شهدت البشرية عبر تاريخها الطويل ، ومنذ أن وطأت قَدم الإنسان هذه الأرض ، حروباً عديدة ، دينيةً تارة ، وقوميةً أُخرى ، وقَبَلية ثالثةً . وليس بالضرورة أن تكون بعض تلك الحروب غير محقّة في أهدافها ، وإن خلَّفت الويلات وتركت الآثار السلبية على حركة الإنسان التصاعدية نحو النمو والرخاء والرقي فحدَّت منها .
وعصرنا الحاضر ـ عصر الآلة ـ الذي شهدت فيه الشعوب أعلى مستوى لها من العلم والتقدُّم في جميع المجالات ، سيَّما التسليحية منها ، كثُرت فيه الحروب والنزاعات ، واستُخدمت فيها أنواع أسلحة غريبة لا عهد للإنسانية بها ، لا تُبقي أخضراً ولا يابساً ، ولا إنساناً ولا حيواناً ، فقد استخدمت التقنية لهدم حياة الإنسان أكثر من استخدامها لبنائها .
وما يهمُّنا مع كتابة هذه السطور ، هو الوقوف على أخلاقيات المتحاربين أثناء الحرب والقتال ، بصرف النظر عن الدوافع والدواعي والأهداف المنظورة لهم ، علماً بأنَّ المؤسسات الدولية قد أولت الأهمية الكبرى لبعض جوانب ومخلّفات الحرب ، كالأسرى والمدنيين ، بحيث سعت لأن يكونوا بمعزل عن نتائج الحرب ومآسيها مهما كانت .
وعصرنا الحاضر قد شهد حروباً مدمِّرة ، حصدت أرواح الملايين من البشر ، ودمَّرت مدناً وقرى وحتى دولاً بالكامل . وكانت دوافع أغلب تلك الحروب تسلُّطية استعمارية بحتة ، يضاف إليها سلب الثروات الطبيعية من الشعوب ، ووضع اليد على المناطق الحسَّاسة والإستراتيجية ، كالممرَّات المائية . وقد مارس أرباب القوة والقهر ـ للوصول إلى أهدافهم ـ أبشع الجرائم وأخسّ الأساليب ، كقصف المدنيين ، وسبي النساء والأطفال ، وتعذيب الأسرى وحتى قتلهم في بعض الأحيان ، والأمثلة على ذلك عديدة ماثلة للعيان في عصرنا الحاضر : كممارسات الصرب في البوسنة ، والصهاينة في فلسطين المحتلَّة والمناطق الأخرى ، وما جرى ويجري في العراق وغيره ...
ولم يكن الحكَّام المسلمون قديماً وحديثاً أحسن حالاً من غيرهم ، إذ إنَّهم مارسوا الأساليب المذكورة نفسها ، واقترفوا الجرائم الفظيعة مع خصومهم ، وعاشوراء التاريخ وما جرى فيها ماثل للعيان ، والعهود التي توالت على رقاب المسلمين ، كالعهد الأُموي والعباسي ، وعهد بني مروان والحجاج ، أمثلة أخرى حيَّة على تراجع الفضيلة ، وانتهاك حقوق الإنسان .
ولكن الإنسانية عِبَر تاريخها وفي الوقت نفسه ، لم تُعدم وجود حكَّام شرفاء أبرار ـ وإن كانوا قلَّة ـ عاشوا الفضيلة والشرف في كل لحظة من لحظات حياتهم ، وكتبوا بأحرف من نور أروع المُثل في حروبهم التي قلَّما كانت حروباً هجومية ، من هؤلاء أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) الذي عاش حياة مظلومة ، قضاها في درء العدوان ودفع الفتن ، ومع ذلك اتبع سياسة رصينة ثابتة ، فلم يغدر ولم يفجر ، بل كان يبتغي من محاربة خصومه وأعدائه إنقاذ المغرَّر بهم من الضلالة ، وتثبيت قواعد دولته وإعادة الأمور والحق إلى النصاب الطبيعي .
قال (عليه السلام) : ( فَوَاللَّهِ ، مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ ، فَتَهْتَدِيَ بي وتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي ، وذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا ) (1) . فقد كان في حروبه كلها يكره أن يكون البادئ بالحرب ، بل كان يبادر إلى وعظ عدوه وخصمه وإرشاده ؛ مُلقياً الحجة ، ومبيّناً له فداحة النتائج ، حتى لا يتذرَّع أحد بعد وقوع الواقعة بأنَّنا لو كنا نعلم أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير !
