ويقول البعض : إنه لا يتصور أن تكون الزهراء ، المنفتحة على قضاء الله وقدره إنسانة ينزعج أهل المدينة من بكائها ( 1 ) - كما يقرأ قراء التعزية - حتى لو كان الفقيد على مستوى رسول الله ص
والجواب : إننا لا نتصور أن بكاءها على أبيها هو الذي أزعج المعترضين ، وأثار حفيظتهم ، وإنما الذي أحفظهم وأزعجهم هو ما يثيره وجود الزهراء (عليها السلام) إلى جانب قبر أبيها على حالة من الحزن والكآبة والانكسار الذي يذكر الناس بالمأساة التي تعرضت لها (عليها السلام) فور وفاة أبيها ، حيث إن ذلك يمثل حالة إثارة مستمرة للناس الطيبين والمؤمنين والمخلصين ، وهو إدانة لكل ذلك الخط الذي لم يتوقف عن فعل أي شيء في سبيل ما يريده .
فلم يكن البكاء على شخص الرسول ، بقدر ما كان تجسيدا للمأساة التي حاقت بالإسلام وبرموزه بمجرد وفاته وفقده (صلى الله علية وآله وسلم).
فالبكاء إذن لم يكن بكاء الجزع من المصاب ، واستعظام فقد الشخص ، لكي يتنافى ذلك مع الانفتاح على قضاء الله وقدره . كما يريد هذا القائل أن يوحي به .
إلا إذا كان هذا القائل يعتبر الاستسلام للقضاء والقدر والسكوت عن وعلى الظلم انفتاحا على القضاء والقدر .
بيت الأحزان ، وإزعاج الناس بالبكاء
ولا يجد البعض حاجة إلى بيت الأحزان ، لتبكي الزهراء (عليها السلام) فيه ، فهو لا يتصورها تبكي على أبيها بحيث تزعج أهل المدينة حتى يطلبوا منها السكوت ؟ لأن ذلك يعني أنها كانت تصرخ بصوت عال في الطرقات ؟ ! وهذا الصراخ والازعاج لا يتناسب مع مكانتها (عليها السلام) ؟ !
ونقول في الجواب :
أولا : هناك رواية ذكرها المجلسي ( 2 ) ، مضعفا لها ، لأنه لم ينقلها - كما قال - عن أصل يعول عليه ، وهي عن فضة ، وفيها : أن فاطمة (عليها السلام) قد خرجت ليلاً في اليوم الثاني لوفاة أبيها ، وبكت ، وبكى معها الناس ، ولما رأى أهل المدينة مدى حزنها طلبوا من علي (عليه السلام) أن تبكي إما ليلا أو نهارا ، فبنى لها بيت الأحزان في البقيع . وقد تقدمت الإشارة إلى مصادر أخرى لهذه المقولة .
ومن الواضح : أن رواية فضة لا يصح الاعتماد عليها كما ذكره المقدسي رحمه الله . لا من حيث السند ، ولا من حيث المضمون كما يظهر لمن راجعها .
أما بالنسبة لبيت الأحزان ، فهو " باق إلى هذا الزمان ، وهو الموضع المعروف بمسجد فاطمة ، في جهة قبة مشهد الحسن والعباس ، وإليه أشار ابن جبير بقوله : ويلي القبة العباسية بيت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم)، ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه هو الذي آوت إليه ، والتزمت الحزن فيه منذ وفاة أبيها (صلى الله علية وآله وسلم)" ( 3) .
ثانيا : إن بكاءها (عليها السلام) في الليل أكثر إزعاجا للناس الذين يتفرقون في النهار إلى متابعة أعمالهم في مزارعهم ، والاهتمام بمواشيهم ، وقضاء حوائجهم ، فكان الأولى أن تقيم في بيت الأحزان في الليل دون النهار .
ثالثا : إن الحقيقة هي أن بكاء الزهراء لم يزعج أهل المدينة ، وإنما ازعج الهيئة الحاكمة التي كانت بحاجة إلى أن تتواجد في مسجد الرسول (صلى الله علية وآله وسلم) إلى جانب منبره الشريف ، الذي يبتعد أمتارا يسيرة تكاد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة . فكان أن منعها الحكام من ذلك ( 4 ) .
