مولده المبارك
ولد عليه السلام بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، وقيل سنة اثنتين من الهجرة، وكنيته أبو محمّد.
جاءت به اُمّه فاطمة سيّدة النساء عليها السلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم السابع من مولده في خرقة من حرير الجنّة نزل بها جبرئيل إلى رسول الله ، صلّى الله عليه وآله وسلّم فسمّاه حسناً، وعقّ عنه كبشاً.
وقبض رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم وله سبع سنين وأشهر، وقيل : ثمان سنين .
وقام بالأمر بعد أبيه عليه السلام وله سبع وثلاثون سنة .
وأقام في خلافته ستّة أشهر وثلاثة أيّام ، ووقع الصلح بينه وبين معاوية في سنة إحدى وأربعين ، وإنّما هادنه عليه السلام خوفاً على نفسه ؛ إذ كتب إليه جماعة من رؤساء أصحابه في السرّ بالطاعة وضمنوا له تسليمه إليه عند دنوّهم من عسكره ، ولم يكن منهم من يأمن غائلته إلاّ خاصّة من شيعته لا يقومون لأجناد الشام .
وكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وبعث بكتب أصحابه إليه ، فاجابه إلى ذلك بعد أن شرط عليه شروطاً كثيرة، منها: أن يترك سبّ أميرالمؤمنين عليه السلام والقنوت عليه في الصلاة، وأن يؤمن شيعته ولايتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه .
فاجابه معاوية إلى ذلك كلّه ، وعاهده على الوفاء به ، فلمّا استتمّت الهدنة قال في خطبته : إنّي منّيت الحسن وأعطيته أشياء جعلتها تحت قدمي ، لا أفي بشيء منها له!!
وخرج الإمام الحسن عليه السلاممن الكوفة إلى المدينة وأقام بها عشر سنين ، ومضىإلى رحمة الله تعالى لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة وله سبع وأربعون سنة وأشهر مسموماً، سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس ، وكان معاوية قد دسّ إليها من حملها على ذلك وضمن لها أن يزوّجها من يزيد إبنه وأوصل إليها مائة ألف درهم فسقته السمّ .
وبقي عليه السلام مريضاً أربعين يوماً، وتولّى أخوه الحسين عليه السلام غسله وتكفينه ودفنه عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بالبقيع.
خصائصه(عليه السلام)
روي عن جابر بن عبدالله قال : لمّا ولدت فاطمة الحسن عليهما السلام قالت : لعلي «سمّه» فقال : «ما كنت لأسبق باسمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم» فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «ما كنت لأسبق باسمه ربّي عزّوجل» فأوحى الله جلّ جلاله إلى جبرئيل عليه السلام : «أنّه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إليه وهنّئه وقل له : إنّ عليّاً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمّه باسم ابن هارون » .
فهبط جبرئيل عليه السلام فهنّأه من الله تعالى جلّ جلاله ، ثمّ قال : «إنّا للهّ تعالى يأمرك أن تسمّيه باسم ابن هارون » .
قال : «وما كان اسمه ؟»
قال : «شبّر» .
قال : «لسِاني عربيّ » .
قال : «سمّه الحسن » فسمّاه الحسن .
وعن جابر أيضاً قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «من سرّه أن ينظرإلى سيّد شباب الجنّة فلينظر إلى الحسن بن عليّ ».
وروى إبراهيم بن عليّ الرافعي عن أبيه ، عن جدّته زينب بنت أبي رافع قالت : أتت فاطمة عليها السلام بابنيها الحسن والحسين عليهما السلام إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في شكواه التي توفّي فيها فقالت :«يا رسول الله ، هذان إبناك فورّثهما شيئاً» .
فقال : «أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي ، وأمّا الحسين فإنّ له جودي وشجاعتي ».
ويصدّق هذا الخبر ما رواه محمّد بن إسحاق قال : ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ما بلغ الحسن بن عليّ ، كان يُبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق فما مرّ أحدٌ من خلق الله إجلالاً له ، فإذا علم قام ودخل بيته فمرّ الناس ، ولقد رأيته في طريق مكّة نزل عن راحلته فمشى، فما من خلق الله أحد إلاّ نزل ومشى ، حتّى رأيت سعد ابن أبي وقّاص قد نزل ومشى إلى جنبه.
