نص الشبهة:
لقد تنازل الحسن بن علي «رضي الله عنهما» لمعاوية «رضي الله عنه» وسالمه، في وقت كان يجتمع عنده من الأنصار والجيوش ما يمكنه من مواصلة القتال. وفي المقابل خرج أخوه الحسين «رضي الله عنه» على يزيد في قلة من أصحابه، في وقت كان يمكنه فيه الموادعة والمسالمة. فلا يخلو أن يكون أحدهما على حق، والآخر على باطل؛ لأنه إن كان تنازل الحسن مع تمكنه من الحرب (حقاً) كان خروج الحسين مجرداً من القوة مع تمكنه من المسالمة (باطلاً)، وإن كان خروج الحسين مع ضعفه (حقاً) كان تنازل الحسن مع (قوته) باطلاً! وهذا يضع الشيعة في موقف لا يحسدون عليه؛ لأنهم إن قالوا: إنهما جميعاً على حق، جمعوا بين النقيضين، وهذا القول يهدم أصولهم. وإن قالوا ببطلان فعل الحسن، لزمهم أن يقولوا ببطلان إمامته، وبطلان إمامته يبطل إمامة أبيه وعصمته؛ لأنه أوصى إليه، والإمام المعصوم لا يوصي إلا إلى إمام معصوم مثله حسب مذهبهم. وإن قالوا: ببطلان فعل الحسين لزمهم أن يقولوا ببطلان إمامته وعصمته، وبطلان إمامته وعصمته يبطل إمامة وعصمة جميع أبنائه وذريته؛ لأنه أصل إمامتهم وعن طريقه تسلسلت الإمامة، وإذا بطل الأصل بطل ما يتفرع عنه! وصيغة أخرى للسؤال في شقه الثاني تقول: ما الذي استفاده الحسين «رضي الله عنه» من الخروج لكربلاء والموت هناك؟! إن قلت: خرج ليثور على الظلم، فسأقول لك: ولماذا لم يخرج أبوه علي بن أبي طالب على من ظلموه؟! إما أن الحسين أعلم من أبيه، أو أن أبيه لم يتعرض للظلم، أو أن علياً لم يكن شجاعاً ليثور على الظلم؟! ولماذا لم يخرج أخوه الحسن على معاوية، بل صالحه وسلمه البلاد والعباد، فأي الثلاثة كان مصيباً؟!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فإنني أجيب على سؤالكم بما يلي:
أولاً: إن هذا السؤال ليس موجهاً للشيعة، بل يجب أن توجهه للحسين «عليه السلام» نفسه، فهو الذي يعرف السبب في خروجه إلى كربلاء، وما الذي استفاده منها.
ثانياً: إنك تحاول بهذا السؤال أن تخطىء أحد الثلاثة الذين نزلت في حقهم آية التطهير، وهم: علي والحسن والحسين «عليهم السلام»..
فإن كان أحدهم مخطئاً، فكيف طهَّرهم الله جميعاً من الرجس تطهيراً؟! إذن.. فيجب أن تعتب على الله سبحانه وتعالى الذي حكم بطهارة غير الطاهرين من الرجس بزعمك..
وإن كنت تريد تخطئة علي «عليه السلام»، في عدم خروجه على من ظلمه، فإنما تخطىء الله ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى، فإنه هو الذي يقول: «علي مع الحق والحق مع علي» 1.
وإن كنت تخطِّىء الحسن أو الحسين «عليهما السلام»، فإنما تخطِّىء الله ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى أيضاً، فإنه هو الذي قال:
«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، فكيف يجعلهما الرسول بأمر من الله إمامين للناس، وهما يخطئان أو يخطىء أحدهما قطعاً، وتكون أخطاؤهما فادحة إلى هذا الحد ؟!
وكيف يصدر عن سيدي شباب أهل الجنة الأمور المتضادة في موضوع واحد ؟!