وكان الناس يتوافدون إلى هذا المسجد بالذات ، ويتواجدون فيه منذ الفجر إلى وقت متأخر من الليل ، من أجل الصلاة ، ومن أجل متابعة ما يجري من أحداث . فالمسجد هو مركز البلد ، الذي كان صغيرا نسبيا ، حيث قد لا يصل عدد سكانه إلى بضعة آلاف ، لأن مكة التي هي أكبر من المدينة بكثير ، وكانت تسمى أم القرى كانت تجند أربعة آلاف مقاتل على الأكثر ، حسبما ظهر في غزوة الأحزاب ، التي جندت فيها مكة كل طاقاتها ( 5) .
وكان النفر للحرب يطال كل قادر على حمل السلاح من سن المراهقة إلى سن الشيخوخة . أما المدينة فغاية ما جندته في حرب الأحزاب هو ما يقرب من ألف مقاتل ، بل أقل من ذلك أيضا (6) .
وقد أحصي عدد المسلمين في سنة ست للهجرة ، وهو الوقت الذي لم يعد فيه لغير المسلمين في المدينة أية قواعد بشرية تذكر ، فكان عددهم ألفا وخمس مئة أو ألفا وست مئة .
وفي رواية أخرى : ونحن ما بين الألف والست مئة إلى السبع مئة ، وذلك حينما قال لهم رسول الله (ص) : اكتبوا لي كل من تلفظ بالإسلام ، قال الدماميني : قيل كان هذا عام الحديبية (7) .
ولنفرض أن جميع الذي أحصوهم كانوا رجالا ، وأنهم كلهم متزوجون ! ! وكلهم له أولاد ، فكم يا ترى يكون عدد أهل المدينة بكل أفرادها .
وقد كان كل أهل المدينة يأتون إلى المسجد للصلاة خلف رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) صباحا ، وظهرا ومساء . بل كان الناس يأتون للصلاة من خارج المدينة ، من مسافة أميال مشيا على الإقدام ، وكان المسجد يستوعبهم ، ثم وسعه رسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) في الفترة الأخيرة . فالمسجد هو مركز هذا البلد الصغير ، الذي كانت شوارعه عبارة عن أزقة ضيقة ، وأبنية متقاربة ، لا سعة ولا انتشار فيها ، لأن ذلك هو ما تقتضيه حالة الأمن للناس ، الذي كانوا بسبب الحروب الداخلية لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار (8) .
وقد أقام سكان المدينة حول شطر كبير من هذا البلد خندقا منع المشركين في حرب الأحزاب من الوصول إليهم ، وقد استغرق حفره ستة أيام رغم سعته وعمقه . وذلك كله يدل على عدم صحة ما ذكره ابن مردويه وهو يتحدث عن زواج فاطمة (عليها السلام) : أن النبي دعاهم جميعا فأجابوا : " وهو أكثر من أربعة آلاف رجل " (9) ، فإن المدينة لم يكن فيها نصف هذا العدد .
ويدل على عدم صحة هذا الرقم : أن رواية أخرى قد تحدثت عن نفس هذه القضية . وذكرت أن الذين حضروا كانوا ثلاثة آلاف وثلاث مئة في مجموع ثلاثة أيام (10) .
فالقول بالأربعة آلاف ، لعله يريد هذا المعنى أيضا . فالمدينة التي بهذا الحجم حين يموت فيها أي إنسان عادي فسيكون فيها ما يشبه حالة طوارئ ، حيث سيتوافد أهلها لتعزية وتسلية أصحاب المصاب ، وسيهتمون بالتخفيف عنهم ، وإبعادهم عن أجواء الحزن ، فإذا كان المتوفى له موقع اجتماعي ، فإن الاهتمام سيكون أعظم ، فكيف إذا كان المتوفى هو أعظم إنسان خلقه الله ، وأفضل موجود ، وأكرم نبي ، وهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور ، فإن البلد سينقلب ، وسيعطل الناس أعمالهم وزراعتهم ، ويعيشون جوا مشحونا بالعاطفة ، والترقب والخوف ، وسيكون مركز التجمع والقرار ، وكل التحركات هو المسجد ، منه الانطلاق إلى الحرب ، وفيه تحل المشاكل ، وتستقبل فيه الوفود ، ومنه يكون السفر ، وإليه العودة . .