وروي عن أنس بن مالك قال : لم يكن أحد أشبه برسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم من الحسن بن عليّ عليهما السلام.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : «إنّ الحسن ابني أشبه برسول الله صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ما بين الصدر إلى الرأس ، والحسين عليه السلام أسفل من ذلك » .
وأشباه هذه الأخبار كثيرة ، وفيما أوردناه كَفاية .
إخبار النبي بما يجري من الظلم على أهل بيته
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان جالسا ذات يوم إذ أقبل الحسن (عليه السلام )، فلما رآه بكى، ثم قال:
«إليَّ يا بني، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى.
ثم أقبل الحسين (عليه السلام )، فلما رآه بكى، ثم قال: إليَّ يا بني، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.
ثم أقبلت فاطمة عليها السلام ، فلما رآها بكى، ثم قال: إليَّ يا بنية، فأجلسها بين يديه.
ثم أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام )، فلما رآه بكى، ثم قال: إليَّ يا أخي، فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن.
فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحدا من هؤلاء إلا بكيت، أو ما فيهم من تُسَر برؤيته !»
فقال صلى الله عليه وآله : «والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية، إني وإياهم لأكرم الخلق على الله عز وجل، وما على وجه الأرض نسمة أحب إليَّ منهم.... »
إلى أن قال صلى الله عليه وآله : «وأما الحسن فإنه ابني وولدي، وبضعة مني، وقرة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيد شباب أهل الجنة، وحجة الله على الأمة، أمره أمري، وقوله قولي، من تبعه فإنه مني، ومن عصاه فليس مني، وإني لما نظرت إليه تذكرت ما يجري عليه من الذل بعدي، فلا يزال الأمر به حتى يقتل بالسم ظلما وعدوانا، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كل شيء حتى الطير في جو السماء، والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعمِ عينه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام. »
ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وبكى من حوله، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثم قام ’: وهو يقول: «اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي، »ثم دخل منزله.
وصية أمير المؤمنين للامام الحسن(عليهما السلام)
عن سليم بن قيس الهلالي قال : شهدت أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى إلى ابنه الحسن عليه السلام وأشهد على وصيته الحسين عليه السلام ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال له : «يا بنيّ ، أمرني رسول الله صلّىالله عليه وآله وسلّم أن اُوصي إليك، وأدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إِليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين» .
ثمّ أقبل على ابنه الحسين عليه السلام فقال : «وأمرك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تدفعها إلى إبنك هذا» ثمّ أخذ بيد عليّ بن الحسين وقال : «وأمرك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تدفعها إلى ابنك محمّد بن عليّ ، واقرأه من رسول الله ومنّي السلام » .
وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام قال :«إن أمير المؤمنين عليه السلام لمّا حضرته الوفاة قال لابنه الحسن : اُدن منّي حتّى أسر إليك ما أسر إليّ رسول اللهّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأئتمنك على ما ائتمنني عليه» ففعل.
وبإسناده رفعه إلى شهر بن حوشب : أنّ عليّاً عليه السلام لمّا سار إلى الكوفة استودع اُمّ سلمة رضي الله عنها كتبه والوصيّة، فلمّا رجع الحسن عليه السلام دفعتها إليه.
هذا وقد دعا الإمام الحسن بن عليّ عليهما السلام إلى الأمر بعد أبيه وبايعه الناس على أنّه الخليفة والإمام ، فقد روى جماعة من أهل التاريخ : أنّه عليه السلام خطب صبيحة الليلة التي قبض فيها أميرالمؤمنين عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمّ قال : «لقد قبض في هذه الليلة رجلٌ لم يسبقه الأوّلون، ولا يدركه الاخرون ، لقد كان يجاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن شماله ، فلا يرجع حتّى يفتح الله تعالى على يديه ، ولقد توفّي عليه السلام في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم ، وفيها قبض يوشع بن نون ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله » .
ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ، ثمّ قال: «أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن من أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، أنا من أهل بيت افترض الله تعالى مودّتهم في كتابه فقال : (قُل لأ أَسئَلُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاّ المَوَدّةَ فِي القُربى وَمَن يَقتَرِف حَسَنَةً نَّزِد لَهُ فِيهَا حُسناً) فالحسنة مودّتنا أهل البيت».
ثم جلس فقام عبدالله بن العبّاس بين يديه فقال : يا معاشر الناس ، هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم فبايعوه . فتبادر الناس إلى البيعة له بالخلافة.
وكان النبي محمد(صلّى الله عليه واله وسلّم ) قد قال له ولأخيه بالإمامة والسيادة في قوله: «إبناي هذان إمامان قاما أو قعدا» وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» وشهادة القرآن بعصمتهما في قوله تعالى :﴿ اِنَّما يُرِيدُ اللهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِوَ يُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً ﴾.
الإمام الحسن(ع) والشامي
عن محمد بن قيس ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : بينا أميرالمؤمنين عليه السلام في الرهبة والناس عليه متراكمون فمن بين مستفت ومن بين مستعد إذ قام إليه رجل فقال : السلام عليك يا أميرالمؤمنين ورحمة الله وبركاته : فنظر إليه أميرالمؤمنين عليه السلام بعينيه هاتيك العظيمتين ثم قال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته من أنت ؟
فقال : أنا رجل من رعيتك وأهل بلادك .
قال : ما أنت من رعيتي ولا من أهل بلادي ، ولو سلّمت عليَّ يوما واحدا ما خفيت علي .
فقال : الامان يا أميرالمؤمنين .
فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : هل أحدثت في مصري هذا حدثا منذ دخلته ؟ قال : لا .
قال : فلعلك من رجال الحرب؟ قال : نعم.
قال : إذا وضعت الحرب أوزارها فلابأس.
قال : أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفلا لك أسألك عن شئ بعث فيه ابن الاصفر وقال له : إن كنت أحق بهدا الامر والخليفة بعد محمد - صلى الله عليه وآله - فأجبني عما أسألك فإنك إذا فعلت ذلك اتبعتك وبعثت إليك بالجائزة ، فلم يكن عنده جواب وقد أقلقه ذلك ، فبعثني إليك لاسألك عنها .
فقال أميرالمؤمنين عليه السلام : قاتل الله ابن آكلة الاكباد ما أضله وأعماه ومن معه ! والله لقد أعتق جارية فما أحسن أن يتزوج بها ، حكم الله بيني وبين هذه الامة ، قطعوا رحمي ، وأضاعوا أيامي ، ودفعوا حقي ، وصغّرواعظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي ، عليَّ بالحسن والحسين ومحمد ( ابن الحنفية) ، فاُحضروا .
فقال : يا شامي هذان ابنا رسول الله وهذا ابني ، فاسأل أيهم أحببت ، فقال : أسأل ذا الوفرة يعني الحسن عليه السلام وكان صبيا .
فقال له الحسن عليه السلام : سلني عما بدا لك .
فقال الشامي : كم بين الحق والباطل ؟ وكم بين السماء والارض ؟ وكم بين المشرق والمغرب ؟ وما قوس قزح ؟ وما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين ؟ وما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين ؟ وما المؤنث ؟ وما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض .
فقال الحسن بن علي عليهما السلام : بين الحق والباطل أربع أصابع ، فما رأيته بعينك فهو الحق وقد تسمع باذنيك باطلا كثيرا .
قال الشامي : صدقت .
قال : وبين السماء والارض دعوة المظلوم ومدُّ البصر ، فمن قال لك غير هذا فكذبه .
قال : صدقت يا ابن رسول الله .
قال : وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس ، تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وحين تغيب في مغربها .
قال الشامي : صدقت ، فما قوس قزح ؟
قال : ويحك لا تقل : قوس قزح ، فإن قزح اسم شيطان ، وهو قوس الله وعلامة الخصب وأمان لاهل الارض من الغرق .
