روى الشيخ الطبرسي مجموعة من الأخبار الصريحة الدالة على إمامة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
ما رواه محمد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن جماعة من رجاله ، عن يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك .
فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ( كلامك هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو من عندك ؟ )
فقال : من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضه ومن عندي فقال له أبو عبد الله : ( فأنت شريك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ )
قال : لا .
قال : ( فسمعت الوحي عن الله عز وجل يخبرك ؟ )
قال : لا .
قال : ( فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ )
قال : لا .
فالتفت أبو عبد الله عليه السلام إلي فقال : ( يا يونس بن يعقوب ، هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم ) ثم قال : ( يا يونس ، لو كنت تحسن الكلام كلمته ) .
قال يونس : فيا لها من حسرة ، فقلت : جعلت فداك ، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول : ويل لأصحاب الكلام ، يقولون : هذا ينقاد وهذا لا ينقاد ، وهذا ينساق وهذا لا ينساق ، وهذا نعقله وهذا لا نعقله ؟
فقال أبو عبد الله عليه السلام : ( إنما قلت : ويل لقوم تركوا قولي وذهبوا إلى ما يريدون ) .
ثم قال : ( اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله ) .
قال : فخرجت فوجدت حمران بن أعين – وكان يحسن الكلام – ومحمد بن النعمان الأحول – وكان متكلما – وهشام بن سالم وقيس الماصر – وكانا متكلمين – فأدخلتهم عليه ، فلما استقر بنا المجلس – وكنا في خيمة لأبي عبد الله على طرف جبل في طرف الحرم وذلك قبل الحج بأيام – أخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب ( 1 ) فقال : ( هشام ورب الكعبة ) .
قال : فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة لأبي عبد الله عليه السلام ، فإذا هو هشام بن الحكم قد ورد – وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من هو أكبر سنا منه – فوسع له أبو عبد الله عليه السلام وقال : ( هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده ) ثم قال لحمران : ( كلم الرجل ) – يعني الشامي – فكلمه حمران فظهر عليه .
ثم قال : ( يا طاقي ، كلمه ) فكلمه فظهر عليه محمد بن النعمان .
ثم قال : ( يا هشام بن سالم كلمه ) فتعارفا .
ثم قال لقيس الماصر : ( كلمه ) فكتمه .
وأقبل أبو عبد الله عليه السلام يتبسم من كلامهما وقد استخذل الشامي في يده ، ثم قال للشامي : ( كلم هذا الغلام ) يعني هشام بن الحكم .
فقال : نعم .
ثم قال الشامي لهشام : يا غلام ، سلني في إمامة هذا – يعني أبا عبد الله عليه السلام – فغضب هشام حتى ارتعد ، ثم ! قال له : خبرني يا هذا أربك أنظر لخلقه أم هم لأنفسهم ؟
قال : بل ربي أنظر لخلقه .
قال : ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا ؟
قال الشامي : كلفهم وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم ، وأزاح في ذلك عللهم .
فقال له هشام : فما هذا الدليل الذي نصبه لهم ؟
قال الشامي : هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال له هشام : فبعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ؟
قال : الكتاب والسنة .
قال له هشام : فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه حتى يرفع عنا الاختلاف ويمكنا من الاتفاق ؟
قال الشامي : نعم .
قال له هشام : فلم اختلفنا نحن وأنت وجئتنا من الشام تخالفنا وتزعم أن الرأي طريق الدين ، وأنت مقر بأن الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين ؟
فسكت الشامي كالمفكر ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ( ما لك لا تتكلم ؟ )
قال : إن قلت : إنا ما اختلفنا كابرت ، وإن قلت : إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجوه ، ولكن لي عليه مثل ذلك .
فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ( سله تجده مليا ) .
فقال الشامي لهشام : من أنظر للخلق ، ربهم أم أنفسهم ؟
قال هشام : بل ربهم أنظر لهم .
فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ويرفع اختلافهم ويبين لهم حقهم من باطلهم ؟
قال هشام : نعم .
قال الشامي : من هو ؟
قال هشام : أما في ابتداء الشريعة فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغيره ، قال الشامي : ومن هو غير النبي القائم مقامه في حجته .
قال هشام : في وقتنا هذا أم قبله ؟
قال الشامي : بل في وقتنا هذا .
فقال هشام : هذا الجالس – يعني أبا عبد الله عليه السلام – الذي تشد إليه الرحال ، ويخبرنا عن أخبار السماء وراثة عن أب عن جد .
قال الشامي : فكيف لي بعلم ذلك ؟
قال هشام : سله عما بدا لك .
قال الشامي : قطعت عذري ، فعلي السؤال . .
فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ( أنا أكفيك المسألة يا شامي ، أخبرك عن مسيرك وسفرك ، خرجت يوم كذا ، وكان طريقك كذا ، ومررت على كذا ، ومر بك كذا ) .
فأقبل الشامي كلما وصف له شيئا من أمره يقول : صدقت والله ، ثم قال الشامي : أسلمت الساعة .
فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ( إنك امنت بالله الساعة ، إن الإسلام قبل الإيمان ، وعليه يتوارثون ويتناكحون ، والإيمان عليه يثابون ) .
قال الشامي : صدقت ، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنك وصي الأوصياء .
قال : فاقبل أبو عبد الله عليه السلام على حمران فقال : ( يا حمران تجري الكلام على الأثر فتصيب ) .
والتفت إلى هشام بن سالم فقال : ( تريد الأثر ولا تعرف ) .
ثم التفت إلى الأحول فقال : ( قياس رواغ تكسر باطلا بباطل ، إلا أن باطلك أظهر ) .
ثم التفت إلى قيس الماصر فقال : تتكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أبعد ما تكون منه ، تمزج الحق بالباطل ، وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل ، أنت والأحول قفازان حاذقان ) .
قال يونس بن يعقوب : فظننت والله أنه يقول لهشام قريبا مما قال لهما ، فقال : ( يا هشام لا تكاد تقع ، تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت ، مثلك فليكلم الناس ، اتق الزلة والشفاعة من ورائك ) ( 2 ) .
وهذا الخبر مع ما فيه من المعجز الدال على إمامة أبي عبد الله عليه السلام يتضمن إثبات حجة النظر ودلالة الإمامة من طريق النظر والاستدلال .
الهوامش
( 1 ) الخبب : ضرب من العدو . ( الصحاح – خط – 1 : 117 )
( 2 ) الكافي 1 : 130 / 4 ، وكذا في : ارشاد المفيد 2 : 194 ، وباختصار
في المناقب لابن شهرآشوب 4 : 243 .