ألا يوجب ذلك كله عليك أن تبحث عن الظروف التي دعت الإمام الحسن «عليه السلام» إلى الصلح.. وعن الظروف التي دعت الإمام الحسين «عليه السلام» للخروج إلى كربلاء، وعن الظروف التي دعت علياً «عليه السلام» للسكوت..
ثالثاً: من قال لك: إن مجرد خروج الإمام الحسين «عليه السلام» إلى كربلاء وليس معه جيش، ولا حشود، بل معه أولاده، وأصحابه الذين لا يزيدون على بضعة عشرات هل يعد ذنباً يبيح ليزيد أو لغيره أن يقطع عليه الطريق بالجيوش ويجمع له ثلاثين ألفاً، ثم يبادر إلى قتله، وقتل أهل بيته حتى الطفل الرضيع، فضلاً عن قتل أصحابه؟!
رابعاً: إننا نقول لك:
ألم يكن المشركون، وأبو جهل يظلمون رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه في مكة؟! فلماذا لم يبادر رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى حربهم؟!
إما أن تقول: إنه «صلى الله عليه وآله» لم يتعرض لظلمهم وهذا خلاف الثابت، أو أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن شجاعاً ليثور على الظلم..
وإذا كان عمر بن الخطاب قد هاجر ظاهراً معلناً، وتهدد المشركين بأن يقتل من يلحق به منهم ليمنعه من الهجرة.
فلماذا هاجر النبي «صلى الله عليه وآله» وأبو بكر مستترين، بعد أن أخفيا أنفسهما في الغار؟!
هل كان عمر أشجع أو أقوى من النبي «صلى الله عليه وآله» ومن أبي بكر ؟! فلماذا لم يخرج النبي «صلى الله عليه وآله» ظاهراً ؟! ولماذا لم يتهدَّد النبي وأبو بكر المشركين كما تهدَّدهم عمر بن الخطاب؟!
خامساً: بالنسبة لسكوت علي «عليه السلام» في البداية، ثم قتاله الخارجين عليه في خلافته نقول:
لماذا سكت «صلى الله عليه وآله» عن ظلم المشركين له وللمسلمين في مكة، ثم حاربهم عدة سنين بعد أن هاجر إلى المدينة، ثم صالحهم في الحديبية، وأعطاهم تلك الشروط التي وافق عليها أبو بكر، واعترض عليها عمر؟!
هل أخطأ «صلى الله عليه وآله» في سكوته عن الظلم في مكة، كما سكت علي «عليه السلام» عمن ظلموه بزعمك.. أم أخطأ «صلى الله عليه وآله» في حربه للمشركين في بدر وأحد، وسواها؟! أم أخطأ في صلحه معهم يوم الحديبية كما أخطأ بزعمك الإمام الحسين «عليه السلام» بذهابه إلى كربلاء، وكما أخطأ الإمام الحسن بصلحه مع معاوية؟!.
ففي أي حالة من هذه الحالات الثلاث أخطأ رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!
أما نحن.. فإننا لسنا بحاجة إلى التذكير بأننا نقول بكل حزم ويقين: إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان مصيباً في كل ما فعل، وأن فعله حجة علينا وعلى جميع الخلق..
وكان علي «عليه السلام» مصيباً في سكوته، حين كان الإسلام طري العود، وكان الناس حَدِيثي عهد بالجاهلية، وكان الأعداء لا يزالون أقوياء، ويحيطون بالمسلمين..
وكان الإمام الحسن «عليه السلام» مصيباً أيضاً في صلحه مع معاوية، حيث انتزع منه اعترافاً مكتوباً، شهد عليه الأعيان والرؤساء: بأن الأمر من بعده للإمام الحسن، ثم للإمام الحسين 2، وفوت على معاوية فرصة قتله، وقتل أخيه الحسين «عليهما السلام»، وإبادة بني هاشم، وحمل معاوية على أن يبطل هو وبخط يده خلافة ولده يزيد وجميع بني أمية من بعده..
وفي بعض المصادر: بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين..
