وعذب عمار أيضاً عذاباً شديداً من قبل بني مخزوم، حتى أكره على التفوُّه بما يعجب المشركين، فتركوه؛ فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) باكياً، وقال له: لم أُترك يا رسول الله، وقد أكرهوني حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): كيف تجد قلبك يا عمار؟
قال : إنه مطمئن بالإيمان يا رسول الله قال : (لا عليك ، فإن عادوا إليك فعد لما يريدون ؛ فقد أنزل الله فيك : ﴿ ... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ... ﴾ 1) 2 .
ونقول :
1 ـ إن ما جرى لعمار ونزول الآية فيه دليل على مشروعية التقية ، إذا خاف الإنسان على نفسه وماله .
وقد صرحوا بجواز التقية وإظهار الموالاة حتى للكفار ، إذا خيف على النفس التلف ، أو تلف بعض الأعضاء ، أو خيف من ضرر كبير يلحق الإنسان في نفسه 3 .
بل لقد قال محمد بن عقيل : (التقية مما أجمع المسلمون على جوازه ، وإن اختلفت تسميتهم لها ، فسماها بعضهم بالكذب لأجل الضرورة أو المصلحة ، وقد عمل بها الصالحون ، فهي من دين المتقين الأبرار ، وعكس القول فيها كذب ظاهر) 4 .
2 ـ ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : ﴿ ... وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ... ﴾ 5.
3 ـ قال تعالى : ﴿ ... الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ... ﴾ 6إلى قوله : ﴿ ... وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ 7.
قال البخاري : (فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله ، والمكره لا يكون إلا مستضعفاً غير ممتنع من فعل ما أمر به) 8 .
ملاحظة
الآية موجودة كما في سورة النساء الآية 97 ولكن الفقرة الأخيرة غير موجودة فيها ولا في الآيات بعدها لكن البخاري قد ذكرها كذلك . فذكرناها حسبما هي فيه رعايةً لأمانة النقل عنه .
4 ـ وقال تعالى : ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ... ﴾ 9.
والقول بأن هذه الآية قد نسخت لا مثبت له ، بل لقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ما يدل على خلاف ذلك ، فقد روى الكليني عن عبد الله بن سليمان ، قال : (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول ـ وعنده رجل من أهل البصرة ، يقال له : عثمان الأعمى ، وهو يقول : إن الحسن البصري يزعم : أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار .
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : فهلك إذاً مؤمن من آل فرعون ، ما زال العلم مكتوماً منذ بعث الله نوحاً (عليه السلام) ؛ فليذهب الحسن يميناً وشمالاً ؛ فوالله ما يوجد العلم إلا ههنا) 10 .
فاستدلال الإمام (عليه السلام) بالآية يدل على أن عدم كونها منسوخة كان متسالماً عليه لدى العلماء آنئذٍ .
وأما من السنة ، فنذكر
عن أبي ذر ، عنه (صلى الله عليه وآله) : ستكون عليكم أئمة يميتون الصلاة ، فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة 11 وثمة حديث آخر بهذا المعنى فليراجع 12 .
ما جاء : أن مسيلمة الكذاب أتي برجلين ، فقال لأحدهما : تعلم أني رسول الله ؟ قال بل محمد رسول الله ، فقتله .
وقال للآخر ذلك ، فقال : أنت ومحمد رسول الله ؛ فخلى سبيله ، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال : أما الأول فمضى على عزمه ويقينه ، وأما الآخر ، فأخذ برخصة الله فلا تبعة عليه 13 .
ما رواه السهمي عنه (صلى الله عليه وآله) : لا دين لمن لا ثقة له 14 .
وهو تصحيف على الظاهر ، والصحيح : (لا تقية) كما يدل عليه ما رواه شيعة أهل البيت عنهم (عليهم السلام) 15 .
قصة عمار بن ياسر المعروفة ، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) له : إن عادوا فعد ، وهي مروية في مختلف كتب الحديث والتفسير .
وفي هذه المناسبة نزل قوله تعالى : ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ... ﴾ 1.
إستعمال النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه للتقية ، حيث بقي ثلاث أو خمس سنوات يدعو إلى الله سراً ، وهذا مجمع عليه ، ولا يرتاب فيه أحد ، وإن كنا قد ذكرنا : أن الحقيقة ليست هي ذلك .