فالمسجد مركز الحكم ، والقيادة ، والقضاء الخ . . ومنبر الرسول هو موقع الحاكم ، وهو على بعد أمتار يسيرة من مدفن الرسول (صلى الله علية وآله وسلم) .
وفي أجواء وفاة النبي (صلى الله علية وآله وسلم) سيتضاعف الذهاب والاياب إلى المسجد ، وحين يأتي الناس إلى المسجد ، فإن أول ما يبدأون به هو زيارة قبر نبيهم ، والسلام عليه وعلى من في البيت ، حيث إنه (صلى الله علية وآله وسلم) قد دفن في بيت فاطمة (11) ، وكانت كل الأبواب قد سدت سوى بابها ، وسيسألون الصديقة الطاهرة عن حالها ، وهم يعلمون أنها كانت البنت الوحيدة لأعظم نبي ، وهي ليست امرأة عادية ، بل هي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، ولسوف تذكرهم أجواء الحزن ، والانكسار المهيمنة على جو ذلك البيت وعلى الزهراء (عليها السلام) بما ارتكبه الحكام وأعوانهم في حقها فور دفن أبيها الذي لم يحضر المهاجمون دفنه ، ولم يهتموا بتجهيزه ، وهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة ، فقد قال لهم علي (عليه السلام): " كنتم على شر دين وفي شر دار ، تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب (12) " ، فهم بدلا من تعزيتها ، والتكريم والتعظيم لها ، واجهوها لا بالكلمة اللاذعة وحسب ، بل بالقول وبالفعل الكاسر والجارح ، إذن ، فلن تكون رؤية الناس للزهراء في كل يوم حزينة منكسرة في صالح الهيئة الحاكمة في أي حال حتى ولو سكتت الزهراء ، ولم تبك ولم تندد بمن ظلمها ، وهتك حرمتها .
إن كل من يأتي إلى المسجد فيراها مكبوتة ومتألمة ، وغير مرتاحة ومنزعجة ، ثم يذهب ليجلس في مجلس الخليفة على بعد أمتار يسيرة منها سيبقى يشعر بأذاها وبمأساتها ، وبما جرى عليها ، وسوف يستيقظ ضميره في نهاية الأمر .
إذن فجلوسها الحزين ومرارتها (عليها السلام) ستقض مضاجع هؤلاء الحكام ، وسيربكهم ذلك إلى درجة كبيرة وخطيرة وسيندم الكثيرون على ما فرط منهم من تقصير في حقها (عليها السلام) ، لأن بكاءها ومرارتها وحزنها يوقظ الضمائر ويثير المشاعر ، ويهيج بلابل الناس ، وللناس عواطفهم وأحاسيسهم ، وسيضعف ذلك من سلطة الحكام ونفوذهم ، وهم إنما يحكمون الناس باسم أبيها ، ومن خلال تعاليمه فيما يزعمون . وإذا كان عمر بن سعد قد بكى حين كلمته الحوراء الزينب ، وهو كان قد قتل الحسين (عليه السلام)قبل لحظات ، فكيف اللواتي لم تكن قلوبهم قاسية كما هو الحال في قلب حرملة والشمر بن ذي الجوشن ( قاتل الحسين ) وابن سعد ، وإن كانت درجات إيمانهم تتفاوت بحسب الفكر والوعي والعمل ، وهم وإن لم يتكلموا حين الحدث المفجع لسبب أو لآخر لكن قد تأتي ساعة الصحوة ، وقد يجدون الفرصة للتعبير عن حقيقة مشاعرهم ، وما يدور في خلدهم ، فكان لا بد من إخراج الزهراء من هذا الموقع وإبعادها عن أعين الناس ، الذين سوف يزداد وعيهم وسيشتد ندمهم بعد أن تهدأ الأمور ، ويعودوا إلى أنفسهم ، ويفكروا بما جرى ، ويتذكروا أقوال الرسول الله (صلى الله علية وآله وسلم) لهم في حق الزهراء وعلي (عليهما السلام) . . فلا حاجة إذن إلى صراخها (عليها السلام) في الشوارع ، ولا إلى إزعاج الناس بذلك .
