وقبض ليلة الجمعة لتسع بقين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة قتيلا شهيدا ، قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله – وقد خرج لصلاة الفجر ليلة تسعة عشر من شهر رمضان وهو ينادي ( الصلاة الصلاة ) – في المسجد الأعظم بالكوفة ، فضربه بالسيف على أم رأسه ، وقد كان ارتصده من أول الليل لذلك ، وكان سيفه مسموما . فمكث عليه السلام يوم التاسع عشر وليلة العشرين ويومها وليلة الحادي والعشرين إلى نحو الثلث من الليل ثم قضى نحبه عليه السلام ( 1 ) ، وقد كان يعلم ذلك قبل أوانه ويخبر به الناس قبل أيانه .
فقد اشتهر في الرواية : أنه عليه السلام كان لما دخل شهر رمضان يتعشى ليلة عند الحسن عليه السلام ، وليلة عند الحسين عليه السلام ، وليلة عند عبد الله بن العباس ، والأصح عبد الله بن جعفر ، وكان لا يزيد على ثلاث لقم ، فقيل له في ذلك فقال : ( يأتيني أمر ربي وأنا خميص ، إنما هي ليلة أو ليلتان ) ، فأصيب عليه السلام في آخر تلك الليلة ( 2 ) .
وروى أصبغ بن نباتة قال : خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام في الشهر الذي قتل فيه فقال : ( أتاكم شهر رمضان ، وهو سيد الشهور وأول السنة ، وفيه تدور رحى السلطان ، ألا وإنكم حاجوا العام صفا واحدا ، وآية ذلك أني لست فيكم ) قال : فهو ينعى نفسه عليه السلام ونحن لا ندري ( 3 ) .
وروى عنه جماعة أنه كان يقول على المنبر : ( ما يمنع أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم ) ويضع يده على شيبته عليه السلام .
وروي : أنه كان يقول : ( والله ليخضبن هذه من هذه ) ويضع يده على رأسه ولحيته عليه السلام ( 4 ) .
وروي عن أبي صالح الحنفي قال : سمعت عليا عليه السلام يقول : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامي فشكوت إليه ما لقيت من أمته من الأود واللدد وبكيت فقال : ( لا تبك يا علي ، والتفت فالتفت فإذا رجلان مصفدان ، وإذا جلاميد ( 5 ) ترضخ بها روسهما ) .
قال أبو صالح : فغدوت إليه من الغد فلقيت الناس يقولون : قتل أمير المؤمنين عليه السلام ( 6 ) .
وروى الحسن البصري قال : سهر أمير المؤمنين عليه السلام في الليلة التي قتل في صبيحتها ولم يخرج إلى المسجد لصلاة الليل على عادته ، فقالت له ابنته أم كلثوم : ما هذا الذي قد أسهرك ؟ فقال : ( إني مقتول لو قد أصبحت ) .
وأتاه ابن النباح فآذنه بالصلاة ، فمشى غير بعيد ثم رجع فقالت له أم كلثوم : مر جعدة فليصل بالناس ، قال : ( نعم مروا جعدة ليصلي ) ثم قال : ( مفر من الأجل ) فخرج إلى المسجد ، فإذا هو بالرجل قد سهر ليلته كلها يرصده ، فلما برد السحر نام ، فحركه أمير المؤمنين عليه السلام برجله وقال له : ( الصلاة ) ، فقام إليه فضربه ( 7 ) .
وروي في حديث آخر : أنه عليه السلام سهر في تلك الليلة ، وكان يكثر الخروج والنظر إلى السماء وهو يقول : ( والله ما كذبت ولا كذبت وإنها الليلة التي وعدت بها ) ثم يعاود مضجعه ، فلما طلع الفجر شد إزاره وخرج وهو يقول :
اشدد حيازيمك للموت ** فإن الموت اتيك
ولا تجزع من الموت ** إذا حل بواديك
فلما خرج إلى صحن الدار استقبلته الإوز فصحن في وجهه ، فجعلوا يطردونهن ، فقال : ( دعوهن فإنهن صوائح تتبعها نوائح ) ثم خرج فأصيب عليه السلام ( 8 ) .
