قبل وفاتها صلوات الله عليها
  • عنوان المقال: قبل وفاتها صلوات الله عليها
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:10:7 1-10-1403

يقع الكلام في هذه الخصيصة عن كفاءة السيدة فاطمة الزهراء ، وهل كان من السائغ أن تدخل بيت أي عبد من عباد الله كائنا ، ما كان مع ما لها من جلالة القدر والشرف وعلو الشأن ؟ ولما كان تكليف النساء وجوب الطاعة للزوج ، فهل يسوغ لمثل فاطمة المعصومة أن تدخل تحت ولاية ( أوامر ونواهي ) رجل غير معصوم ؟ للجواب على هذه الأسئلة نتعرض في المقام إلى مطلبين :
الأول : بيان الكفاءة .
والثاني : هل يجوز لغير المعصوم أن يتزوج المعصومة ؟ * * * قال في مجمع البحرين : « الكفاءة بالفتح والمد : تساوي الزوجين في الإسلام والإيمان ، وقيل : يعتبر مع ذلك يسار الزوج بالنفقة قوة وفعلا ، وقيل : بالإسلام ، والأول أشهر عند فقهاء الإمامية »  .
وذهب السنة إلى اشتراط ستة أشياء في الكفاءة جمعوها في بيتين :
شرط الكفاءة ستة قد حررت * ينبيك عنها بيت شعر مفرد
نسب ودين حرفة حرية * فقد العيوب وفي اليسار تردد
وفي « أنس النفوس » عن علماء السنة : قيل : الكفاءة التساوي في النسب ; فغير الشريف لا يجوز أن يتزوج الشريفة من بني المطلب أو بني هاشم ، وأجاز الشافعي تزويج الشريفة بغير الشريف . فالتكافؤ التساوي ; قال تعالى : ( كفوا أحد ) أي نظيرا ومساويا ، قولهم « تكافأ القوم » إذا تساووا وتماثلوا ، وكان أهل الجاهلية لا يرون دم الوضيع سواء لدم الشريف ، فإذا قتل الوضيع الشريف قتلوا العدد الكثير ، حتى جاء الإسلام فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » أي تتساوى في الديات والقصاص ، من التكافؤ وهو الاستواء .
وبعد هذه المقدمة الموجزة نقول : لقد وردت أخبار كثيرة تنص على أنه لولا أمير المؤمنين لما كان لفاطمة كفء ، كما روي في كتاب الأمالي والعلل ومعاني الأخبار وعيون أخبار الرضا وفي كتب أهل السنة مثل الفردوس وغيره .
ففي العيون عن الحسين بن خالد عن المولى الرضا ( عليه السلام ) مسندا إلى أمير المؤمنين ، قال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي ! لقد عاتبني رجال من قريش في أمر فاطمة وقالوا : خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت عليا ؟ فقلت لهم : والله ما أنا منعتكم وزوجته ، بل الله منعكم وزوجه ، فهبط علي جبرئيل فقال : يا محمد ! إن الله  جل جلاله يقول : « لو لم أخلق عليا لما كان لفاطمة ابنتك كفء على وجه الأرض ، من آدم فمن دونه » .
وفي الأمالي قال الصادق ( عليه السلام ) في حديث : « لولا أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) تزوجها لما كان لها كفء إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم ومن دونه » .
وفي معاني الأخبار عن يونس بن ظبيان عن الصادق ( عليه السلام ) : « يا علي ! لولاك لما كان لها كفء على وجه الأرض » .
وجاء في حديث الأمالي عن يونس بن ظبيان بلفظ « إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم ومن دونه » .
وروي في كتب المخالفين : إنه « لولا علي لم يكن لها كفء » .
وقيل في معنى البتول : « إن فاطمة تبتلت عن النظير وعن الرجال » .
وروى محمد بن جرير الطبري الشيعي في كتاب « دلائل الإمامة » كلا المضمونين .
ولما كان هذا العنوان في بيان شرائط الكفاءة ومراتبها ، فإننا نقسم الكلام فيها إلى قسمين : القسم الأول : في الفرد الكامل الجامع لجميع الشرائط .