وأما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين فهي عين يقال لها برهوت ،
وأما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين فهي عين يقال لها سلمى ،
وأما المؤنث فهو الذي لا يدرى أذكر هو أو انثى ، فإنه ينتظر به فإن كان ذكرا احتلم ، وإن كانت انثى حاضت وبدا ثديها ، وإلا قيل له : بُل على الحائط فإن أصاب بوله الحائط فهو ذكر ، وإن انتكص بوله كما ينتكص بول البعير فهي امرأة .
وأما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض : فأشد شئ خلقه الله عزوجل الحجر ، وأشد من الحجر الحديد يقطع به الحجر ، وأشد من الحديد النار تذيب الحديد ، وأشد من النار الماء يطفئ النار ، وأشد من الماء السحاب يحمل الماء ، وأشد من السحاب الريح يحمل السحاب ، وأشد من الريح المَلَك الذي يرسلها ، وأشد من المَلَك ملك الموت الذي يميت الملك ، وأشد من ملك الموت الموت الذي يميت ملك الموت ، وأشد من الموت أمرالله رب العالمين الذي يميت الموت .
فقال الشامي : أشهد أنك ابن رسول الله حقا ، وأن عليا أولى بالامر من معاوية ، ثم كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية فبعثها معاوية إلى ابن الاصفر فكتب إليه ابن الاصفر : يا معاوية لِمَ تكلمني بغير كلامك ، وتحبيبني بغير جوابك ؟ اقسم بالمسيح ما هذا جوابك ، وما هو إلا من معدن النبوة وموضع الرسالة ، وأما أنت فلو سألتني درهما ما أعطيتك .
الإمام الحسن(ع) ومرتزقة معاوية
الذين أسسوا سبَّ الصحابة
روى الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات قال : اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وعتبة بن أبي سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة ، وكان بلغهم عن الحسن بن علي عليه السلام قوارض ، وبلغه عنهم مثل ذلك فقالوا : يا أمير المؤمنين إن الحسن قد أحيا أباه وذكره ، وقال فصدق ، وأمر فأطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه ، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسؤنا .
قال معاوية : فماذا تريدون ؟
قالوا : ابعث عليه فليحضر لِنَسُبّه ، ونَسُبَّ أباه ، ونعيّره ، ونوبّخه ، ونخبره أن أباه قتل عثمان ، ونقرره بذلك ، ولا يستطيع أن يغيّر علينا شيئاً من ذلك!! .
فقال معاوية : إني لا أرى ذلك ، ولا أفعله .
قالوا : عزمنا عليك يا أمير المؤمنين(...) لتفعلن .
فقال : ويحكم لاتفعلوا ، فوالله ما رأيته قط جالساً عندي إلا خفت مقامه ، وعيبه علي .
قالوا : ابعث عليه على كل حال .
قال : إن بعثت إليه لأنصفنه منكم.
فقال عمرو بن العاص : أتخشى أن يأتي باطله على حقنا ، أو يربى قوله على قولنا ؟
قال معاوية : أما إني أن أبعث إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله.
قالوا : مُرْهُ بذلك.
قال : أما إذا عصيتموني ، وبعثتم إليه ، وأبيتم إلا ذلك ، فلا تمرضوا له في القول ، واعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ، ولا يلصق بهم العار ، ولكن اقذفوه بحجره ، تقولون له : إن أباك قتل عثمان ، وكره خلافة الخلفاء من قبله.
فبعث إليه معاوية ، فجاءه رسوله فقال : إن أمير المؤمنين يدعوك . قال : من عنده ؟
فسمّاهم .
فقال الحسن عليه السلام : مالهم خرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون .
ثم قال: يا جارية ابغيني ثيابي ، اللهم إني أعوذ بك من شرورهم ، وأدرأ بك في نحورهم ، واستعين بك عليهم ، فاكفنيهم كيف شئت وأنى شئت بحول منك وقوة يا أرحم الراحمين.