ونحن نعتقد: أن هذا الأمر مجعول.. ولكن حتى ما جعلوه لم يلتزموا به، ولم يذهب موضوع الإنتزاء على حكم الأمة من قبل الأمويين.
فلما تم الصلح، عاد معاوية فنقض الإتفاق، وبقي الحسنان ملتزمين بعهدهما، لأنهما لو نقضاه ـ كما نقضه معاوية ـ لقلتم: إن خلافة يزيد كانت شرعية، لأن النقض للصلح قد حصل من الطرفين..
فلما مات معاوية كان لا بد من العمل بالإتفاق الذي كان قد أبرم معه، لأن المعاهدات لا تنقض من طرف واحد، فالحسين «عليه السلام» كان هو الخليفة باعتراف معاوية في وثيقة الصلح، وكان يزيد هو الغاصب، والخارج على إمام زمانه، والقاتل له..
فكان لا بد للإمام الحسين «عليه السلام» من المطالبة بالعمل بأحكام الله، ومن توضيح الأمور للناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله «صلى الله عليه وآله»، كما صرح به في كلماته المختلفة.. حتى لا يقول قائل: إن حكم يزيد والأمويين كان شرعياً، لأنهم حكموا بموافقة الحسنين «عليهما السلام»، وبمقتضى أحكام الصلح..
فاتضح: أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان مصيباً ومعصوماً في كل مواقفه..
ثم كان علي «عليه السلام» مصيباً في سكوته..
ثم كان الحسن «عليه السلام» مصيباً في صلحه..
ثم كان الحسين «عليه السلام» مصيباً في خروجه إلى كربلاء..
سابعاً: إن ما قاله السائل، من أنه كان مع الامام الحسن «عليه السلام» من الجيوش ما يمكنه من مواصلة القتال، غير صحيح أيضاً.. ويكفي أن نذكِّره هنا، بما قاله الإمام الحسن «عليه السلام» نفسه في وصفه لحال أصحابه.
فقد ذكر ابن الأثير الجزري: أنه «عليه السلام» خطب أصحابه حين وفاة أبيه أرسل إليه معاوية بالصلح ـ وهذا إنما حصل حين كان «عليه السلام» في المدائن ـ وقال بعد حمد الله عز وجل:
«إنا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وانما كنا نقاتل أهل الشأم بالسلامة والصبر، فسلبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع.. وكنتم في منتدبكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. ألا وإنَّا لكم كما كنا، ولستم لنا كما كنتم..
ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره. فأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر.
ألا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظباء السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه، وأخذنا لكم الرضاء.
فناداه القوم من كل جانب: البقية، البقية.
فلما أفردوه أمضى الصلح» 3.
ونقول:
1 ـ إن لنا ملاحظة على قولهم: إنه قد خطب بذلك حين وفاة أبيه، فإن معاوية إنما كتب بالصلح إلى الامام الحسن «عليه السلام» بعد استشهاد أمير المؤمنين «عليه السلام» بأشهر عديدة، وقد كان الامام الحسن «عليه السلام» حينئذ في المدائن، وكان استشهاد الإمام علي «عليه السلام» بالكوفة، فالصحيح: ما أورده ابن طاووس «رحمه الله» حيث قال:
«لما وجد الحسن بن علي «عليهما السلام» فترة من أنصاره.. وكتب معاوية في طلب الصلح إليه وإلى أصحابه، خطب خطبة منها: ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنما كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر.. إلخ..» 4.
وأصرح من ذلك: ما ذكره الذهبي، حيث صرح: بأن ذلك قد حصل في المدائن، فراجع 5.
والمراد بإفراده: تركه فرداً وحيداً.
2 ـ ما فائدة هذا الجيش الذي يتخلى عن قائده ولا يعمل بما تفرضه عليه بيعته، وعهوده ؟!