والقسم الثاني : في الفرد الناقص الذي يجمع البعض ويفقد البعض . وقد اعتاد الناس في كل قرن وزمان - ولا زالوا هكذا إلى الآن - أن يستنكف الكامل في الكفاءة عن الزواج بمن هو دونه ، بل يجفلون ويستوحشون من ذلك . ولا زالت هذه التقاليد والعادات المشؤومة شائعة بين العالي والداني من آحاد الأمة المعاصرة ، بل بين الأمم الأخرى أيضا ، سيما بين السلاطين والوزراء والأعيان والأشراف والتجار والأغنياء والحرائر والعبيد ، فالحظ حليفهم في كل شئ إلا في هذا الأمر ، حيث يفرون منه فرارا شديدا ، مع أن المناط الأصلي إنما هو الإيمان والإسلام والقدرة على النفقة ، ويكفي قول المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) : « المؤمنون بعضهم أكفاء بعض » وأيضا : « المؤمن كفء المؤمنة والمسلم كفء المسلمة » .
وقال علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
الناس في حسب التمثال أكفاء * أبوهم آدم والأم حواء
وقال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
ولا مناص من التأسي بأقوال النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأفعاله بمفاد قوله تعالى : ( ولكم في رسول الله أسوة حسنة ) ( 5 ) وعلى الأمة المرحومة أن تأخذ أحكامها وتعاليمها المباركة منه ( صلى الله عليه وآله ) .
فغير الهاشمي يتزوج الهاشمية ، والأعجمي يتزوج العربية والقرشية ، لأن القانون السماوي والأمر الإلهي يجمع الأسود والأبيض ، والوضيع والشريف ، والفقير والغني ، ويجعل الجميع في مستو واحد ، بغض النظر عن صورهم ، ما دام قيد الإسلام والإيمان متوفرا ، وما دام الميزان هو الإمتثال والطاعة والالتزام بمعايير الشريعة الغراء ، فالإيمان كالجبال الرواسي لا تحركه العواصف ولا تزعزعه الرياح ، ولا ينبغي الاغترار بالمال والجمال ، إذ المال يسلب في ليلة ، والجمال يزوى بحمى . وكل ما سوى الإيمان في معرض الزوال والفناء ، وهو عارية عارضة ، وأي نعيم لا يكدره الدهر ; لذا قيل : لا تطلب المرأة لجمالها ومالها ، فسرعان ما يزولا .
إن افتخرت بآباء مضوا سلفا * قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا وفي الحديث النبوي ( صلى الله عليه وآله ) الصحيح : « لا تأتوني بأنسابكم ، بل ائتوني بأعمالكم » .
وبناء على هذا ، فقد رفع الإسلام النخوة والمفاخرة بالأنساب والتكاثر بالأموال والأولاد والعشائر ، وجعل الميزان الإيمان بالله ورسوله ، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى  .
وعلة النهي عن طلب المرأة لمالها وجمالها ، أن الراغب في الجميلة كثير والراغب في غيرها قليل ، فلو رغب في الجميلة فقط للزم الفساد ، والعقل يمنع عن القبائح والفساد .
وأما المرأة ذات النسب والمال ، فغالبا ما يأخذها العجب فتتكبر على الرجل وتفلت عن الإنقياد له ، بل تتعامل مع زوجها كما تتعامل مع الخدام والعبيد ، ولا شك أن هذا التعامل يؤدي إلى الإختلاف وإلى إرتباك الحياة وتفويت الأغراض ، وبمرور الأيام تكثر القبائح والفضائح وينتشر الفساد .
وقد روى الشيخ الحر العاملي ( قدس سره ) في كتاب الوسائل في باب النكاح أحاديث معتبرة في الترغيب والحث على تزويج المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات بدرجاتهم ، وروى أخبارا في تزاوج عامة المسلمين من العرب والعجم ، والأبيض والأسود ، والوضيع والشريف ، منها قصة نكاح ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بالمقداد بن الأسود رحمة الله عليه ، مع أن المقداد واطئ النسب فقير معدم ، وضباعة بنت الزبير ، وهو أخو عبد الله وأبو طالب سلام الله عليهما لأمهما وأبيهما .
وإنما فعل النبي ذلك ليكون قدوة تحتذي به الأمة المحقة والفرقة الناجية ، ويقتلع بذلك جذور الكبر والعجب من القلوب ، وتتلاشى النخوة من الرؤوس .
فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، ثم قال : « إنما زوجها المقداد لتتضع المناكح ولتتأسوا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولتعلموا ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وكان الزبير أخا عبد الله وأبي طالب لأبيهما وأمهما » .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أيضا قال : « أتت الموالي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقالوا : نشكو إليك هؤلاء العرب ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية ، وزوج سلمان وبلالا وصهيبا ، وأبوا علينا هؤلاء وقالوا : لا نفعل ، فذهب إليهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكلمهم فيهم ، فصاح الأعاريب : أبينا ذلك يا أبا الحسن ، أبينا ذلك ، فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول : يا معشر الموالي ! إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى ، يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم ولا يعطونكم مثل ما يأخذون ، فاتجروا بارك الله لكم فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها » .
أراد ( عليه السلام ) أن يفتح لهم طريقا حلالا في العمل وجمع المال ليرغب فيهم أهل المدينة .
وفي الكافي حديث طويل نأخذ منه موضع الحاجة : . . .
قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : « إن رجلا كان من أهل اليمامة يقال له : جويبر أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منتجعا للإسلام فأسلم وحسن إسلامه ، وكان رجلا قصيرا دميما محتاجا عاريا ، وكان من قباح السودان . . .
وإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة له ورقة عليه فقال له : يا جويبر ! لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك ، فقال له جويبر : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي من يرغب في ، فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال ، فأية امرأة ترغب في ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا جويبر ! إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفا ، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعا ، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلا ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشايرها وباسق أنسابها ، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم  وعربيهم وعجميهم من آدم ، وإن آدم خلقه الله من طين ، وإن أحب الناس إلى الله أطوعهم له وأتقاهم ، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلا إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع .
ثم قال له : انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه من أشرف بني بياضة حسبا فيهم ، فقل له : إني رسول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إليك ، وهو يقول لك :
يقول لك : زوج جويبرا بنتك الدلفاء ، فانطلق جويبر برسالة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده فاستأذن . . .
وبلغ الرسالة واثقا مطمئنا ، فقال له زياد : إنا لا نزوج فتياتنا إلا أكفاءنا فانصرف يا جويبر . . .
فسمعت مقالته الدلفاء بنت زياد وهي في خدرها ، فأرسلت إلى أبيها : أدخل إلي فدخل إليها فقالت له : ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبر ؟ . . .
والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بحضرته ، فابعث الآن رسولا يرد عليك جويبرا ; فبعث زياد رسولا فلحق جويبرا فقال له زياد : يا جويبر ! مرحبا بك اطمئن حتى أعود إليك ، ثم انطلق زياد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . . .
وسأله عن رسالة جويبر فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله) : يا زياد ! جويبر مؤمن ، والمؤمن كفو المؤمنة ، والمسلم كفو المسلمة ; فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه . . .
فرجع زياد إلى منزله . . .
فأخذ بيد جويبر ثم أخرجه إلى قومه فزوجه على سنة الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وضمن صداقه . . . » .
والحديث طويل وفيه ما يثلج الصدر ويدخل السرور على القلب ، ولكني اضطررت إلى اختصاره .
وفي الكافي أيضا : كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها ، وإن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) أعتق جارية ثم تزوجها ، فكتب العين إلى عبد الملك ، فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : أما بعد : فقد بلغني تزويجك مولاتك ، وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر ، وتستنجبه في الولد ، فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت .
والسلام .
فكتب إليه علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : « أما بعد : فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي ، وتزعم أنه كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر ، وأستنجبه في الولد ، وأنه ليس فوق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرتقا في المجد ، ولا مستزادا في كرم ، وإنما كانت ملك يميني خرجت مني ، أراد الله عز وجل مني بأمر ألتمس به ثوابه ، ثم أرتجعتها على سنة ، ومن كان زكيا في دين الله فليس يخل به شئ من أمره ، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ، وتمم به النقيصة ، وأذهب اللؤم ، فلا لؤم على امرء مسلم إنما اللؤم لؤم الجاهلية .
والسلام »  .
والآن ; لا بد من العودة إلى صلب الموضوع لنشرح الأحاديث المارة ، ونبين كيف كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كفء فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، ولولاه لما كان لها كفء على وجه الأرض آدم ( عليه السلام ) فمن دونه إلى يوم القيامة ، بل إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خلق لفاطمة ( عليها السلام ) .
