مقدّمة
لمّا نقضت بنو قريظة صلحها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانضمّت إلى صفوف المشركين، تغيّر ميزان القوى لصالح أعداء الإسلام.
فتحزّبت قريش والقبائل الأُخرى، ومعهم اليهود على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى المسلمين، وكان يقود الأحزاب أبو سفيان، فقاموا بتطويق المدينة بعشرة آلاف مقاتل، ممّا أدّى إلى انتشار الرُعب بين صفوف المسلمين، وتزلزلت نفوسهم، وظنّوا بالله الظنونا، كما قال الله تعالى: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)(۱).
حفر الخندق
استشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه في معالجة الهجوم المتوقّع من قبل العدو على المدينة المنوّرة، فأجمع رأيهم على البقاء في المدينة ومحاربة القوم أن جاؤوا إليهم، كما توصّلوا إلى حفر خندق يُحصّن المسلمين من أعدائهم.
فبدؤوا بحفر الخندق حول المدينة باتّجاه العدو، وخرج النبي (صلى الله عليه وآله) مع المسلمين ليشاركهم في حفر هذا الخندق وتقسيم العمل بينهم، وكان يحثّهم ويقول: «لا عيش إلّا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين الأنصار»(۲).
عدّة الجيشيين
قد اختلفت كلمات المؤرّخين في عدد الجيش الإسلامي الذي واجه الأحزاب في حرب الخندق، فقد ذهب أكثر المؤرّخين: إلى أنّهم كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها، ولكن الصحيح أنّهم سبعمائة شخص أو أقلّ من ألف.
واختلفت كذلك كلمات المؤرّخين في عدد المشركين: فقد قال المسعودي: فكان عدّة الجمع أربعة وعشرين ألفاً، وقال ابن شهر آشوب: كانوا ثمانية عشر ألف رجل، وقال ابن الربيع: كانوا أحد عشر ألفاً، والظاهر كان عددهم عشرة آلاف نفر، وهم الأحزاب، وكانوا ثلاثة عساكر، ورئيس الكلّ أبو سفيان(۳).
مبارزة الإمام علي (عليه السلام) لعمرو بن عبد ودّ
تمكّنت مجموعة من العدو من عبور الخندق، وكان من بينهم عمرو بن عبد ودٍّ، فراح يصول ويجول، ويتوعّد ويتفاخر ببطولته، وينادي: هل من مبارز؟ فلم يجبه أحد، حتّى قال:
ولقد بححتُ من النداءِ ** بجمعِكُم هل من مبارزِ
ووقفتُ إذ جبن الشجاع ** بموقفِ البطلِ المناجزِ
إنِّي كذلكَ لم أزل ** متسرّعاً نحوَ الهزاهزِ
إنَّ الشجاعةَ والسماحةَ ** في الفتى خيرُ الغرائزِ(4).
فقام الإمام علي (عليه السلام) وقال: «أنا له يا رسول الله»!
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اجلس، إنّه عمرو».
فقال الإمام علي (عليه السلام): «وإن كان عمرواً».
فعند ذلك أذن (صلى الله عليه وآله) له، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وألبسه درعه، وعمّمه بعمامته.
ثمّ قال (صلى الله عليه وآله): «إلهي أخذت عبيدة منّي يوم بدر، وحمزة يوم أُحد، وهذا أخي وابن عمّي، فلا تَذَرني فرداً وأنت خير الوارثين».
وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(5).
ومضى الإمام علي(عليه السلام) إلى الميدان، وهو يقول:
لا تعجلنَّ فقد أتاكَ ** مجيبُ صوتِكَ غيرَ عاجزِ
ذو نيةٍ وبصيرةٍ ** والصبرُ منجي كلَّ فائزِ
إنِّي لأرجُو أن أُقيمَ ** عليكَ نائحةَ الجنائزِ
من ضربةٍ نجلاء يبقى ** ذكرُها عندَ الهزاهزِ(6).
فتقدّم (عليه السلام) وكلّه ثقة بالله ونصره له، وخاطب ابن عبد ودٍّ بقوله: «يا عمرو، إنّك كنت تقول: لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلّا قبلتها».
قال عمرو: أجل.
فقال الإمام علي (عليه السلام): «فانّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وتسلّم لربّ العالمين».
فقال: يابن أخي، أخّر عنّي هذه.
فقال له: «أما أنّها خير لك لو أخذتها».
ثمّ قال (عليه السلام): «وأُخرى ترجع إلى بلادك، فإن يك محمّد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذباً كان الذي تريد».
قال: هذا ما لا تتحدّث به نساء قريش أبداً.
ثمّ قال (عليه السلام): «فالثالثة، أدعوكَ إلى البراز».
فقال عمرو: إنّ هذه الخصلة ما كنت أظنّ أنّ أحداً من العرب يرومني عليها، ولِم يا ابن أخي؟ إنّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديماً.
فردّ الإمام علي (عليه السلام) عليه قائلاً: «لكنِّي والله أُحبّ أن أقتلكَ».