إن الإسلام يخيّر الكفار في ظروف معينة بين الإسلام والجزية ، والسيف .
وواضح : أن ذلك إغراء بالتقية ، لأن دخولهم في الإسلام في ظروف كهذه لن يكون إلا لحقن دمائهم ، وليس عن قناعة راسخة ، وهذا نظير قبول المنافقين في المجتمع الإسلامي ، وتآلفهم على الإسلام ، على أمل أن يتفاعلوا مع هذا الدين ، ويستقر الإيمان في قلوبهم .
وحين فتح خيبر قال حجاج بن علاط للنبي (صلى الله عليه وآله) : إن لي بمكة مالاً وإن لي أهلاً وإني أريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلت منك وقلت شيئاً ؟! فأذن له رسول الله أن يقول ما شاء 16 .
وأما التقية في التاريخ
فنذكر على سبيل المثال :
1 ـ إن رجلاً سأل ابن عمر فقال : (أدفع الزكاة إلى الأمراء ؟
فقال ابن عمر : ضعها في الفقراء والمساكين .
قال : فقال لي الحسن : ألم أقل لك : إن ابن عمر إذا أمن الرجل قال : ضعها في الفقراء والمساكين) ؟ 17 .
2 ـ وقد ادَّعوا : أن أنس بن مالك قد روى حديث القنوت قبل الركوع تقية من بعض أمراء عصره 18 .
3 ـ وحين شاور العباس بن الحسن كتّابه وخواصه فيمن يولون الخلافة بعد موت المكتفي ، أشار عليه ابن الفرات بأن ينفرد بكل واحد منهم فيعرف رأيه وما عنده (فأما أن يقول كل واحد رأيه بحضرة الباقين فربما كان عنده ما يسلك سبيل التقية في كتمانه وطيّه ، قال : صدقت ، ثم فعل ما أشار به عليه) 19 .
4 ـ تقية النبي (صلى الله عليه وآله) والحمزة في بيعة العقبة ، وستأتي نصوصها في فصل مستقل .
5 ـ عن أيوب قال : ما سألت الحسن عن شيء قط ما سألته عنها (أي عن الزكاة) .
قال : فيقول لي مرة : أدها إليهم .
ويقول لي مرة : لا تؤدها إليهم 20 أي للأمراء .
إلا أن يقال : إن هذا التردد من الحسن ، إنما هو لأجل عدم وضوح الحكم الشرعي له ، جوازاً أو منعاً .
6 ـ وفي خطبة لمحمد بن الحنفية : لا تفارق الأمة ، اتق هؤلاء القوم (يعني الأمويين) بتقيتهم ، ولا تقاتل معهم .
قال : قلت : وما تقيتهم ؟
قال : تحضرهم وجهك عند دعوتهم ؛ فيدفع الله بذلك عنك ، وعن دمك ودينك وتصيب من مال الله الذي أنت أحق به 21 .
7 ـ استفتي مالك بالخروج مع محمد بن عبد الله بن الحسن ، وقيل له : في أعناقنا بيعة لأبي جعفر المنصور .
فقال : إنما بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين 22 .
8 ـ ونقل القرطبي ، عن الشافعي ، والكوفيين : القول بالتقية عند الخوف من القتل ، وقال : (أجمع أهل العلم على ذلك) 23 .
9 ـ عن حذيفة قال : كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : أحصوا لي كم يلفظ الإسلام .
قال : فقلنا : يا رسول الله ، أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة ؟
قال : إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا .
قال : فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سراً 24 .
وحذيفة قد مات بعد البيعة لعلي (عليه السلام) بأربعين يوماً ، فهذا النص يدل على أن الناس المؤمنين كانوا قبل ذلك يعيشون في ضغط شديد ، وأن الذين يسيطرون على الشارع هم الناس الذين كانوا يحقدون على الدين والمتدينين ، ويهزؤون ويحاربون كل شيء يمت إلى الدين بصلة .