تفريع رفيع إعلم ; أن هذا العنوان يحتاج إلى مقدمة نشير إليها إجمالا : من المعلوم أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان نفس النبي ( صلى الله عليه وآله ) بصريح آية المباهلة ، ولكن لا على نحو الحقيقة ; كيف والاتحاد بين اثنين غير معقول ، بل محال ، فالإتحاد كان إتحادا مجازيا ، وأقرب المجازات الاشتراك ، بمعنى أن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم بمفاد قوله تعالى ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) نفس النبي ، فتثبت له الأولوية أيضا ببرهان العقل والنقل والكتاب والسنة .
فما كانت من كمالات نفسانية وملكات رحمانية في الوجود النبوي المقدس ، فقد توفرت بالكمال والتمام في ذات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلا ما خرج بالدليل . فإذا قلنا باتحاد صاحب منزلة النبوة وصاحب مرتبة الإمامة ، واعتقدنا مساواتهما ، نقول : إن السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) اتصفت أيضا بجميع الكمالات والملكات النبوية والمرتضوية الحسنة ، وكانت تتلقى الإفاضات المعنوية من جهة النبوة والولاية دائما .
فكما كان أمير المؤمنين مساويا للنبي في كل شئ إلا النبوة ، فكذلك كانت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) مساوية وكفوا لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في كل شئ إلا الإمامة والإطاعة بلحاظ الزوجية ، قال تعالى : ( الرجال قوامون على النساء ) وقال تعالى : ( وللرجال عليهن درجة ) أما في غير هذين الموردين ، فقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حق فاطمة ما قاله في حق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، من قبيل قوله ( صلى الله عليه وآله ) « إنها روحي ونفسي وقلبي وبضعتي وثمرة فؤادي ونور بصري وفلذة كبدي وشجنتي ، وإنها مني وأنا منها » وغيرها مما ورد في كتب الفريقين مما لا يعد ولا يحصى .
فالإتحاد المعنوي النبوي والعلوي جار في وجود سيدة العصمة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، ( ولا شك أن فاطمة خلقت لأجل علي ، وأن عليا خلق لأجلها ، وأنهما كفوان ومتحدان لا يفترقان في عالم الأبدية بلا شائبة وريبة ) .
فمقام فاطمة ( عليها السلام ) تالي المرتبتين ، والنقطة بين الخطين ، والواقفة بين الحدين ، ولازمة بالمعية التامة منذ المبدأ في عالم الأنوار ، مشاركة دون انفكاك ، وهكذا تنزلت من حيث الذات إلى عالم الملكوت والملك ، وتجلت في بعض المحال تجليات خاصة بالانفراد .
وفي الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « يا علي أنت نفسي التي بين جنبي ، وفاطمة روحي التي بين جنبي » .
فأمير المؤمنين ( عليه السلام ) نفس النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وفاطمة روح النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد يقال : أن الروح أرفع وأعلى منزلة من منزلة النفس ، ولكن الروح والنفس متحدان في بعض الجهات ويحملان على معنى واحد ، أو أن هذه المقالات من الأمور الاعتبارية الإضافية ، فتطلق كما هي حسب الموارد إعظاما للمقام .
قال أحد العلماء المعاصرين : عيسى ( عليه السلام ) روح الله ، وفاطمة ( عليها السلام ) روح النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذه النسبة إلى الساحة الإلهية دليل الأفضلية ، فيكون عيسى ( عليه السلام ) أفضل من فاطمة ( عليها السلام ) ، ثم إن مقام الذكورة أفضل من مقام الأنوثة ، والرجال أفضل من النساء ! ! ولكن هذه المرأة أفضل من رجال العالمين ، تفوقهم جميعا شرفا وفضلا وأولوية ، وليس في عالم الأرواح والأنوار والعقول والنفوس عنوان الأنوثة ، وأشباح هذه الهياكل المقدسة تمتاز عن الأشباح الملكية الحسية الأخرى .
ولا التذكير فخر للرجال على أي حال فإن لهذين العظيمين وحدة حقة وواقعية بالحقيقة المحمدية ، ولا مشاحة في الاصطلاح : عبارتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير بناء على ذلك يمكن أن نثبت لفاطمة المرضية ( عليها السلام ) نفس الأولوية النبوية والمرتضوية بالنسبة إلى عموم البرية إضافة إلى العصمة والكفاءة الكاملة ، بل نقول بأفضليتها على الأنبياء من أولي العزم عدا النبي ( صلى الله عليه وآله ) والولي ( عليه السلام ) ، ولنا على ذلك أوضح برهان .