ولا يخفى ما في مخاطبة هؤلاء من صعوبة ؛ حيث الجهل المطبق والضلال المبين ، خصوصاً في مثل تلك الظروف . قال (عليه السلام) في جملة ما أوصى به معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام : ( فَإِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً ، ولا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ ، ولا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ ، حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي ولا يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَالإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ ) (2) .
وقال (عليه السلام) مخاطباً جنده قبل لقاء العدو في صِفِّين : ( لا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ وتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ ) (3) .
ويذكر أرباب التاريخ أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما خرج لمحاربة معاوية في صِفِّين ، وكان جند معاوية قد غلبوا جند الإمام إلى شريعة الفرات ؛ بغية منع الماء عنهم حتى يموتوا عطشاً ، رفض الإمام أن يعامل العدو بالمثل بعدما أزاحه عن شريعة الماء مع قدرته على ذلك .
وهكذا لم يكن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عدوانياً في أي معركة من معاركه ؛ لأنَّه كان واثقاً من نفسه أنَّه على الحق ويقاتل من أجله ، ولذلك كان يتقدَّم نحو خصمه بقَدم ثابتة وبرباطة جأش ، لا يأبه معها للجيوش المتجمهرة التي تريد النيل منه ، والتي لا تجد حرجاً في منع الماء عنه وعن جنده ، وتتَّبع سياسة الغدر والخداع ، وتستفيد من الممارسات المشينة كملاحقة الأسرى والمدنيين والمدبرين من المعركة وإيذاء الجرحى .
وكانت الجيوش تلجأ إلى مثل تلك الأمور عند الإحساس بالهزيمة ، أو بقصد إدخال الرعب والقلق النفسي في قلوب المقاتلين للسيطرة على أرض المعركة عند بدئها .
قال (عليه السلام) : ( فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ ـ بِإِذْنِ اللَّهِ ـ فَلا تَقْتُلُوا مُدْبِراً ، ولا تُصِيبُوا مُعْوِراً ، ولا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ ) (4) .
ولم تقتصر الجرائم من قبل الأعداء على المجروحين والأسرى ، بل كانت تتعدَّى إلى النساء والأطفال والشيوخ ؛ إمعاناً في الثأر للهزيمة وإسقاطاً للمعنويات ، مع العلم أنَّ النساء ليس عليهنّ جناح حتى ولو سَبَبْنَ واعتدين ، فلا يصح الرد عليهنّ فضلاً عن المبادرة إلى إيذائهن وتعذيبهنّ ، ولقد كان العرب يعيِّرون الرجل الذي يرفع يده على المرأة ، بل يعيِّرون حتى أبناءه من بعده .
وإلى هذا أشار الإمام (عليه السلام) في الوصية الرابعة عشر ، حيث قال : ( ولا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ ؛ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى والأَنْفُسِ والْعُقُولِ ، إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ ، فَيُعَيَّرُ بِهَا وعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ ) (5) .
ولم يكن عموم المدنيِّين البعيدين عن ساحة الحرب والنزال ، بمعزلٍ عن نتائج الحرب المروعة ، بل كانت بعض الجيوش تصب جام غضبها ونقمتها عليهم لفقدها بعض المواقع ، أو لمقتل قائد من قوادها ، أو لخسارتها الحرب ، وكأنَّ الناس عليهم أن يدفعوا الضريبة رغم بُعدهم عن ساحة الحرب .
وقد لفت أمير المؤمنين (عليه السلام) نظرَ أصحابه وأهل بيته إلى خطورة هذا الأمر ، وحذّرهم من الوقوع فيه ؛ لأنَّ فيه إغضاباً لله تعالى ، وذلك عندما أُلقي القبض على عبد الرحمان بن ملجم بعد أن ضرب الإمام (عليه السلام) في محرابه .
قال (عليه السلام) : ( يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً ، تَقُولُونَ : قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . أَلا لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي ، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ ولا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلّى الله عليه وآله ) يَقُولُ : إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ ) (6) .
ختاماً أقول:
عِشتَ الحقيقة في حياتك وتسنَّمتَ ذروة المجد في زمن الانحدار ، كنت عظيماً وبعض الناس دونك أقزام تتوسَّل في رفعتها الرذيلة .
ــــــــــــــ
* تمّ تنسيق وتقويم النص في شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي.
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة : 55 .
2ـ نهج البلاغة ، من وصية له : 13 .
3ـ نهج البلاغة ، من وصية له : 14 .
4 ـ م . ن .
5 ـ م . ن .
6 ـ نهج البلاغة ، من وصية له : 47 .