ثامناً: أما سؤال السائل عن سبب مقاتلة الإمام الحسين «عليه السلام»، مع أنه في قلة من أصحابه، فقد قلنا: إنه «عليه السلام» لم يجمع جيشاً، ولم يأت لحرب، بل ترك الحج مخافة أن يغتاله الأمويون في مكة، وتنتهك بقتله حرمة بيت الله، فخرج عنها متجهاً نحو العراق، فاعترضه جيش يزيد، ومنعه من دخول الكوفة، وجعجع به حتى بلغ به كربلاء وجمع له يزيد ثلاثين ألفاً، وهو في بضع عشرات من أهل بيته وأصحابه، فقتلوهم بتلك الطريقة الفظيعة.
ومن جهة أخرى، فإننا قد علمنا: أن من جملة شروط الامام الحسن «عليه السلام» على معاوية: أن يعود الأمر من بعده إليه، ثم إلى أخيه الإمام الحسين «عليهما السلام».. ولا يصح نقض العهد من طرف واحد.. فكان يزيد هو الباغي على إمامه، والخارج عليه، والقاتل له..
أما الإمام الحسن «عليه السلام» فقد قلنا: إنه «عليه السلام» قام بالأمر، وحاول دفع الباغي عليه حتى تخلى عنه جيشه، فلما تخلى عنه وتمكن من حقن الدماء، بنحو يحصل فيه على اعتراف من معاوية بأن الحق له ولأخيه، وتعهد له بإرجاعه إليه ولأخيه من بعده رضي بالصلح ـ وإن كان كارهاً ـ لما يعلمه من دخيلة معاوية التي لن ترضى بالوفاء..
والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله 6.
_______________
1. راجع: دلائل الصدق ج2 ص303 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج18 ص72 وعبقات الأنوار ج2 ص324 عن السندي في دراسات اللبيب ص233 وكشف الغمة ج2 ص35 وج1 ص141 ـ 146 والجمل لابن شدقم ص11 والجمل للمفيد ص36 و 231 وتاريخ بغداد ج14 ص321 والمستدرك للحاكم ج3 ص119 و 124 وربيع الأبرار ج1 ص828 و 829 ومجمع الزوائد ج7 ص234 ونزل الأبرار ص56 وفي هامشه عنه، وعن: كنوز الحقائق ص65 وعن كنز العمال ج6 ص157 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج5 ص77 و 28 و 43 و 623 و 638 وج16 ص384 و 397 وج4 ص27 عن مصادر كثيرة جداً..
2. راجع: عمدة الطالب لابن عنبة ص67 وراجع: تاريخ الإسلام للذهبي ج4 ص5 والوافي بالوفيات للصفدي ج12 ص68 وراجع: فتح الباري ج13 ص56 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج1 ص386 وتاريخ مدينة دمشق ج13 ص261 وتهذيب الكمال ج6 ص243 و 244 وتهذيب التهذيب ج2 ص259 والجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص28 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث) ج8 ص45 وترجمة الإمام الحسن لابن عساكر ص171.
3. أسد الغابة ج2 ص13 وبحار الأنوار ج44 ص21 وبتفاوت في الطرائف ص198 وتاريخ مدينة دمشق ج13 ص268 وسير أعلام النبلاء ج3 ص269 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج26 ص472 وترجمة الإمام الحسن لابن عساكر ص179 ومصادر أخرى للخاصة والعامة.
4. الملاحم والفتن لابن طاووس ص362 وراجع: أسد الغابة ج2 ص13 وسير أعلام النبـلاء ج3 ص269 وترجمـة الإمـام الحسن لابن عسـاكـر ص178 وراجـع: مختصر تأريخ دمشق ج7 ص35 ـ 36 وأعلام الدين ص292 ـ 293 وبحار الأنوار ج44 ص21 عنه. وتاريخ مدينة دمشق ج13 ص268 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج26 ص472 وج33 ص507.
5. تاريخ الإسلام للذهبي ج4 ص6 وسير أعلام النبلاء ج3 ص145 و 263.
6. ميزان الحق (شبهات.. و ردود)، السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، سنة 1431 هـ ـ 2010 م، الجزء الأول، السؤال رقم (9).