وتجد بيان ما ذكرنا في العبارات الشريفة المنيفة التي سطرها العلامة المجلسي في ذيل الحديث « لولا علي ما كان لفاطمة على وجه الأرض كفء » قال ( رحمه الله ) :
« بيان : يمكن أن يستدل به على كون علي وفاطمة ( عليهما السلام ) أشرف من سائر أولي العزم سوى نبينا صلى الله عليهم أجمعين ، لا يقال : لا يدل على فضلهما على نوح وإبراهيم ( عليهما السلام ) ، لاحتمال كون عدم كونهما كفوين ، لكونهما من أجدادهما ( عليهم السلام ) ، لأنا نقول ذكر آدم ( عليه السلام ) يدل على أن المراد عدم كونهما أكفاءها ، مع قطع النظر عن الموانع الأخر ، على أنه يمكن أن يتشبث بعدم القول بالفصل ، نعم يمكن أن يناقش في دلالته على فضل فاطمة عليهم بأنهم يمكن أن يشترط في الكفاءة كون الزوج أفضل ، ولا يبعد ذلك من متفاهم العرف ، والله العالم »  .
ولا ينقضي عجبي من الملا علي القوشجي - عليه ما عليه -
حيث قال في حق الشيعة : « هذه الفرقة العليلة القليلة الذليلة قالت بعصمة امرأة ، مع أن جمهور أهل السنة والجماعة لا يقولون بعصمة كافة الأنبياء » .
وروى عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي عن المفضلة البغداديين تفضيل فاطمة الزهراء على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وغيره من الخلفاء ، وقال : هلك في علي اثنان : غال ومفرط ، ومحب ومبغض ، وقال : المنهج القويم والطريق المستقيم وسلوك الإعتدال ما ذهب إليه المفضلة من أن علي بن أبي طالب أفضل الخلق بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
ومع ذلك قال : « الحمد لله الذي فضل المفضول على الفاضل لحكمة اقتضاها التكليف .
وأي منصف عاقل إذا قرأ هذه العبارات السخيفة والإعتقادات الواهية علم أحقية عقيدة الفرقة الناجية والشيعة الإمامية .
وإنما فضلوا فاطمة ( عليها السلام ) على سلطان الولاية علي ليعتموا على شرفه ومنزلته ، ثم عطفوا الجميع عليه بواو العطف ، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ألا إنهم هم المفسدون ، وهنالك يخسر المبطلون ويهلك البطالون .
وأنشد ابن أبي الحديد أبياتا في تفضيل فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال :
وخير خلق الله بعد المصطفى * أعظمهم يوم الفخار شرفا
السيد المعظم الوصي * بعد البتول المرتضى علي
وابناه ثم حمزة وجعفر * ثم عتيق بعدهم لا ينكر
المخلص الصديق ثم عمر * فاروق دين الله ذاك القسور
وبعده عثمان ذو النورين * هذا هو الحق بغير مين وذكر
في كتاب « أنس النفوس » وغيره أدلة سخيفة أقامها أهل السنة على تفضيل فاطمة ( عليها السلام ) على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكلها ناشئة من الأغراض الفاسدة والخيالات الكاسدة ، والأمر بيد الله تعالى يفضل بعض عباده من أولياءه على بعض ، وهو المعز والمذل ، وقال عز مجده : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) أي الأنبياء والأولياء ، لكن الذين خالفوهم أضدادهم في الدين وأعداءهم في الآخرة والأولى على نحو اليقين ، وإنهم من الفرقة الطاغية والفئة الباغية ، والشيعة من هؤلاء برآء ، فويل لمن شفعاؤه خصماؤه .
طريقة رشيقة ثبت في مذهبنا أن المعصومة لا يتزوجها إلا معصوم ، ولو جاز للزم القول بجعل السبيل للفاسق على المعصومة ، وهو خلاف رضا الله تعالى ، ويأبى الله المنان أن يجعل أمته المطيعة في حكم الرجل العاصي .
نعم ; يجوز العكس ، فللأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) أن يتزوجوا غير المعصومات .
