وألف جنازة، وألفِ جائعٍ يُشبعهم وألفِ عارٍ يكسوهم، وألفِ فَرَسٍ يُوجّهُها في سبيل الله، وخيرٌ مِن الف دينارٍ يتصدّق بها على المساكين...
يا عليّ، مَن لم يأنف مِن خدمة العيال دخل الجنّة بغير حساب.
يا عليّ، خدمةُ العيال كفّارة للكبائر، وتُطفئ غضبَ الربّ، ومهورُ الحور العِين، وتزيد في الحسنات والدرجات.
يا عليّ، لا يخدم العيالَ إلاّ صدّيق أو شهيد، أو رجلٌ يريد الله به خيرَ الدنيا والآخرة ».
وهكذا، لم يخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله من الدنيا حتّى هتف في ضمائر الرجال أن يحنوا على عيالهم بالإعانة الرؤوفة، ودعا إلى تنظيم أعمال الأسرة ومهمّاتها؛ لتمضيَ حياة أفرادها بهدوءٍ ومحبّةٍ وسعادة.
وإذا كان الثواب المُعَدّ لمَن يخدم عياله غيرَ متوقَّع، أو كان مُستكثَراً عند الناس؛ فَلأنّ العقول لا تتصوّر الكرم الإلهيّ، كما لا تتصوّر الرحمة الإلهيّة على الضعفاء، والترغيب الالهيّ في خدمة البشر ليأخذوا طريقَهم إلى طاعة الله تبارك وتعالى في حياةٍ آمنةٍ طيّبة.