وليس من البعيد أن يكونوا قد دفعوا بعض الناس لمطالبة الزهراء بالخروج من بيتها متذرعين بأكثر من ذريعة ، ثم استولوا على البيت بعد ذلك بصورة نهائية .
بين الأحزان أضرهم ولم ينفعهم : ولكن هل كان بيت الأحزان هذا في صالح الحكام ؟ !
وهل استطاع أن يحقق بعض ما أرادوا تحقيقه أو ظنوا أنه سيتحقق ؟ !
إن الإجابة الصريحة والواضحة على هذا السؤال ستكون بالنفي ، فإنه كان في الحقيقة وبالا عليهم أكثر مما توقعوه ، فلم يكن من السهل أن يقبل الناس بإخراج الزهراء من بيتها ، ومنعها من إظهار الحزن ، ومن الجهر بالمظلومية ، لأن ذلك ظلم آخر أشد أذى ، وأعظم تأثيرا وخطرا ، وأصرح دلالة على مدى الظلم الذي تعاني منه (عليها السلام) .
ومما يزيد في وضوح ذلك أن الناس سيرون : أن كل ما جرى عليها إنما كان بمجرد وفاة أبيها ، فبدلا من المواساة ، ومحاولة تخفيف المصاب عليها وهي الوحيدة لأبيها وسيدة نساء العالمين ، تجد نفسها أمام مصاب أمر وأدهى ، وهو أن من يعتبرون أنفسهم من اتباع هذا الدين ، ويعترفون بنبوة أبيها ، ويفترض فيهم أن يعظموه ويوقروه ، ويقدسوه إن هؤلاء قد بلغ بهم الظلم حدا ضيقوا فيه حتى على أقرب الناس إليه وهي ابنته وهي امرأة لها عواطفها ، ومنعوها من إظهار الحزن على أب فقدته حرصا على عدم الجهر بظلمهم لها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع عن تأذي أهل المدينة ببكاء الزهراء ( ع ) : الخصال : ج 1 ص 272 ، وأمالي الصدوق : ص 121 ، والعوالم : ج 11 ص 449 . وفي هامشه عمن تقدم وعن البحار : ج 43 ص 155 و 177 و 35 و ج 46 ص 109 و ج 11 ص 311 و 204 و ج 12 ص 264 و ج 82 ص 86 ، وإرشاد القلوب : ص 95 ، وتفسير العياشي : ج 2 ص 188 ، وروضة الواعظين : ص 520 ، ومكارم الأخلاق : ص 335 ، ومناقب آل أبي طالب : ( ط المطبعة العلمية ) ج 3 ص 322 ، وكشف الغمة : ج 2 ص 124 . ( * )
(2) البحار ج 43 ص 174 / 180 . ( * )
( 3) أهل البيت ص 167 - 168 ، تأليف توفيق أبو علم . وراجع : وفاء الوفاء ج 3 ص 918 ، وراجع هامش ص 489 من كتاب عوالم العلوم : ج 11 ، وإحقاق الحق قسم الملحقات : ج 10 ص 476 ، وفاطمة الزهراء في الأحاديث القدسية : ص 184 / 185 .
(4) ضياء العالمين ( مخطوط ) : ج 2 ق 3 ص 140 . ( * )
(5) راجع : كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله علية وآله وسلم)ج 9 .
(6) راجع المصدر السابق.
(7) راجع : صحيح البخاري : ج 2 ص 116 ، وصحيح مسلم : ج 1 ص 91 ، ومسند أحمد : ج 5 ص 384 ، وسنن ابن ماجة : ج 2 ص 1337 ، والتراتيب الإدارية ج 2 ص 251 / 252 ، و ج 1 ص 220 - 223 . وعن المصنف لابن أبي شيبة : ج 15 ، ص 69 . ( * )
(8) إعلام الورى : ص 55 والبحار : ج 43 ص 8 و 9 و 10 .
(9) عوالم العلوم : ج 11 ص 298 و 340 ، وراجع : البحار : ج 43 ص 114 ، و 94 ، وأمالي الطوسي : ج 1 ص 39 .( * )
(10) عوالم العلوم : ج 11 ص 345 ، ودلائل الإمامة : 21 .
(11) راجع : مقالنا في دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام : ج 1 ص 169 فما بعدها . ( * )
(12) نهج البلاغة : خطبة رقم 26 . ( * )