والمعصومات من النساء اثنتين لا ثالث لهما ، وهما السيدة مريم ( عليها السلام ) وفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) . وإنما قلنا أن المعصومة لا يتزوجها إلا معصوم ، لأن المعصومة مصيبة وغير المعصوم مخطئ ، وذو العصمة أشرف من غيره ، ولا يجوز لأهل الصواب أن يدخلوا في حبائل أهل الخطأ ، وفرض إطاعة المخطئ ينافي رضا الحق ، كما مر سابقا .
وقالوا : « المرأة تأخذ من دين بعلها » فكيف يكون ذلك والمرأة مصيبة والرجل مخطأ ؟ ! ولكن ما ذكرناه يتعارض مع قوله تعالى : ( وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ) وقوله : ( الرجال قوامون على النساء ) وقوله : ( فضل الله بعضهم على بعض ) فالآيات لا تفيد ما استفدناه ; ولذا ينبغي الإشارة إلى معنى الدرجة وتفضيل الرجال على النساء إجمالا ليتضح الأمر : أولا : إن « الدرجة » في الآية المذكورة تعني فضل الرجال على النساء بلحاظ الإنفاق الواجب على الرجال ، أو بلحاظ ما يأخذه الرجال في الإرث ( فللذكر مثل حظ الأنثيين ) ، أو بلحاظ ثبوت حق الطلاق للرجال ; ف‍ « الطلاق بيد من أخذ بالساق » ، أو بلحاظ كمال العقل والقابلية للنبوة وكمال الولاية ، وهو ما أبعدت عنه النساء .
وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : حق الرجل على المرأة كحقي عليكم ، ومن ضيع حقي ضيع حق الله ، ومن ضيع حق الله غضب الله عليه .
وقال أيضا : « خير الرجال من أمتي خيرهم لنسائهم ، وخير النساء من أمتي خيرهن لأزواجهن » .
ثانيا : لقد فضل الله ورسوله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على فاطمة ، وعلى هذا عقيدة كل مسلم ، عالما كان أو جاهلا ، وهو المذهب الحق .
ولكن لا يخفى أن الله لم يجعل أي امرأة مساوية لرجل إلا فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) - كما في رواية العوالم - حيث ساوت ( عليها السلام ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في آية المباهلة  فخصص العموم لخصوصية خاصة بها ( عليه السلام ) .
ويشهد لذلك الأحاديث المعتبرة المتواترة عن الأئمة البررة ( عليهم السلام ) ; منها ما روي في البحار : « كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يطيعها في جميع ما تأمره » وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أحيانا فيقول : « يا علي أطع فاطمة ( عليها السلام ) » ويأمر فاطمة ( عليها السلام ) فيقول : « أطيعي عليا » .
وإنما يأمر عليا بطاعتها لعصمتها وصواب رأيها ولأنها لا تخطأ ، وكأن رأي فاطمة رأي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولذا قال ( عليه السلام ) : « عاشرت فاطمة تسع سنين ، فلم تسخطني ولم أسخطها » .
فإذا كان علي كفء فاطمة وفاطمة كفء علي ، حرم على علي أن يتزوج بغيرها ما دامت حية ، وإن كانت الموانع مرفوعة .
ففي البحار : « إن الله حرم النساء على علي ما دامت فاطمة حية ، لأنها لم تحض » وهي في كل ليلة عذراء باكرة - كما مر في خصائصها - . وهذا الحكم من خصائصها ( عليها السلام ) ، كما أن الإطاعة المتبادلة بينهما ( عليهما السلام ) من خصائصها ( عليها السلام ) .
فنقول : إن معنى الكفاءة تعين في هذا المورد خاصة العصمة ، يعني أن فاطمة ‹معصومة يجب أن يتزوجها معصوم ، فلو لم يخلق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لم يكن لأحد أن يتزوجها ; لذا قيل في الحديث : « لو لم يكن علي لما كان لفاطمة ( عليها السلام ) كفء » .
وهذا البيان برهان واضح على عصمة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في خصيصة مستقلة الكلام في إثبات عصمتها ( عليها السلام ) رغما لأرباب الخلاف والاعتساف ; وسننكب الملا علي القوشجي الذي صرح بعدم عصمتها وندمغه بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة ، وسيمدنا باطن العصمة إن شاء الله تعالى ليبقى هذا الكلام الحق ذكرى في الخواطر .