ثم قام فدخل على معاوية فأعظمه ، وأكرمه ، وأجلسه إلى جانبه وقد ارتاد القوم ، وخطروا خطران الفحول ، بغياً في أنفسهم وعلواً . ثم قال : يا أبا محمد إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني.
فقال الحسن عليه السلام : سبحان الله ، الدار دارك ، والإذن فيها إليك ، والله إن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا وما في أنفسهم إني لأستحي لك من الفحش ، وإن كانوا غلبوك على رأيك إني لأستحي لك من الضعف ، فأيهما تقر ، وأيهما تنكر ؟ أما إني لو علمت بمكانهم جئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب ، وما لي أن أكون مستوحشاً منك ولا منهم ، إن وليي الله وهو يتولى الصالحين .
فقال معاوية : يا هذا إني كرهت أن أدعوك ولكن هؤلاء حملوني على ذلك مع كراهيتي له ، وأن لك منهم النَصَف ومني ، وإنما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلوماً ، وأن أباك قتله ، فاستمع منهم ثم أجبهم ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك .
فتكلم عمرو بن العاص : فحمد الله وصلى على رسوله ، ثم ذكر علياً عليه السلام فلم يترك شيئاُ يعيبه به إلا قاله ، وقال : انه شتم أبا بكر وكره خلافته ، وامتنع من بيعته ثم بايعه مكرهاً ، وشرك في دم عمر ، وقتل عثمان ظلماً ، وادعى من الخلافة ما ليس له . ثم ذكر الفتنة يعيره بها ، وأضاف إليه مساويء وقال : إنكم يا بني عبد المطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء ، واستحلالكم ما حرم الله من الدماء ، وحرصكم على الملك ، وإتيانكم ما لا يحل . ثم إنك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك ... وإنما دعوناك لنسبك وأباك!!؟ ، فأما أباك فقد تفرد الله به ، وكفانا أمره ، وأما أنت فانك في أيدينا نختار فيك الخصال ، ولو قتلناك ما كان علينا إثم من الله ، ولا عيب من الناس . فهل تستطيع أن ترد علينا وتكذبنا ؟ فان كنت ترى إنا كذبنا في شيء فاردده علينا ، وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان .
ثم تكلم الوليد بن أبي عقبة بن أبي معيط فقال : يا بني هاشم إنكم كنتم أخوال عثمان فنعم الولد كان لكم ، فعرف حقكم ، وكنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم ، يكرمكم ، فكنتم أول من حسده ، فقتله أبوك ظلماً ، لا عذر له ولا حجة ، فكيف ترون أن الله طلب بدمه ، وأنزلكم منزلتكم . والله إن بني أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية ، وان معاوية خير لك من نفسك !!!.
ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان فقال : يا حسن كان أبوك شر قريش لقريش(...) ، لسفكه لدمائها ، وقطعه لأرحامها ، طويل السيف واللسان ، يقتل الحي ويعيب الميت ، وانك ممن قتل عثمان ، ونحن قاتلوك به . وأما رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحاً ، ولا في ميراثها راجحاً ، وإنكم يا بني هاشم قتلتم عثمان ، وإن من الحق أن نقتلك وأخاك به ، فأما أبوك فقد كفانا الله أمره ، وأقاد منه ، وأما أنت فوالله ما علينا لو قتلناك بعثمان أثم ولا عدوان!!! .
ثم تكلم المغيرة بن شعبة فشتم علياً وقال : والله ما أعيبه في قضية يخون ، ولا في حكم يميل ، ولكنه قتل عثمان !!!.
ثم سكتوا ، فتكلم الحسن بن علي عليه السلام ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله وآله ، ثم قال : أما بعد يا معاوية فما هؤلاء شتموني ، ولكنك شتمتني ، فحشاً ألفته ، وسوء رأي عُرفت به ، وخلقاً سيئاً ثبتَّ عليه ، وبغياً علينا ، وعداوة منك لمحمد وأهله . ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم : أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كليهما وأنت يا معاوية بهما كافر ، تراها ضلالة ، وتعبد اللات والعزى غواية ؟
وأنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كليهما : بيعة الفتح ، وبيعة الرضوان ، وأنت يا معاوية بأحدهما كافر ، وبالأخرى ناكث ؟
وأنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيماناً ؟ وإنك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم ، تَسترون الكفر ، وتُظهرون الإسلام ، وتُستمالون بالأموال .
