لقد عاصر الإمام عليّ عليه السلام حركة الوحي الرسالي منذ بدايتها حتى انقطاعها برحيل رسول الله صلي الله عليه وآله ، وقد عُرف بمواقفه المشرّفة والتي يُحسد ويُغبط عليها في دفاعه عن الحق وأهله، عن الرسول والرسالة طيلة ثلاثة وعشرين عاماً من الجهاد المتواصل والدفاع المستميت عن حريم الإسلام المحمّدي، وقد انعكست مواقفه وإنجازاته وفضائله في آيات الذكر الحكيم ونصوص الحديث النبوي الشريف. قال ابن عباس: (قد نزلت ثلاثمائة آية في علي عليه السلام ).([1]) (وما نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو) إلاّ وعليّ أميرها وشريفه).([2])
ولكثرة ما نزل في عليّ عليه السلام من الآيات المباركة؛ خصّص جمع من المتقدمين والمتأخرين كتباً جمعت ما نزل فيه عليه السلام . ونشير هنا إلى بعض الآيات التي صرّح المحدّثون بنزولها في حقّه.
ما نقل عن ابن عباس أنه كان مع عليّ بن أبي طالب أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً، فأنزل الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).([3])
وكذلك ما ورد عن ابن عباس أيضاً من أن علي عليه السلام تصدّق بخاتمه وهو راكع، فقال النبي صلي الله عليه وآله للسائل: من أعطاك هذا الخاتم؟ قال: ذاك الراكع، فأنزل الله: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).([4])
وقد اعتبرت آية التطهير([5]) علي عليه السلام من أهل بيت الوحي المطهَّرين من كلّ رجس، واعتبرته آية المباهلة([6]) نفس النبي صلي الله عليه وآله .
وشهدت سورة الإنسان بإخلاص عليّ وأهل بيته وخشيتهم من الله، وتضمّنت الشهادة الربّانية لهم بأنّهم من أهل الجنّة.([7])
وعقد أرباب السير وغيرهم من المحدّثين فصولاً خاصّة بفضائل عليّ عليه السلام في أحاديث رسول الله صلي الله عليه وآله ، ولم تعرف الإنسانية في تأريخها الطويل رجلاً أفضل من عليّ عليه السلام بعد رسول الله صلي الله عليه وآله ، ولم يُسجّل لاحد من الفضائل ما سُجّل لعليّ بن أبي طالب, بالرغم من كلّ ما ناله عليّ عليه السلام من سبٍ وشتم على المنابر طوال حكم بني اُميّة فما تداوله مبغضوه. وهم في صدد انتقاصه حتى لم يجدوا للعيب موضعاً فيه، ومما قاله (الثاني) أنّ رسول الله صلي الله عليه وآله قال: (ما اكتسب مكتسب مثل فضل عليّ، يهدي صاحبه إلى الهدى ويردّه عن الردّى).([8])
وقيل لعليّ عليه السلام : مالك أكثر أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله حديثاً؟ فقال: (إنّي كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكتّ ابتدأني).([9])
وعن ابن عمر: (إنّ النبي صلي الله عليه وآله يوم آخى بين أصحابه, وجاء عليّ وعيناه تدمع, قال صلي الله عليه وآله لعليّ عليه السلام : (أنت أخي في الدنيا والآخرة).([10])
واعترف الخلفاء جميعاً بأن علياً أعلم الصحابة وأقضاهم، وأنّه لولا عليّ؛ لهلكوا حتى صارت مقولة (الثاني) مضرب الأمثال: (لولا عليّ؛ لهلك عمر)([11])
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال: (ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغض عليّ بن أبي طالب)([12])
ولماّ بلغ معاوية مقتل عليّ عليه السلام قال: (ذهب الفقة والعلم بموت ابن أبي طالب).([13]) وقال الشعبي: (كان عليّ بن أبي طالب في هذه الأُمّة مثل المسيح بن مريم في بني إسرائيل، أحبه قوم فكفروا في حبّه، وأبغضه قوم فكفروا في بغضه).([14])
لقد عُرف عن أميرالمؤمنين، عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أنّه أسخى الناس، وكان يتمتع بالخُلق الرفيع، الخُلق الذي يُحبّه الله تعالى، ما قال: (لا) لسائل قط.([15])
وقال صعصعة بن صوحان لعليّ بن أبي طالب عليه السلام يوم بويع: (والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنت الخلافة وما زانتك ورفعتها وما رفعتك، ولَهي إليك أحوج منها إليك)([16])
وقال المفكر (المسيحي) جورج جرداق: (إنّ عليّ بن أبي طالب من الأفذاذ النادرين، إذا عرفتهم على حقيقتهم بعيداً عن الصعيد التقليدي عرفت أنّ محور عظمتهم إنّما هو الإيمان المطلق بكرامة الإنسان وحقّه المقدس في الحياة الحرّة الشريفة، وبأنّ هذا الإنسان منظور أبداً، وبأن الجمود والتقهقر والتوقف عند حالٍ من أحوال الماضي أو الحاضر ليست إلاّ نذير الموت ودليل الفناء). ([17])
وبقدر ما بقي عليّ رمزاً وقيادةً عمليةً معاً، ملتزماً مع جيل الصحابة الكبار بالمفهوم الأوّل للإسلام كهداية وتضحية من أجل إصلاح العالم ودفعه إلى طريق الحقّ والعدل، أي بمفهوم الدين كثورة دائمة ومستمرّة. كان معاوية يبرز من خلال صراعه مع عليّ... ممثلاً لجيل المسلمين الجديد الذي وضعته الفتوحات في قمّة السلطة من جهة، وفرضت عليه أن يرى الاُمور أيضاً من وجهة نظر الحفاظ على المكتسبات المادية... وفي مثل هذه المواجهة العنيدة القاسية الممزقة المدمّرة فقط كان معاوية يستطيع أن يولّد المشاعر الدنيويّة القويّة ويمزّق وحدة المسلمين ويشقّ وعيهم، وينتزع للسياسة السلطانية والدولة في مواجهة الروح الرسالية والثورية أرضاً جديدة من أملاك الدين الشامل.
