مِمّا ينبغي أنْ يُقال
أنّ الأنبياء والمرسلين، والأوصياء والأئمّة الطيّبين، صلَواتُ الله عليه أجمعين، هُم بَشَرٌ في صورهم، ولكنّ هذه الحقيقة القرآنية لم تكن لِتَعني أنّهم كسائر البشر في جميع حالاتهم وطبائعهم، وإذا كانت الآية المباركة « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم يُوحى إلَيّ أَنَّما إلهُكُم إلهٌ واحِد » [ الكهف:110 ] يفهم البعضُ منّا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله حالُه كحال الناس تماماً، فإنّ للمفسّرين رأياً أعلى وأسمى مِن ذلك، حيث فَهِموا هذه الآية المباركة أنّ فيها قَصْراً في عبارة « إنَّما أَنَا بَشَرٌ » أُريد بها المماثلة لبشريّة الناس ردّاً على ما تخيّله البعض يومَها أنّ مُدّعي النبوّة يمكن أن يَدّعيَ كينونةً إلهيّة، أو قدرة غيبيّةً مستقلّة، ولذا كانوا يقترحون على رسول الله صلّى الله عليه وآله بما لا يعلمه إلاّ الله، ولا يَقْدِر عليه إلاّ الله، فنفى صلّى الله عليه وآله كلَّ ذلك بأمرٍ من الله، وأثبتَ أنّه بَشرٌ يُوحى إليه الغَيبُ مِن عند الله، تبارك وتعالى.
وقد يتصوّر أكثر الناس أنّ « يُوحى إِلَيَّ » عبارةٌ سهلة، لكنّها في الواقع تنطوي على منازلَ رفيعة، ومقاماتٍ عُليا، وخصائصَ ساميةٍ فريدة، وعناياتٍ إلهيّة مباركة، ورعاياتٍ ربّانيّة شريفة. ومن هنا يكون لرسول الله صلّى الله عليه وآله ولخلفائه الأئمّة الهداة سلام الله عليهم ملَكَاتٌ خاصّة، وهباتٌ رحمانيّةٌ متميّزةٌ مخصوصة، تجعلهم في سماء مقام الحجّيّة على الناس، والخَلْقُ من بعدهم كلّهم في أرض المحجوجيّة.
هذا ما ينبغي أن يُقال، فيُعرَفَ ويُفهَمَ ويُعتقَد به، كذا ينبغي أن على نعلم أنّ الله تبارك شأنه في خلقه أسراراً وشؤوناً وحِكَماً تخفى على عباده، كذلك أنّ له مشيئةً حكيمة وإرادةً قادرةًً قدسيّة، تجلّت في خَلْقٍ شريفٍ طاهرٍ سامٍ لا يُقاس به أحد، كبَضعةِ سيّد الكائنات وأشرف الرُّسُل والأنبياء، المصطفى الأكرم، محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، تلك هي الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء البتول صلواتُ الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبينها، وقد شَرُفت على جميع الخَلْق بالضرورة؛ لأنّها بضعةُ رسولِ الله وروحُه التي بين جَنْبَيه وهو سيّد الوجود، كذلك كان لها بالضرورة الخصائص السامية القدسيّة كأبيها صلّى الله عليه وآله، ولِمَ لا وهي ابنتُه الحوراء الإنسيّة والمُعَدّةُ وحدَها أن تكون زوجةَ سيّدِ الأوصياء وأميرِ المؤمنين عليٍّ صلواتُ الله عليه، وأُمَّ أئمّةِ الحقّ الهُداة: الحسن والحسين، والتسعةِ المعصومين مِن ذريّة الحسين، إلى خاتَمِهم المهديّ المنتظر صلَواتُ الله عليهم أجمعين.
ومن هنا جاءت الروايات الشريفة، عن مصادر السُّنّة ومصادر الشيعة، متواترةً متظافرةً كلّها تهتف بفضائلها الفريدة، وأفضليّاتها العديدة، ومقاماتها العجيبة، ومنازلها الغريبة!
مِن خصائص الزهراء عليها السلام
وهي مجلّدات وافرة نهلت مِن فَيضِ ما جاء فيها على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهنا نقتصر على ذِكر ما ورد في مصادر العامّة وموثّقاتها وطرقها.
• منها عن عائشة، اخترنا من عشرات رواياتها ما نقله الخطيب البغدادي في ( تاريخ بغداد 87:5 ـ ط السعادة بمصر )، والمحبّ الطبريّ في ( ذخائر العقبى:36 ـ ط مكتبة القدسي بمصر )، والذهبي في ( ميزان الاعتدال 38:1 ـ طبعة القاهرة، والزرندي الحنفي في ( نظم درر السمطين:177 ـ ط مطبعة القضاء )، وغيرهم كالخوارزمي الحنفي في ( مقتل الحسين عليه السلام:63 ـ ط الغري ) بسندٍ انتهى إلى عائشة أنّها قالت: كنتُ أرى رسول الله صلّى الله عليه وآله يُقبّل فاطمة، فقلت: يا رسول الله، إنّي أراك تفعل شيئاً ما كنتُ أراك تفعله مِن قَبْل!، فقال: « يا حُمَيراء! إنّه لمّا كان ليلةُ أُسرِيَ بي إلى السماء، أُدخِلتُ الجنّةَ فوقفتُ على شجرةٍ من شجر الجنة، لم أرَ في الجنّة شجرةً هي أحسنُ منها ولا أبيضُ منها ورقة ولا أطيبُ ثمرةً، فتناولت ثمرةً من ثمرتها فأكلتها فصارت نطفةً في صُلبي، فلمّا هبطتُ إلى الأرض واقعتُ خديجةَ فحمَلَت بفاطمة، فإذا اشتَقتُ إلى رائحة الجنّة شَمَمتُ رائحة فاطمة. يا حُمَيراء! إنّ فاطمة ليست كنساء الآدميّين، ولا تَعتَلّ كما يَعتَلِلْن ».