تبين مما مر : أن العصمة في النساء انحصرت في السيدة مريم ( عليها السلام ) والسيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، وأن غير المعصوم لا سبيل له على المعصومة ، وأن فاطمة الزهراء ، زوجها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالأمر الإلهي من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهو دليل على عصمة سلطان الولاية علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لأن المعصومة لا ينكحها إلا المعصوم ، والصديقة لا يغسلها إلا الصديق .
أما معنى قوله ( عليه السلام ) « آدم فمن دونه » فله عدة وجوه : أحدها : أن يكون المراد ب‍ « من دونه » بني آدم عموما ، معصومين وغير معصومين .
والآخر : أن يكون المراد بهذا التعبير المعصومين من الأنبياء ، خصوصا إلا من خرج بالدليل ، وآدم أبو البشر له نسبة الأبوة مع جميع البشر ، فهو خارج للنسبة ، فلا كفء لفاطمة ( عليها السلام ) إلى آدم ، وإذا خصصنا « من دونه » بالمعصومين ، فآدم أول الأنبياء خارج أيضا بالدليل كآباءها الكرام وأجدادها العظام .
فالمراد ب‍ « من دونه » الأنبياء فردا فردا ، أي لمن يكن فيهم كفء لفاطمة الزهراء ، لا من حيث نسبها الفخيم ولا حسبها العظيم ، إذ لم فيهم من كان له أب كأب فاطمة ، ولا ارتباط وعلقة بالحقيقة المحمدية مثل الصديقة ، وأنى يحصل لفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) زوجا كعلي في قرابته ورحمه الماسة ، وهو نفس النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأولى بالمؤمنين من أنفسهم .
فكما كانت عصمة فاطمة دليلا على عصمة بعلها ، كانت أولوية النفس القدسية العلوية دليلا على أولوية النفس المقدسة الفاطمية ، لأنهما كفوان وفي عالم الأنوار متحدان .
نعم ، لو نظرنا إلى رتبة التنزلات الوجودية والنزول من العوالم الغيبية إلى العوالم الشهودية ، فإن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أفضل من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمقام النبوة ، وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أفضل من فاطمة ( عليها السلام ) لمقام الولاية والإمامة ، ولكن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) أقرب إلى رسول الله ، والنقطة الوجودية لوجودها أقرب لخط النبوة ; ففاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كانت جامعة وبرزخ بين النبوة والولاية ، تنتسب من العلو إلى خاتم النبوة ومن دون ذلك إلى مرتبة الولاية ، وقد احتضنت في كنف العصمة أحد عشر كوكبا من أولادها المعصومين ، وغذتهم بثدي الرحمة وشرفت الجميع بشرف ذاتها المقدسة ، وشهد الله - بأنهم يفتخرون بهذه النسبة في الدنيا والآخرة ، فكما يفخر عيسى ( عليه السلام ) أنه ابن مريم ، يفخر ذوو الذوات المقدسة أنهم من بطن الطهارة ورحم العصمة لفاطمة المعصومة المطهرة ، مع ما لهم من شرف الإنتساب إلى الأبوة العلوية المرتضوية العالية .
وأعظم ما في هذه النسبة من شرف اتصال الخطوط الوجودية لهذه الذوات المقدسة بواسطة فاطمة الزهراء أمهم بالوجود المبارك للعقل الأول وأول الموجودات ، سيد الكائنات وسيد الأوصياء صلوات الله عليهما . لذا قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « لكل بني أنثى عصبة ينتمون ، إليه إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم وأنا أبوهم » .
وهذه من الخصائص الفاطمية والمزايا النبوية ، وسيأتي شرح الحديث في باب العترة الزكية إن شاء الله تعالى . ولذا كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) - وهو أعظم الأولياء الكاملين والنفس المقدسة لحضرة خاتم المرسلين وسلطان العالمين - يباهي ويفتخر بزواجه بفاطمة الزكية ، وقد حرم الله عليه الزواج بغيرها ما دامت حية ، وجعلها كفوا لا كفو لها إلا علي ، فيكفي في جلالة قدر فاطمة أنها كفو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأن النساء حرمت عليه مع وجودها .
ويكفي في جلالة قدر علي أن تكون كفوه امرأة كفاطمة في فخامة النسب وعظمة الحسب ، كفو لا ند له ولا نظير ، فهي الكاملة من جهات الإنسانية ، والمنزهة من النواقص ، صلوات الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وعلى ولديها .