يقول المؤرخ هاشم معروف الحسيني: (لقد كان الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام حدثاً تأريخياً غريباً عن طباع الناس وعاداتهم منذ الولادة وحتى النفس الأخير من حياته، فقد أطلّ على هذه الدنيا من الكعبة... فكانت ولادته في ذلك المكان حدثاً تأريخياً لم يكن لأحدٍ قبله ولم يحدث لأحدٍ بعده، وكما دخل في هذه الدنيا من بيت الله فقد خرج منها حين أقبل عليه الموت من بيت الله... وقال: ولم يحدث لإنسان غيره ما حدث له، فقد وضعه من لا يؤمنون به إيمان شيعته ومحبيّه في طليعة قادة الفكر وعباقرة العصور، ووصفه المعتدلون من محبّيه إلى جانب الأنبياء والمرسلين، والمغالون فهم في مستوى الآلهية).([18])
نعم، لنا في حياة أمير المؤمنين معين لا ينضب من الخبرة والعبرة والأمان والأمل. فهو القّمة التي نتطلّع بشوقٍ إليها ولهفة، والمنارة التي تكشّح([19]) الدياجير([20]) من أمام أرجلنا وأبصارنا.
وهو الذي يجدّد ثقتنا بأنفسنا وبالحياة وأهدافها البعيدة السعيدة. ولولاه لتولاّنا القنوط واليأس في كفاحنا مع المجهول، ولرفعنا الأعلام البيض من زمان وقلنا للموت: نحن أسراك وعبيدك يا موت. فافعل بنا ما تشاء.
إلاّ إننا ما استسلمنا يوماً للقنوط، ولن نستسلم. فالنصر والعزّة لنا بشهادة الذين انتصروا منّا. عليّ بن أبي طالب عليه السلام معنا في كل حينٍ، فلا الزمان بقادر ان يخنق صوته في آذاننا, ولا المكان بماحٍ صورته من أذهاننا.
فبطولات عليٍّ ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب, فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمّو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، حتى قال عليه السلام : (كونا للظالم خصماً وللمظلوم عون)[21]. وتعبُّده للحق أينما تجلّى له الحق. وهذه البطولات والمكرمات ومهما تقادم بها العهد لازالت وستبقى مقلعاً غنياً نعود إليه اليوم وفي كل يوم كلمّا اشتدّ بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة، فاضلة.
فسلام عليك يا أميرالمؤمنين يوم ولدت ويوم جاهدت وكافحت، ويوم أسست وبنيت، ويوم ضحيّت بنفسك فمضيت إلى ربك وأنت على بصيرة من أمرك، السلام عليك سيدي ومولاي، وشافعي ومقتداي راجياً شفاعتك يوم حشري، يوم لا ظلّ إلا ظلّه. والحمد لله أولاً وآخراً.
[1]ـ الفتوحات الإسلامية: ج2,ص516.
[2]ـ كشف الغمة، الأربلي: ج2، ص107 تحقيق: علي الفاضلي.
[3]ـ البقرة: 274، وراجع: يناييع المودّة: ص92.
[4]ـ راجع: تفسير الطبري: ج6,ص165. في تفسير آية 55 من سورة المائدة.
[5]ـ راجع: تفسير البغوي, في تفسير آية 33 في سورة الأحزاب, ج2 ص47.
[6]ـ آل عمران: 61، صحيح الترمذي: 2ج ص300.
[7]ـ راجع: تفسير الرازي, ج30, ص244 نقلاً عن الكشفاف للزمخشري.
[8]ـ الرياض النضرة، الطبري: ج1 ص166.
[9]ـ حلية الأولياء: ج1 ص68.
[10]ـ سُنن الترمذي: ج5 ص595 ح3720.
[11]ـ تذكرة الخواص: ص87.
[12]ـ أعلام الهداية (الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ): ص25.
[13]ـ المصدر نفسه.
[14]ـ العقد الفريد: ج2 ص216.
1ـ شرح نهج البلاغة: ج1 ص7.
[16] ـ تاريخ اليعقوبي: ج2 ص179, وينابيع المودة: ج3 ص145.
[17]ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية: ج1ص14.
[18]ـ سيرة الأئمة الاثني عشر: ج1ص141ـ 142.
[19]ـ يكشحهم أي: يطردُهم. تهذيب اللغة، ج4، مادة كشح.
[20]ـ الدَّيجورُ: التُّرابُ نفسهُ، والجميعُ: الدّياجرُ. المصدر نفسه ج10، مادة دجر.
[21]ـ نهج البلاغة, ج3, ص76, تحقيق محمد عبده, وشرح ابن ابي الحديد, ج17, ص5, تحقيق: محمد أبو الفظل ابراهيم.