10 ـ لقد اتقى عامة أهل الحديث ، وكبار العلماء وأجابوا إلى القول بخلق القرآن ، وهم يعتقدون بقدمه ، ولم يمتنع منهم إلا أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح 25 ، وحتى أحمد ؛ فإنه قد تاقى في ذلك ، فكان إذا وصل إلى المخنق قال : ليس أنا بمتكلم .
كما أنه حين قال له الوالي : ما تقول في القرآن ؟ أجاب : هو كلام الله ، قال : أمخلوق هو ؟
قال : هو كلام الله لا أزيد عليها 26 .
بل قال اليعقوبي : إنه لما سئل أحمد عن ذلك قال : (أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا .
وبعد المناظرة وضربه عدة سياط ، عاد إليه إسحاق بن إبراهيم فناظره ، قال له : فيبقى عليك شيء لم تعلمه ؟
قال : بقي علي .
قال : فهذا مما لم تعلمه ؛ وقد علّمكه أمير المؤمنين ؟
قال : فإني أقول بقول أمير المؤمنين .
قال : في خلق القرآن ؟
قال : في خلق القرآن .
قال : فأشهد عليه ، وخلع عليه ، وأطلقه إلى منزله 27 .
مع أنه هو نفسه يقول : إن من قال : القرآن كلام الله ، ووقف ؛ فهو من الواقفة الملعونة 28 .
وقد عمل ابن الزبير بالتقية في مواجهة الخوارج 29 .
واتقى أيضاً الشعبي ومطرف بن عبد الله من الحجاج .
واتقى عرباض بن سارية ومؤمن الطاق من الخوارج وصعصعة بن صوحان من معاوية 30 .
وممن استعمل التقية في قضية خلق القرآن إسماعيل بن حماد ، وابن المديني ، وكان ابن المديني يلزم مجلس القاضي أبي دؤاد المعتزلي ، ويقتدي به في الصلاة ، ويجانب أحمد بن حنبل وأصحابه 31 .
11 ـ ويقولون : إن إبراهيم (عليه السلام) عندما سأله ذلك الحاكم الجبار عن امرأته قال : (هذه أختي) وذلك في الله 32 فراجع .
12 ـ وعن عبيد الله بن معاذ العنبري ، عن أبيه قال : (كتبت إلى شعبة أسأله عن أبي شيبة ، قاضي واسط ، فكتب إلي : لا تكتب عنه ، ومزق كتابي) 33 .
13 ـ وقد عمل صعصعة بالتقية في خطبته في قصة خروج المستورد أيام معاوية 34 .
14 ـ وفي غارة بسر بن أبي أرطاة على المدينة ، وشكوى جابر بن عبد الله الأنصاري لأم سلمة زوج النبي : أنه خشي أن يقتل ، وهذه بيعة ضلال ، قالت : إذن ، فبايع ؛ فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ويحضرون الأعياد مع قومهم 35 .
15 ـ وقد خطب الإمام الحسين (عليه السلام) مؤبناً أخاه الحسن السبط (عليه السلام) حينما توفي ، فكان مما تمدحه به : أنه قد آثر الله عند مداحض الباطل ، في مكان التقية بحسن الروية 36 .
16 ـ والإمام الحسين (عليه السلام) لم يستجب لأهل الكوفة حينما طلبوا منه القيام ضد معاوية بعد سم الإمام الحسن (عليه السلام) ، وله موقف آخر (عليه السلام) يؤيد فيه موقف أخيه القاضي بعدم الثورة على معاوية ما دام حياً . فراجع 37 .
17 ـ قال الحسن (البصري) : التقية إلى يوم القيامة 38 .
18 ـ وقال البخاري : (وقال ابن عباس : في من يكرهه اللصوص ، فيطلق ، ليس بشيء ، وبه قال ابن عمر ، وابن الزبير ، والشعبي ، والحسن) 39 .
19 ـ وقال البخاري أيضاً : (يمين الرجل لصاحبه : أنه أخوه ، إذا خاف عليه القتل أو نحوه ، وكذلك كل مكروه يخاف ، فإنه يذب عنه الظالم ، ويقاتل دونه ولا يخذله ، وإن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص .
وإن قيل له : لتشربن الخمر ، أو لتأكلن الميتة ، أو لتبيعن عبدك ، أو تقر بدَيْن ، أو تهب هبة أو تحل عقدة ، أو لتقتلن أباك ، أو أخاك في الإسلام وسعه ذلك . .
