فاقت فاطمة الزهراء (عليها السلام) نساء عصرها في الحسب والنسب فهي بنت محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة[1] رضي الله عنها وسليلة الفضل والعلم والسجايا الخيّرة، وغاية الجمال الخَلقي والخُلقي، ونهاية الكمال المعنوي والإنساني، علا شأوها وتألّق نجمها. وكانت (عليها السلام) تمتاز منذ صغر سنها بالنضج الفكري والرشد العقلي، وقد وهب الله لها عقلاً كاملاً
وذهناً وقّاداً وذكاءً حادّاً وحسناً وجمالاً في إشراقةِ محياها النورانية، فما أكثر مواهبها وما أعظم فضائلها وهي تكبر يوماً بعد يوم تحت ظلال النبيّ (صلى الله عليه وآله) حتى أدركت سلام الله عليها مدرك النساء!!
وما إن دخلت السنة الثانية من هجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبدأت طلائع الاستقرار تلوح للمسلمين حتى خطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال من النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فكان (صلى الله عليه وآله) يردّهم ردّاً جميلاً ويقول لكلّ من جاءه : « إنّي أنتظر فيها أمر الله » وكان (صلى الله عليه وآله) يعرض عنهم بوجهه الكريم حتى كان الرجل يظنّ في نفسه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ساخط عليه[2] .
وكان رسول الله قد حبسها على عليّ ، ويرغب أن يخطبها منه[3] .
وعن بريدة قال : خطب أبو بكر فاطمة (عليها السلام)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنّها صغيرة ، وإنّي أنتظر بها القضاء » فلقيه عمر فأخبره ، فقال : ردّك ، ثم خطبها عمر فردّه[4] .
عليّ (عليه السلام) يتقدّم لخطبة الزهراء (عليها السلام) :
كان الإمام عليّ (عليه السلام) يفكّر في خطبة الزهراء، ولكنّه بقي (عليه السلام) بين الحالة التي يعيشها هو والمجتمع الإسلامي من فقر وفاقة وضيق في المعيشة، يصرفه عن التفكير في الزواج ويشغله عن نفسه وهواجسها في بناء الاُسرة، وبين واقعه الشخصي وقد تجاوز الواحد والعشرين من العمر[5] ، وآن له أن يتزوّج من فاطمة التي لا كفؤ لها سواه ولا كفؤ له سواها، وهي نسيج لا يتكرّر.
ذات يوم وما أن أكمل الإمام (عليه السلام) عمله حتى حلّ عن ناضحه وأقبل يقوده إلى منزله فشدّه فيه ، وتوجّه نحو منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان في بيت السيدة اُمّ سلمة ، وبينما كان الإمام في الطريق هبط ملك من السماء بأمر إلهي هو أن يزوِّجَ النور من النور ، أي فاطمة من عليّ[6] .
فدقّ عليّ (عليه السلام) الباب ، فقالت أُمّ سلمة : من بالباب ؟ فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « قومي يا اُمّ سلمة فافتحي له الباب ومريه بالدخول ، فهذا رجل يحبّه الله ورسوله ويُحبّهما » فقالت اُمّ سلمة : فداك أبي واُمي ، من هذا الذي تذكر فيه هذا وأنت لم تره ؟ فقال : « مه يا اُمّ سلمة ، فهذا رجل ليس بالخرق ولا بالنزق، هذا أخي وابن عمّي وأحبّ الخلق إليّ » قالت اُمّ سلمة : فقمت مبادرةً أكاد أعثر بمرطي ، ففتحت الباب فإذا أنا بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : « السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته » فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله) : « وعليك السلام يا أبا الحسن ، اجلس » فجلس علىّ (عليه السلام) بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعل ينظر إلى الأرض كأنّه قصد لحاجة وهو يستحي أن يبيّنها ، فهو مطرق إلى الأرض حياءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) علم ما في نفس عليّ (عليه السلام) فقال له : « يا أبا الحسن، إنّي أرى أنّك أتيت لحاجة ، فقل حاجتك وابدِ ما في نفسك ، فكلّ حاجة لك عندي مقضية » قال عليّ (عليه السلام) : «فداك أبي واُمي إنّك أخذتني عن عمّك أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد وأنا صبي، فغذّيتني بغذائك ، وأدّبتني بأدبك ، فكنتَ إليّ أفضل من أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد في البرّ والشفقة ، وإنّ الله تعالى هداني بك وعلى يديك ، وإنّك والله ذخري وذخيرتي في الدنيا والآخرة يا رسول الله فقد أحببت مع ما شدّ الله من عضدي بك أن يكون لي بيت وأن تكون لي زوجة أسكن إليها، وقد أتيتك خاطباً راغباً ، أخطب اليك إبنتك فاطمة ، فهل أنت مزوّجي يا رسول الله ؟ » فتهلّل وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرحاً وسروراً ، وأتى فاطمة فقال : « إنّ عليّاً قد ذكركِ وهو من قد عرفتِ » فسكتت (عليها السلام) ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « الله أكبر ، سكوتها رضاها » فخرج فزوّجها[7] .
قالت اُمّ سلمة : فرأيت وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتهلّل فرحاً وسروراً ، ثم تبسّم في وجه عليّ (عليه السلام) فقال : « يا عليّ فهل معك شيء أُزوّجك به ؟ » فقال عليّ (عليه السلام) : « فداك أبي واُمّي ، والله ما يخفى عليك من أمري شيء ، أملك سيفي ودرعي وناضحي ، وما أملك شيئاً غير هذا » فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « يا عليّ أمّا سيفك فلا غنى بك عنه ، تجاهد في سبيل الله ، وتقاتل به أعداء الله ، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك ، وتحمل عليه رحلك في سفرك ، ولكني قد زوّجتك بالدرع ورضيت بها منك ».
« يا أبا الحسن ، أأُبشّرك ؟ ! » قال عليّ (عليه السلام) قلت : « نعم فداك أبي واُمّي بشّرني ، فإنّك لم تزل ميمون النقيبة ، مبارك الطائر ، رشيد الأمر ، صلّى الله عليك » .
فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «اُبشّرك يا عليّ فإنّ الله ـ عزوجل ـ قد زوّجكها في السماء من قبل أن أزوّجكها في الأرض، ولقد هبط عليَّ في موضعي من قبل أن تأتيني ملك من السماء فقال : يا محمّد! إنّ الله ـ عزوجل ـ اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختارك من خلقه فبعثك برسالته ، ثم اطلع إلى الأرض ثانية فاختار لك منها أخاً ووزيراً وصاحباً وختناً فزوّجه إبنتك فاطمة (عليها السلام)، وقد احتفلت بذلك ملائكة السماء، يامحمّد! إن الله ـ عزوجل ـ أمرني أن آمرك أن تزوّج عليّاً في الأرض فاطمة، وتبشّرهما بغلامين زكيين نجيبين طاهرين خيّرين فاضلين في الدنيا والآخرة، ياعليّ! فوالله ما عرج الملك من عندي حتى دققتَ الباب »[8] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سيرة الأئمة الاثني عشر : 1 / 80 ـ 81 .
[2] كشف الغمة : 1 / 353 .
[3] كشف الغمة : 1 / 354 .
[4] تذكرة الخواص : 306 .
[5] ذخائر العقبى : 36 .
[6] راجع معاني الأخبار : 103، والخصال : 640، وأمالي الصدوق : 474، وبحار الأنوار: 43 / 111 .
[7] راجع بحار الأنوار : 43 / 93 ، وذخائر العقبى : 39 .
[8] بحار الأنوار : 43 / 127 .