لم يشاهد الناس في جميع مراحل التاريخ أشجع ، و لا أربَطُ جأشاً ، و لا أقوى جناناً من الإمام الحسين ( عليه السلام ) . فقد وقف ( عليه السلام ) يوم الطف موقفاً حيَّر فيه الألباب ، و أذهل فيه العقول ، و أخذت الأجيال تتحدثُ بإعجاب و إكبارٍ عَن بَسَالَتِه ، و صَلابة عَزمه ( عليه السلام ) ، وقد بُهِر أعداؤه الجبناء بِقوَّة بَأسه . فإنَّه ( عليه السلام ) لم يضعف أمام تلك النكبات المذهلة التي أخذت تتواكب عليه ، و كان يزداد انطلاقاً و بشراً كلما ازاداد الموقف بلاءً و محنة . فإنَّه ( عليه السلام ) بعد ما فقد أصحابه و أهل بيته ( عليهم السلام ) زحف عليه الجيش بأسره ، و كان عدده – فيما يقول الرواة – ثلاثين ألفاً . فحمل عليهم وَحدهُ ، و قد مَلَك الخَوفُ و الرُعب قلوبهم ، فكانوا ينهزمون أمامَه كالمعزى إذا شَدَّ عليها الذئب – على حَدِّ تعبير الرواة – . و بقي ( عليه السلام ) صامداً كالجبل ، يتلقى الطعنَات من كل جانب ، و لم يُوهَ له ركن ، و إنما مضى في أمره استِبْسَالاً واستخفافاً بالمنية . و قال أحد شعراء أهل البيت ( عليهم السلام ) :
فَتلقَّى الجُموعَ فرداً وَلكنْ
كُل عُضوٌ في الرَّوعِ منه جُموعُ
رُمحُه مِن بنَانِه ، وَكأنَّ من
عَزمِهِ حَدُّ سَيفِه مَطبوعُ
زَوَّجَ السَّيفَ بالنفوسِ وَلكنْ
مَهرُها المَوتُ وَالخِضَابُ النَّجِيعُ
ولما سقط ( عليه السلام ) على الأرض جريحاً و قد أعياه نزف الدماء ، تحامى الجيش بأسره من الإجهاز عليه رعباً و خوفاً منه ( عليه السلام ) .وقد صوَّر الشاعر ذلك المشهد بقوله :
عَفيراً مَتى عَايَنَتْهُ الكُمَاة
يَختَطِفُ الرُّعبُ أَلوَانَها
فَما أجلَت الحَربُ عَن مِثلِهِ
صَريعاً يُجَبِّنُ شُجعَانَها
و تغذى أهل بيته و أصحابه ( عليهم السلام ) بهذه الروح العظيمة ، فتسابقوا إلى الموت بشوقٍ و إخلاص ، لم يختلجْ في قلوبِهم رُعب و لا خوف ، و قد شَهدَ لهم عَدوُّهُم بالبَسَالة ورباطة الجأش . فقد قيل لرجل شَهدَ يوم الطفِّ مع عمر بن سعد : وَ يحك ، أقَتَلتُم ذُرِّيَّة رَسولِ الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟!!
فاندفع قائلاً : عَضَضْت بالجندل ، إنك لو شهدتَ ما شهدنا لَفعلتَ ما فعلنا ، ثارت علينا عِصابةٌ ، أيديها في مَقابِض سيوفِها كالأُسُود الضارِية ، تحطم الفرسان يميناً و شمالاً ، و تُلقي أنفسَها على الموت ، لا تقبلُ الأمانَ ، و لا تَرغبُ في المال ، و لا يحولُ حائِلٌ بينها وبين الوُرودِ على حِياضِ المَنِيَّة ، و الاستيلاءِ على المُلك ، فَلَو كَفَفْنَا عنها رُوَيداً لأتَتْ على نفوس العسكر بِحذافيرِه ، فَما كُنَّا فاعِلين ؟!! لا أُمَّ لَك !! . و وصف أحد الشعراء هذه البسالة النادرة بقوله :
فَلو وَقَفَتْ صُمُّ الجبال مَكانَهم
لَمادَتْ عَلى سَهلٍ وَدَكَّت على وَعرِ
فَمِن قائمٍ يَستعرضُ النَّبلَ وجهُهُ
وَمِن مُقدِمٍ يَرمي الأَسِنَّة بِالصَّدرِ
و ما أروع قول السيد حيدر الحلي :
دَكُّوا رُبَاها ثُم قالوا لَها
– وَقد جَثَوا – : نَحنُ مَكانَ الرُّبَا
فقد تحدَّى أبو الأحرار ( عليه السلام ) ببسالته النادرة الطبيعةَ البشرية ، فَسخَر من الموت ، و هَزأ مِن الحياة .و قد قال ( عليه السلام ) لأصحابه حينما رأى سهام الأعداء تُمطِر عليهم : ( قُومُوا رَحِمَكُمُ اللهُ إلى المَوتِ الذي لا بُدَّ منه ، فإنَّ هذه السِّهام رُسُل القَومِ إِليكُم ) .
فنرى أنه ( عليه السلام ) قد دعا أصحابه إلى الموت كأنما هو يدعوهم إلى مأدبة لذيذة ، و قد كانت لذيذة عنده حقاً ، لأنه ( عليه السلام ) ينازل الباطل ، ويرتسم له بُرهَان رَبِّه الذي هو مَبدؤهُ ( عليه السلام ) .