فغضب عمرو، فقال له علي (عليه السلام): «كيف أُقاتلك وأنت فارس، ولكن انزل معي».
فاقتحم عن فرسه فعقره، وسل سيفه كأنّه شعلة نار، وأقبل على الإمام علي (عليه السلام)، فصدّه برباطة جأش، وأرداه قتيلاً، فعلا التكبير والتهليل في صفوف المسلمين.
ولمّا قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) عمرواً، أقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووجهه يتهلّل، فقال له عمر بن الخطّاب: هلّا سلبته يا علي درعه، فإنّه ليس في العرب درع مثلها؟
فقال (عليه السلام): «إنّي استحييت أن أكشف سوأت ابن عمّي».
وقال (عليه السلام) أبياتاً في قتل عمرو، منها:
نَصَرَ الحجارة من سفاهةِ رأيهِ ** ونصرتُ دينَ محمّدٍ بضرابِ
فصددتُ حينَ تركتهُ متجندلاً ** كالجذعِ بين دكادكٍ وروابي
وعففتُ عن أثوابِهِ ولو أنَّني ** كنتُ المقطّر بزّني أثوابي
لا تحسبنَّ اللهُ خاذلَ دينِهِ ** ونبيّه يا معشرَ الأحزابِ(7).
ولمّا عاد الإمام (عليه السلام) ظافراً، استقبله رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: «لَمُبَارَزَة عليٍّ بن أبي طالب لِعَمرو بن عبد ودٍّ أفضلُ من عَمل أُمّتي إلى يوم القيامة»(8).
وفي رواية: «ضربة علي يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة»(9).
قال السروجي بالمناسبة:
ويوم عمرو العامري إذ أتى ** في عسكرٍ ملا الفضاء قد انتشر
فكانَ من خوفِ اللعينِ قبلَ ذاك ** محمّد لخندقٍ قد احتفر
نادى بصوتٍ قد علا من جهلِهِ ** يدعُو عليّاً للبرازِ فابتدر
إليه شخص في الوغى عاداته ** سفك دم الأقران بالعضبِ الذكر
فعندها قالَ النبيُّ معلناً ** والدمعُ في خدٍّ كأمثالِ الدرر
هذا هوَ الإسلام كلّ بارز ** إلى جميعِ الشركِ يا مَن قد حضر(10).
فلولا الموقف البطولي للإمام (عليه السلام)، لاقتحم جيش المشركين المدينة على المسلمين بذلك العدد الهائل، وهكذا كانت بطولة الإمام علي (عليه السلام) في غزوة الخندق (الأحزاب)، فكانت أهمّ عناصر النصر لمعسكر الإيمان على معسكر الكفر والضلال.
وعن أبي الحسن المدائني قال: لمّا قتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ودّ، نُعي إلى أُخته ـ واسمها عمرة وكنيتها أُمّ كلثوم ـ فقالت: مَن ذا الذي اجترأ عليه؟
فقالوا: ابن أبي طالب، فقالت: لم يعد موته إن كان على يد كفؤ كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيته على يد كفؤ كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثمّ أنشأت تقول:
لو كانَ قاتلُ عمروٍ غيرَ قاتلِهِ ** لكنتُ أبكي عليهِ آخر الأبدِ
لكنَّ قاتلَ عمروٍ لا يُعابُ بهِ ** مَن كانَ يُدعى قديماً بيضةِ البلدِ
من هاشمٍ ذراها وهي صاعدة ** إلى السماءِ تميت الناس بالحسدِ
قومٌ أبى اللهُ إلّا أن يكونَ لهُم** كرامة الدينِ والدنيا بلا لددِ
يا أُمَّ كلثوم ابكيهِ ولا تدعي ** بكاء معولة حري على ولدِ(11).
وقت الانتصار
أقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة لم يكن بينهم وبين المسلمين حرب إلّا الرمي بالنبل والحصا، ولكن بعد عبور أحد أبطال الشرك والكفر، وهو عمرو بن عبد ودٍّ العامري الخندق، ومبارزة الإمام علي (عليه السلام) له وقتله، تحقّق النصر للإسلام والمسلمين في الثالث من شوال 5ﻫ.
ــــــــــــــــــ
1ـ الأحزاب: 10.
2ـ صحيح البخاري 4 /225.
3ـ اُنظر: الصحيح من سيرة النبي الأعظم 9 /179.
4ـ مناقب آل أبي طالب 2 /325.
5ـ شرح نهج البلاغة 13 /261، ينابيع المودّة 1 /281.
6ـ شرح نهج البلاغة 13 /292، مناقب آل أبي طالب 2 /325.
7ـ تاريخ الإسلام 2 /291، أحكام القرآن لابن العربي 3 /546.
8ـ تاريخ بغداد 13 /19، شواهد التنزيل 2 /14.
9ـ ينابيع المودّة 1 /412.
10ـ مناقب آل أبي طالب 2 /325.
11ـ أعيان الشيعة 1 /265.