وأنشدكم الله ألستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله (ص) يوم بدر ، وأن راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه ، ثم لقيكم يوم أحد ، ويوم الأحزاب ، ومعه راية رسول الله (ص) ، ومعك ومع أبيك راية الشرك ، وفي كل ذلك يفتح الله عليه ، ويفلج حجته ، وينصر دعوته ، ويصدّق حديثه ، ورسول الله (ص) في تلك المواطن كلها عنه راض، وعليك وعلى أبيك ساخط.
وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر ، وأنت تسوقه ، وأخوك عتبة هذا يقوده ، فرآكم رسول الله (ص) فقال : اللهم العن الراكب والقائد والسائق.
أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما همَّ أن يٌسلم ، تنهاه عن ذلك ؟
يا صخر لا تسلمن يوماً فتفضحنا بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
خالي وعمي وعم الأم ثالثهم وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا
لا تركنن إلى أمر تكلفنا والراقصات به في مكة الخرقا
فالموت أهون من قول العداة لقد حاد ابن حرب عن العزى إذا مزقا
والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت.
وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن علياً حرّم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله (ص) فأنزل الله فيه ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) وأن رسول الله (ص) بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهُزِموا ، فبعث علياً بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله ، وفعل في خيبر مثلها ؟
ثم قال : يا معاوية أظنك لا تعلم أني أعلم ما دعا به عليك رسول الله (ص) لما أراد أن يكتب كتاباً إلى بني خزيمة ، فبعث إليك ونهمك إلى تموت.
وأنتم أيها الرهط نشدتكم الله ألا تعلمون أن رسول الله (ص) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردها ، أولها : يوم لقي رسول الله (ص) خارجاً من مكة على الطائف ، يدعو ثقيفاً إلى الدين ، فوقع به ، وسبه ، وشتمه ، وكذّبه ، وتوعّده ، وهم أن يبطش به ، فلعنه رسول الله (ص) ، وصرف عنه .
والثانية : يوم العير ، إذ عرض لها رسول الله (ص) ، وهي جائية من الشام فطردها أبو سفيان ، وساحل بها ، فلم يظفر المسلمون بها ، ولعنه رسول الله (ص) ودعا عليه ، فكانت وقعة بدر لأجلها.
والثالثة : يوم أحد ، حيث وقف تحت الجبل ، ورسول الله (ص) في أعلاه وهو ينادي : أُعلُ هبل ، مراراً فلعنه رسول الله (ص) عشر مرات ولعنه المسلمون.
والرابعة : يوم جاء بالأحزاب ، وغطفان واليهود ، فلعنه رسول الله (ص) ، وابتهل.
والخامسة : يوم جاء أبو سفيان في قريش ، فصدوا رسول الله (ص) عن المسجد الحرام ، والهدي معكوفاً أن يبلغ مَحِلَّه ، وذلك يوم الحديبية . فلعن رسول الله (ص) أبا سفيان ، ولعن القادة ، والأتباع وقال : ملعونون كلهم ، وليس فيهم مؤمن.
فقيل : يا رسول الله أفما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة ؟
فقال : لا تصيب اللعنة أحداً من الأتباع ، وأما القادة فلا يفلح منهم أحد.
والسادسة : يوم الجمل الأحمر.
والسابعة : يوم وقفوا لرسول الله (ص) في العقبة ، ليستنفروا ناقته ، وكانوا أثني عشر رجلاً ، منهم أبو سفيان .فهذا لك يا معاوية.