• وفي ( تجهيز الجيش:99 ـ من المخطوط ) كتب الشيخ حسن بن المولوي أمان الله الدهلوي العظيم آبادي ـ وهو من علماء السُّنّة ـ: ذكر الشيخ عزّ الدين عبدالسلام الشافعيّ في رسالته ( مدح الخلفاء الراشدين ) أنّه لمّا حَمَلت خديجةُ بفاطمة كانت تكلّمها في بطنها، وكانت خديجة تكتمها عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، فدَخَل عليها يوماً فوجَدَها تتكلّم وليس معها غيرها، فسألها عمّن كانت تخاطبه، فقالت: مَع ما في بطني؛ فإنّه يتكلّم معي، فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وآله: « أبْشِري يا خديجة، هذه بنتٌ جعَلَها اللهُ أُمَّ أحدَ عشَرَ مِن خلفائي يَخُرجون بعدي وبعد أبيهم ».
• وفي ( الروض الفائق:214 ـ ط القاهرة ) كتب الشيخ شعيب أبو مدين بن سعد المصري العمراوي ـ وهو من علماء السنّة أيضاً ـ:
لمّا سأل الكفّارُ النبيَّ أن يُريَهُم انشقاقَ القمر وقد بان لخديجة حملُها بفاطمة وظَهَر، قالت خديجة: واخَيبةَ مَن كذّب محمّداً وهو خيرُ رسولٍ ونبيّ! فنادتها فاطمة من بطنها: « يا أُمّاهُ لا تحزني ولا ترهبي؛ فإنّ الله مع أبي »، فلمّا تَمّ أمَدُ حملها ( أي خديجة ) وانقضى، وَضَعَت فاطمةَ فأشرق بنورِ وجهها الفضاء.
• وفي: ( ذخائر العقبى:38 ـ ط مكتبة القدسي بمصر )، و ( ذيل اللآلي للسيوطي الشافعي:160 ـ ط لكهنو الهند )، و ( لسان الميزان لابن حجر العسقلاني 417:2 ـ ط حيدر آباد الدكن بالهند )، و ( ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي:199 ـ ط اسلامبول )، و ( وسيلة المآل في عَدّ مناقب الآل لباكثير الحضرمي الشافعي:92 ـ ط المكتبة الظاهريّة بدمشق )، والخطيب الخوارزمي الحنفي في ( مقتل الحسين عليه السلام:52 ـ ط الغري ) بسندٍ انتهى إلى الإمام عليٍّ عليه السلام أنّه قال: « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « تُحشَر آبنتي فاطمةُ عليها حُلّةُ الكرامة، فتنظر إليها الخلائقُ فيتعجّبون منها، ثمّ تُكسى أيضاً حُلّةً مِن حُلَلِ الجنّة وهي ألفُ حلّة، مكتوبٌ على كلّ حُلّةٍ بخطٍ أخضر: « أَدخِلُوا آبنةَ محمّدٍ الجنةَ على أحسنِ الصورة وأحسنِ الكرامة وأحسن المنظر »، فتُزَفّ إلى الجنّة كما تُزَفّ العروس، ويوكَّل بها سبعونَ ألفَ جارية ».
قال أبو الليث السمرقندي في كتابه ( قُرّة العيون ومفرِّح القلب المحزون:139 ـ ط مصر ) مضيفاً: « وتسير جميع الرجال إلى محمّدٍ المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنساءُ عند فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، ويركب النبيّ صلّى الله عليه وآله البُراق، ويُعقَد له لواء الحمد ».
• وفي: ( مودّة القربى للسيّد علي الهمداني:116 ـ ط لاهور )، و ( ينابيع المودّة:263 ـ ط اسلامبول )، و ( مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي:59 ـ ط الغري ) بسندٍ ينتهي إلى سلمان الفارسيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « يا سلمان، مَن أحَبَّ فاطمةَ آبنتي فهو في الجنّة معي، ومَن أبغَضَها فهو في النار. يا سلمان، حُبُّ فاطمة ينفع في مئةٍ من المواطن، أيسَرُ تلك المواطن: الموت، والقبر، والميزان، والمحشر، والصراط، والمحاسبة! فَمَن رَضِيَت عنه آبنتي فاطمةُ رَضِيتُ عنه، ومَن رَضِيتُ عنه رضيَ اللهُ عنه، ومَن غَضِبَت عليه آبنتي فاطمةُ غَضِبتُ عليه، ومَن غَضِبتُ عليه غَضِب اللهُ عليه. يا سلمان، وَيلٌ لِمَن يظلمها ويَظلمُ بَعْلَها عليّاً! وَيلٌ لمَن يظلم ذُرّيّتَها وشيعتَها ».
سؤالٌ نابِه
هل بعد هذا دليلٌ أدلّ على عصمة مولاتنا الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء، حيث طابقَ رضاها وغضبُها رضى الله ورسولهِ وغضبَهما ؟! وهل بعد هذا أيضاً إشارةٌ أبلغ على مظلوميتها ومظلوميّة بعلِها وذريّتها، ثمّ شيعتها، وعلى أنّ هناك ظالمين لها عليها السلام، وأنّهم سينالون الويلَ بظلمهم ذاك ؟!