( وكان سنه يوم استشهد ثلاثا وستين سنة ، وكان مقامه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا وثلاثين سنة ، عشر منها قبل البعثة ، واسلم وهو ابن عشر سنين ( 9 ) ، فقد صحت الرواية عن حبة العرني عنه عليه السلام قال : ( بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين فأسلمت يوم الثلاثاء ) ( 10 ) ، وبعد البعثة بمكة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنين ، وعاش بعد ما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثين سنة إلا خمسة أشهر وأياما ، وتولى غسله وتكفينه ابناه الحسن والحسين بأمره ، وحملاه إلى الغريين من نجف الكوفة ودفناه هناك ليلا ، وعميا موضع قبره بوصيته إليهما في ذلك لما كان يعلم من دولة بني أمية من بعده وإنهم لا ينتهون عما يقدرون عليه من قبيح الأفعال ولئيم الخلال ، فلم يزل قبره مخفيا حتى دل عليه الصادق عليه السلام في الدولة العباسية وزاره عند وروده إلى أبي جعفر وهو بالحيرة ( 11 ) .
الهوامش
( 1 ) انظر : الكافي 1 : 376 ، ارشاد المفيد 1 : 9 1 ، كشف الغمة 1 : 436 ، اثبات الوصية للمسعودي : 132 ، مناقب الخوارزمي : 284 ، ذخائر العقبى : 115 ، الفصول المهمة 138 و 139 .
( 2 ) ارشاد المفيد 1 : 14 ، روضة الواعضين : 135 ، الخرائج والجرائح 1 : 201 / 41 ، مناقب ابن شهرآشوب 2 : 271 ، مناقب الخوارزمي : 283 ، الكامل في التاريخ 3 : 388 أسد الغابة 4 : 35 ، الفصول المهمة : 139 .
( 3 ) ارشاد المفيد 1 : 14 ، روضة الواعظين : 135 ، الخرائج والجرائح 1 : 201 / 41 .
( 4 ) أر شاد المفيد 1301 . أمالي الطوسي 1 : 273 ، الخرائج الجرائح 1 : 201 / 41 ، تاريخ بغداد 12 : 57 / 6441 ، ونحوه في مسند أبي يعلى الموصلي 1 : 378 / ذيل ح 5 48 .
( 5 ) الجلمود : الصخر . ( الصحاح – جلمد – 2 : 459 ) .
( 6 ) ارشاد المفيد 1 : 15 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 211 ، مسند أبي يعلى الموصلي 1 : 398 / 520 ، مجمع الزوائد 9 : 138 ، ونحوه في مقاتل الطالبيين : 40 .
( 7 ) ارشاد المفيد 1 : 16 ، روضة الواعظين : 135 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 310 ، ودون ذيله في خصائص الرضي : 63 .
( 8 ) خصائص الرضي : 63 ، ارشاد المفيد 1 : 16 ، روضة الواعظين : 35 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 310 ، كشف الغمة 1 : 436 .
( 9 ) انظر : الكافي 1 : 376 ، تاج المواليد ( ضمن مجموعة نفيسة ) : 0 9 ، مناقب شهرآشوب 3 : 307 ، مناقب الخوارزمي : 384 .
( 10 ) تفسير القمي 1 : 378 ، مسند أبي يعلى 1 : 348 / 446 ، الأوائل لأبي هلال العسكري : 91 ، مستدرك الحاكم 3 : 112 عن انس بن مالك ، ووافقه الذهبي في ذيل المستدرك ، تاريخ ابن عساكر – ترجمة الإمام علي عليه السلام – 1 : 5 / 79 ، صحيح الترمذي 5 : 640 / 3728 عن أنس بن مالك إلا أنه فيه وصلى علي بدل فأسلمت .
( 11 ) انظر : ارشاد المفيد 1 : 9 ، تاج المواليد ( ضمن مجموعة نفيسة ) : 90 و 93 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 307 .