إلى أن قال : قال النخعي : إذا كان المستحلف ظالماً فنيّة الحالف ، وإن كان مظلوماً ؛ فنية المستحلف) 20 .
ولا بأس بمراجعة الشروح على صحيح البخاري على كتاب الإكراه ، ففيها توضيحات ومطالب مفيدة في هذا المجال 40 .
20 ـ حتى المغيرة بن شعبة فإنه يدعي أنه في عيبه علياً يعمل بالتقية فهو يقول لصعصعة : (هذا السلطان قد ظهر ، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس ، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به ، ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بداً ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية فإن كنت ذاكراً فضله فاذكره بينك وبين أصحابك وفي منازلكم سراً الخ . . 41 .
21 ـ وفي حرب الجمل حمل محمد بن الحنفية على رجل من أهل البصرة ، قال : فلما غشيته قال : أنا على دين أبي طالب فلما عرفت الذي أراد كففت عنه 42 .
23 ـ ويقول ابن سلام : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمره أن يصلي الصلاة لوقتها ثم يصلي مع الأمراء الذين يؤخرون الصلاة نافلة 43 .
24 ـ وقد صرح الخدري بأنه يعمل بالتقية في ما يرتبط بموقفه من علي (عليه السلام) ليحقن دمه من بني أمية واستدل بآية ادفع بالتي هي أحسن السيئة 44 .
وقد ذكرت في الصراط المستقيم للبياضي ج 3 ص 72 و73 موارد عديدة أخرى فراجع .
التقية ضرورة فطرية عقلية دينية إصلاحية
إن تشريع التقية لهو خير دليل على شمولية الإسلام ومرونته ، واتساعه لكل الظروف والأحوال ، إذ لو كانت الرسالة جافة وقاسية ، ولا تلاحظ الظروف الطارئة ، والأحوال العارضة ، فلا بد أن تصطدم مع الواقع ، وتنهار أمامه ، دون أن تتمكن من تجاوزه في حركتها الإصلاحية والتكاملية .
فهو بتشريعه للتقية ، إنما يحافظ على الرسالة من خلال حفاظه على رائدها ، وحافظها ، وحاملها في ذلك الظرف العصيب .
وخير شاهد على ذلك هو تلك الفترة التي مر بها النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون في أول البعثة حيث كانوا يتحاشون فيها الصدام مع المشركين .
وإن المحافظة على حامل الرسالة من خلال مرونة الرسالة ، تكون ضرورية جداً حينما لا يكون للتضحية به فائدة ، ولا عائدة .
إن لم يكن في ذلك ضرر على الرسالة نفسها حينما تفقد جندياً أميناً من جنودها ، ربما تكون في وقت كانت بأمس الحاجة إليه .
فكثيراً ما يكون الحفاظ على الإسلام من خلال الحفاظ على جنوده الأبرار الأوفياء ، والذين يكونون دائماً على استعداد للتضحية في سبيله كلما اقتضى الأمر ذلك .
فالتقية إنما شرعت للحفاظ على هؤلاء .
أما الآخرون ، الذين لا يفكرون إلا في أنفسهم ، فلا ينفعهم تشريع التقية ، ولا عدمه .
ومما يدلنا على أن تشريع التقية إنما هو للحفاظ على الرسالة من خلال الحفاظ على جنودها ، وليس ذلك نفاقاً ، ولا انهزاماً ، لأن هؤلاء المخلصين الذين يراد الحفاظ عليهم هم دائماً على استعداد للبذل والعطاء :
أن الإمام الحسين (عليه السلام) الساكت في زمان معاوية هو نفسه الحسين الثائر على يزيد ، تحت شعار :
إن كان دين محمد لـم يستقم *** إلا بـقتلي يا سيوف خـذيني
فسكوته هناك كان حفاظاً على الدين والحق ؛ تماماً كما كانت ثورته هنا حفاظاً على الحق والدين ، وقد تكلمنا على هذه النقطة في حلف الفضول .
ولأجل ذلك نجد : أنه إذا توقف الحفاظ على الحق على الفداء والتضحية ؛ فإن الإسلام يأمر به ، ولا يتسامح مع من يمتنع عنه .