وأما أنت يا بن العاص فان أمرك مشترك ، وضعتك أمك مجهولاً من عهر وسفاح ، فتحاكم فيك أربعة من قريش ، فغلب عليك جزارها ، ألأمَهُم حسباً ، وأخبثهم منصباً ، ثم قام أبوك فقال : أنا شانيء محمد الأبتر ، فأنزل الله فيه ما أنزل، وقاتلتَ رسول الله (ص) في جميع المشاهد ، وهجوته ، وأذيته بمكة ، وكدته كيدك كله ، وكنت من أشد الناس له تكذيبا وعداوة ، ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة ، فلما أخطأت ما رجوت ، ورجعك الله خائباً ، وأكذبك واشياً ، جعلت حدك على عمارة بن الوليد ، فوشيت به إلى النجاشي ، حسداً لما ارتكب من حليلته . ففضحك الله ، وفضح صاحبك ، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام . ثم انك تعلم ، وهذا الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله (ص) بسبعين بيتاً من الشعر ، فقال رسول الله (ص) : اللهم إني لا أقول الشعر ، ولا ينبغي لي ، اللهم العنه بكل حرف لعنة ، فعليك إذاً من الله ما لا يحصى من اللعن .
وأما ما ذكرت من أمر عثمان ، فأنت سعّرت عليه الدنيا ناراً ، ثم لحقت بفلسطين ، فلما أتاك قتله قلت : أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها . ثم حبست نفسك إلى معاوية ، وبعت دينك بدنياه ، فلسنا نلومك على بغض ، ولا نعاتبك على ود ، وبالله ما نصرت عثمان حياً ، ولا غضبت له مقتولاً . ويحك يا ابن العاص ألَستَ القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشي :
تقول ابنتي أين هذا الرحيل ** وما السير مني بمستنكر
فقلت ذريني فإنــي امرؤ**أريد النجاشي في جعفر
لأكويه عنده كيّة *** أقيم بها نخوة الأصعر
وشاني أحمد من بينهم ***وأقولهم فيه بالمنكر
وأجري إلى عتبة جاهداً **ولو كان كالذهب الأحمر
ولا أنثني عن بني هاشم ** وما استطعت في الغيب والمحضر
فان قبل العتب مني له ** وإلا لويت له مشفري
فهذا جوابك هل سمعته ؟
وأما أنت يا وليد فوالله ما ألومك على بغض علي ، وقد جلدك ثمانين في الخمر ، وقتل أباك بين يدي رسول الله (ص) صبراً ، وأنت الذي سماه الله الفاسق ، وسمى علياً المؤمن ، حيث تفاخرتما ، فقلت له : اسكت يا علي ، فأنا أشجع منك جناناً ، وأطول منك لساناً .
فقال لك علي : اسكت يا وليد فأنا مؤمن ، وأنت فاسق . فأنزل الله موافقة قوله ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ) ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضاً ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه :
أنزل الله والكتاب عزيز ** في علي وفي الوليد قرانا
فتبوا الوليد إذ ذاك فسقاً **وعلي مبوّأ إيمانا
ليس من كان مؤمناً عمرك الله **كمن كان فاسقاً خوّانا
سوف يدعى الوليد بعد قليل ** وعليٌّ إلى الحساب عيانا
فعلي يجزى بذاك جناناً ** ووليد يجزى بذاك هوانا
رب جد لعقبة بن أبان ** لابسٌ في بلادنا تُبّانا
وما أنت وقريش ، واقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسن مما تدعى إليه.
وأما أنت يا عتبة ، فوالله ما أنت حصيف فأجيبك ، ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك ، وما عندك خير يرجى ، ولا شر يتقى ، وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء . وما يضر علياً لو سببته على رؤوس الأشهاد ، وأما وعيدك إياي بالقتل ، فهلا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك ، أما تستحي من قول نصر بن حجاج فيك :
يا للرجال وحادث الأزمان ** ولسبة تخزي أبا سفيان
نبئت عتبة خانه في عرسه **جنس لئيم الأصل من لحيان
وبعد هذا ما أربا بنفسي عن ذكره لفحشه، فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك ؟! وكيف ألومك على بغض علي وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، وشرك حمزة في قتل جدك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد.