وأيضاً ، فلو كان في الإسلام جفاف وقسوة ؛ فربما يبعث ذلك الكثيرين على التخلي عنه ، أو بالأحرى على عدم الإقدام عليه .
ولسوف يأتي في إسلام وحشي وغيره : أن البعض كان يسلم ؛ لأنه يعرف أن محمداً لا يقتل أصحابه .
فمرونة الإسلام هذه هي التي أعطته قوة الدفع هذه ، ومكنته من أن يشق طريقه رغم كل التحديات الكبيرة ، والمصاعب الخطيرة ، التي واجهته عبر التاريخ .
وواضح : أن مرونة الإسلام هذه لا يجوز أن تفسر على أنها نوع من التساهل في الأحكام ؛ ليهون على البعض اعتناق الإسلام ، بل هي من قبيل الحفاظ على الإسلام والمسلمين ، حيث لا ضرر على المبدأ والرسالة ، وحيث يكون في عدم التقية هدر للطاقات والإمكانات ، حيث لا جدوى من هدرها .
وليكن ذلك هو الفرق بين التقية وبين النفاق الذي يحلو للبعض أن يَنْبزَ به ـ ظلماً وعدواناً ـ من يعتقد بمشروعية التقية .
وقد رأينا : أنه (صلى الله عليه وآله) ، حينما جاءته بعض القبائل وهي قبيلة ثقيف ، وطلبوا منه أن يعطيهم فرصة لعبادة أصنامهم ، وأن لا يفرض عليهم الصلاة لأنها صعبة عليهم ، وأن لا يكسروا صنمهم بيدهم ، نرى أنه (صلى الله عليه وآله) قبل بهذا الأخير ، ورفض الأولين 45 .
كما أنهم قد طلبوا منه أن يسمح لهم بالزنى ، وشرب الخمر ، والربا ، وترك الصلاة 46 .
نعم فرفض ذلك ، ولم يأخذ بنظر الاعتبار أن هذه قبيلة تريد أن تسلم ، فيتقوى بها الإسلام ، ويضعف بذلك جانب أعدائه ومناوئيه ، وهي في خلال هذه السنة تكون قد تعرفت على الإسلام وتدربت عليه .
نعم ، لقد رفض السماح لها بعبادة صنمها ، الذي عبدته عشرات الأعوام ، ولو لمدة سنة واحدة أيضاً .
بل هو يرفضه ولو كان لساعة واحدة ، لأنه لا يريد أن يستفيد من أية وسيلة من أجل الوصول إلى أهدافه ، لأنه يعتبر الوسيلة جزءً من الهدف ، ومنه تستمد قدسيتها ، كما سبق .
ولكنه في مقابل ذلك : لو أساء إليه أحد الناس مثلاً ؛ فإنه على استعداد لأن يعفو عنه ، ولكن شرط : أن يعرف المعفو عنه أنه قد أذنب ، وأن هذا عفو عنه ، أما إذا فهم من ذلك مشروعية الأمر الذي ارتكبه ، فإن ذلك العفو يكون مرفوضاً جملة وتفصيلاً 47 .
_____________
1. a. b. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 106، الصفحة: 279.
2. راجع : حلية الأولياء ج1 ص140 وتفسير الطبري ج4 ص112 وتفسير النيسابوري بهامشه وغير ذلك كثير جداً .
3. راجع على سبيل المثال : أحكام القرآن للجصاص ج2 ص9 .
4. تقوية الإيمان ص38 .
5. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 28، الصفحة: 53.
6. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 97، الصفحة: 94.
7. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 75، الصفحة: 90.
8. صحيح البخاري ط الميمنية ج4 ص128 .
9. القران الكريم: سورة غافر (40)، الآية: 28، الصفحة: 470.
10. الكافي (الأصول) ج2 ص40 و41 منشورات المكتبة الإسلامية ، والوسائل ج18 ص8 .
11. مسند أحمد ج5 ص159 .
12. مسند أحمد ج5 ص160و168 .
13. محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني : ج4 ص408 ـ 409 وأحكام القرآن للجصاص ج2 ص10 وسعد السعود ص137 .
14. تاريخ جرجان : ص201 .
15. راجع : الكافي (الأصول) : ج2 ص217 ط الآخندي ، ووسائل الشيعة : ج11 ص465 . وراجع : ميزان الحكمة : ج10 ص666 و667 .
16. دراسات في الكافي والصحيح ص338 عن السيرة الحلبية .
17. المصنف للصنعاني ج4 ص48 .
18. راجع : المحلى ج4 ص141 .
19. الوزراء للصابي ص130 .
20. a. b. المصدر السابق .
21. طبقات ابن سعد ج5 ص70 .
22. مقاتل الطالبيين ص283 ، والطبري ط أورپا ج3 ص200 .
23. تفسير القرطبي ج10 ص181 .
24. صحيح مسلم : ج1 ص91 ، وصحيح البخاري ط سنة 1309 ه . ق : ج2 ص116 ومسند أحمد ج5 ص384 .
25. تجارب الأمم المطبوع مع العيون والحدائق ص465 .
26. تاريخ الطبري ج7 ص201 وراجع : آثار الجاحظ ص274 ، ومذكرات الرماني ص47 .
27. تاريخ اليعقوبي ج2 ص472 .
28. بحوث مع أهل السنة والسلفية ص183 و184 عن : الرد على الجهمية لابن حنبل في كتاب الدومي ص82 .
29. راجع العقد الفريد لابن عبد ربه ج2 ص393 .
30. العقد الفريد ج2 ص464 ـ 465 .
31. راجع لسان الميزان ج1 ص339 ـ 400 متناً وهامشاً .
32. صحيح البخاري ط الميمنية : ج4 ص129 ومسند أحمد ج2 ص403 وأخرجه أبوداود والترمذي ، وقصص الأنبياء للنجار : ص98 ـ 99 ومسند أبي يعلى ج10 ص427 .
33. صحيح مسلم : ج1 ص18 ومعرفة علوم الحديث ص136 .
34. راجع : بهج الصباغة : ج7 ص121 .
35. تاريخ اليعقوبي : ج2 ص198 .
36. راجع : تهذيب تاريخ دمشق : ج4 ص230 وعيون الأخبار لابن قتيبة : ج2 ص314 ، وحياة الإمام الحسن (عليه السلام) للقرشي : ج1 ص439 .
37. راجع : الأخبار الطوال ص220 و221 و222 .
38. صحيح البخاري (ط الميمنية) ج4 ص128 .
39. صحيح البخاري ج4 ص128 .
40. راجع : عمدة القاري ج24 ص95 ـ 108 ، وفتح الباري ج12 ص277 ـ 289 ، وإرشاد الساري ج10 ص93 ـ 102 .
41. تاريخ الأمم والملوك ج4 ص12 .
42. الطبقات الكبرى لابن سعد ج5 ص67 .
43. تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص205 .
44. سليم بن قيس ص53 ، مؤسسة البعثة ـ قم ـ إيران .
45. تاريخ الخميس : ج2 ص135 ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) : ج3 ص11 ، والكامل في التاريخ : ج2 ص284 ، والسيرة النبوية لابن كثير : ج4 ص55 ، والسيرة النبوية لابن هشام : ج4 ص184 و185 ، والبداية والنهاية : ج5 ص30 ، والمواهب اللدنية : ج1 ص236 .
وبهذا يلاحظ : أن عمر بن الخطاب لم يكن موفقاً حين أصر على الاقتصاص من جبلة بن الأيهم الذي دخل في الإسلام جديداً ، وكان ملكاً في قومه ، ولم يتعرف بعد بعمق على عظمة وخصائص الإسلام ومميزاته الفريدة ، إذ قد كان عليه أن يراعي الموقف ، ويحل المشكلة بأسلوب مرن آخر .
46. السير النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) : ج3 ص11 ، والمواهب اللدنية : ج1 ص236 ، وتاريخ الخميس : ج2 ص135 و136 و137 . وراجع بالنسبة لترك الصلاة المصادر التالية : الكامل في التاريخ : ج2 ص284 ، وكذا في السيرة النبوية لابن هشام : ج4 ص185 ، والسيرة النبوية لابن كثير : ج4 ص56 ، والبداية والنهاية : ج5 ص30 .
47. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، 2005 م . ـ 1425 هـ . ق ، الجزء الثالث .