وأما أنت يا مغيرة فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه ، وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة : استمسكي فإني طائرة عنك ، فقالت النخلة : وهل علمت بك واقعة علي فاعلم بك طائرة عني . والله ما نشعر بعداوتك إيّانا، ولا اغتممنا إذا علمنا بها، ولا يشق علينا كلامك ، وإن حد الله في الزنا لثابت عليك، ولقد درأ عمر عنك حقاً اللهُ سائله عنه ، ولقد سألت رسول الله (ص) : هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها ؟ فقال : لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا ، لعلمه بأنك زان .
وأما فخركم علينا بالإمارة فان الله تعالى يقول ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) .
ثم قام الحسن عليه السلام فنفض ثوبه فانصرف ، فتعلق عمرو بن العاص بثوبه وقال : يا أمير المؤمنين قد شهدت قوله وقذفه أمي بالزنا وأنا مطالب له بحد القذف.
فقال معاوية : خل عنه لا جزاك الله خيراً ، فتركه.
فقال معاوية : قد أنبأتكم انه ممن لا تطاق عارضته ، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني ، والله ما قام حتى أظلم عليَّ البيت ، قوموا عني فلقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم، وعدولكم عن رأي الناصح المشفق ، والله المستعان.
شهادته ومدفنه ومظلوميته(ع)
عبدالله بن إبراهيم ، عن زياد المحاربي قال : لمّا حضرت الحسن عليه السلام الوفاة استدعى الحسين عليه السلام وقال له : «يا أخي إنّني مفارقك ولاحق بربّي ، وقد سقيت السمّ ورميت بكبدي في الطست ، وإنّي لعارف بمن سقاني ومن أين دُهيت ، وأنا اُخاصمه إلى الله عزّوجلّ ، فبحقّي عليك إنْ تكلّمت في ذلك بشيء ، وانتظر ما يحدث الله تبارك وتعالى فيّ ، فإذا قضيت فغسّلني وكفّنّي ، واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لاُجدّد به عهداً، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة فادفنّي هناك ، وستعلم يابن اُمّ إنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيجلبون في منعكم من ذلك ، وباللهّ اُقسم عليكم أن تهريق في أمري محجمة من دم » .
ثمّ وصّى إليه بأهله وولده وتركاته وما كان وصّى أمير المؤمنين عليه السلام حين استخلفه .
فلمّا مضى لسبيله وغسّله الحسين عليه السلام وكفّنه وحمله على سريره لم يشكّ مروان وبنو اُميّة أنّهم سيدفنونه عند رسول اللهّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فتجمّعوا ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسين عليه السلام إلى قبرجدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليجدّد به عهداً أقبلوا في جمعهم ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول : نحّوا ابنكم عن بيتي فإنّه لا يدفن فيه ويهتك عليه حجابه!!.
وفي رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال الحسين لها : «قديماً أنت هتكتي حجاب رسول الله وادخلت بيته من أبغضه ، إن الله سائلك عن ذلك ، إن أخي أمرني أن أقرّبه من رسول الله ليجدد به عهداً» إلى آخر كلامه .
قال : ثمّ تكلّم محمد بن الحنفية فقال : يا عائشة يوماً على بغل ويوماً على جمل فما تملكين نفسك عداوة لبني هاشم !
قال : فأقبلت عليه وقالت : يا ابن الحنفيّة، هؤلاء بنو الفواطم يتكلّمون فما كلامك ؟
فقال الحسين عليه السلام : «وأنّى تفقدين محمّداً من الفواطم ، فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم :
فاطمة بنت عمران بن عائذ، وفاطمة بنت ربيعة ، وفاطمة بنت أسد» .
فقالت عائشة : نحّوا ابنكم واذهبوا، فإنّكم قوم خَصمون!! .
فمضى الحسين بالحسن عليهما السلام إلى البقيع ودفنه هناك.
وكانت المقبرة بالبقيع عامرة، ومحلا لزيارة المؤمنين ، الى أن جاء الوهابيون فهدموها بغضا منهم لأهل البيت، وعداوة للأئمة الطاهرين.
( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين).