قال الامام عـلي عـليه السـلام: «فلا يكن افضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة او شفاء غيظ، ولكن اطفاء بـاطل او احياء حق».
الحق يعني: الامر الثابت الصحيح. ويقابله الباطل اي: الشيء الخطأ غـير الثابت الوجود.
وبهذا فالحق اطـار شامل يتسع لكل قضايا الحياة الفكرية والعلمية. فهناك فكرة حق وفكرة باطل، وكلمة حق وكلمة باطل، وعمل حق وعمل باطل، وموقف حق وموقف باطل.
فالفكرة التي تتوافق مع الواقع هي فـكرة حق، والكلمة التي تحكي الواقع هي كلمة حق والعمل الذي ينبثق من الواقع هو عمل حق، و الموقف الذي يفرضه واقع الامر هو موقف حق.
ويعبر الامام عن شمولية الحق بقوله: «حق وباطل ولكـل اهـل».
وعلى الانسان ان يتبع الحق في كل شيء فكريا وعمليا، فلا يسمح لنفسه باعتناق الفكرة الباطلة او التفوه بالكلمة الباطلة او ممارسة العمل الباطل.. لأنه حينئذ يخدع نفسه ويضلها ويظلمها… ولأنه سـيصطدم بالأمر الواقع الثابت فالكفار حينما خدعوا أنفسهم واعتقدوا بعدم وجود بعث وحساب وعقاب، لم تغير عقيدتهم الباطلة واقع الحق، بل وجدوا انفسهم فجأة امام الامر الواقع ولم يسعهم حينئذ الا الخضوع والاعتراف ولكـن بـعد فوات الاوان. يقول القرآن الحكيم: {و يوم يعرض الذين كفروا على النار اليس هذا بالحق؟قالوا:بلى وربنا. قال:فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}. (الاحقاف/34)
و الغربيون اسـتمروا فـترة طويلة وهم يعارضون تطبيق حكم الاعدام على القاتل، ظانين ان في السجن المؤبد عقوبة رادعة تكفي عن الاعدام القاسي، ولكـنهم اخـيرا اسـتسلموا امام الواقع وثبت لديهم ان في القصاص حياة، و ان القتل انفى للقـتل، و من جديد ارتفعت في الغرب نداءات الرجوع الى حكم الواقع، و نفذ اول حكم بالإعدام على القاتل من فترة قريبة.
وفـي هـذا المجال يقول الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة: «من صـارع الحـق صرعه». «من ابدى صفحته للحق هلك». «وانه لن يغنيك عن الحق شيء ابدا».
ما هو مقياس الحـق!
لعـل اكـثر الناس يرغبون في اتباع الحق ويحبون الالتزام به، و لكن المشكلة تمكن فـي طـريقة التـعرف على الحق وتشخيص مواقفه.
فالكثرة الغالبة من الناس تستعمل مقاييس خاطئة للتوصل الى الحق، فـتوصلهم الى البـاطل بـينما يعتقدون في انفسهم انهم على الحق وانهم يجسدون مواقفه، و هؤلاء يصفهم القرآن بأنهم أفـشل النـاس وأخسرهم اعمالا. يقول تعالى:{قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم فـي الحـياة الدنـيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا}. (الكهف/104)
و حينما يتحدث الامام علي عن مشكلة الخوارج يـشخصها بخطئهم في استعمال المقاييس الموصلة الى الحق رغم محبتهم لاتباع الحق يقول عليه السـلام: «لا تـقاتلوا الخـوارج بعدي فليس من طلب الحق فاخطأه كمن طلب الباطل فادركه».
و الآن ما هو مقياس الحق عند الامـام علي؟.
هـل المقياس كثرة الاصوات والاتباع؟كما يظن اكثر الناس حيث يستدلون باتجاه غالبية الناس ومـيلهم الى امـر مـا على احقية ذلك الامر.
ان القرآن الكريم يرفض هذا المقياس ويقول: {و اكثرهم للحق كارهون}. {و ما اكثر النـاس ولو حـرصت بـمؤمنين}. {ان تتبع اكثر من في الارض يضلوك}.
و يقول الامام علي: «لا تستوحشوا في طريق الهـدى لقلة اهله».
و في كلماته التي ودع بها اباذر الغفاري يقول عليه السلام: «لا يوحشنك الاّ الباطل ولا يؤنسنك الا الحق».
و هـل المـقياس هو رأي شخصيات المجتمع وكبار القوم؟
فاذا اردنا ان نعرف موقف الحق في قضية مـا فـعلينا ان نرجع الى كبار الجماعة وشخصيات الامة، و رأيـهم حـينئذ هـو الحق الاكيد؟!.
ان هذا المقياس هو الآخر خاطىء، لاحـتمال جـهل هؤلاء الشخصيات بموقف الحق او انحرافهم عنه، فيقودنا اتباعهم الى جحيم الضلال والعذاب ويجسد القـرآن لنـا هذه الحقيقة بقوله تعالى: {يـوم تـقلب وجوههم فـي النـار يـقولون يا ليتنا اطعنا الرسولا. و قالوا ربـنا انـا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا}. (الاحزاب/66-67)
و قد عانى الامام علي نفسه مـن هـذه المشكلة في صراعه مع طلحة والزبـير وعائشة والذين كـانوا يـمثلون كبار الامة وشخصياتها ولكن مـوقفهم لم يـكن مطابقا للحق، و رغم ذلك فقد انخدع بهم كثير من الناس وشكك آخرون، لانـهم لم يـملكوا المقياس الواقعي للحق، بل اعـتبروا هـؤلاء مـقياسا لمعرفة الحق.
فـي نـهج البلاغة ان الحارث بـن حـوط جاء الى الامام علي عليه السلام قائلا: اتراني اظن اصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟فقال الامام: «يـا حـارث انك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فـحرت. انـك لم تعرف الحـق فـتعرف مـن اتاه ولم تعرف الباطل فـتعرف من اتاه».
فهل المقياس اذا سيرة الآباء والاجداد؟حيث يقلد الشاب آباءه ويسير على طريقتهم كما هو حـال اكـثرية الناس فاذا ولد من ابوين مسلمين اصـبح مـسلما، أو يهوديين أصبح يهوديا أو مسيحيا أو سيخيا.
إن هذا المقياس هو مقياس تافه يعطل لدى الانسان تـفكيره وحـريته. و لقـد ندد القرآن بهذا النوع من التقليد الأعـمى، وسـخر مـن أتـباعه الذيـن يـقولون: {انا وجدنا اباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون}.
و هذا الامام علي بن ابي طالب عليه السلام في نهج البلاغة يذكرنا بأن الطليعة المؤمنة في صدر الاسـلام ليس فقط خالفت آراء آبائها وانما كافحت وناضلت ضدها يقول: «ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وابناءنا واخواننا واعمامنا ما يزيدنا ذلك الا إيمانا وتسليما».
و اذا لم يكن مقياس الحق هو رأي الاكثرية، و لا مـوقف الشـخصيات ولا سيرة الآباء والاجداد فما هو المقياس اذا؟
ان مقياس الحق شيئين الاول: العقل
والذي منحه الله للانسان حتى يفكر به ويهتدي بضوئه الى طريق الحق، و لذلك حث القرآن الكريم الناس على استعمال عقولهم والتـفكير بـها للوصول الى الحق.
فيقول للمشككين في صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله: {قل انما اعظكم بواحدة ان تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا في أنفسهم ما خـلق الله السـماوات والارض وما بينهما الا بالحق واجل مـسمى}.
الثـاني: الوحي
و هل يوحي الله لعباده غير الحق او يأمرهم بالباطل؟
انه لا ينبغي للانسان ان يشك في ان امر الدين ورأيه هو الحق الصحيح الذي لا جدال فيه يقول تعالى: {الحق مـن ربـك فلا تكونن من المـمترين}.
و في آية اخرى يقول:{يا ايها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم}.
و في نهج البلاغة يكثر الامام ويكرر وصف النبي صلى الله عليه وآله بالهداية الى الحق وبان الهدف من بعثته هو تبيين الحـق للنـاس.
يقول عليه السلام: «ان الله بعث محمدا بالحق حين دنا من الدنيا الانقطاع واقبل من الآخرة الاطلاع».
وقال عليه السلام: «وأرسله بأمره صادعا، و يذكره ناطقا فأدى امينا، و مضى رشيدا وخلف فينا راية الحـق».
البـحث عن الحـق واتباعه
فيجب على الانسان ان يفتش عن الحق ويبحث عنه ازاء اي قضية او امر مستخدما المقياس الصحيح للتعرف عـلى الحق، ولو كلّفه ذلك جهودا وعناء، يقول الامام عليه السلام: «و خض الغمرات للحـق حـيث كـان».
ففي بعض الاحيان يغلف الباطل بغلاف الحق، و يلبس مسوحه، و هو ما نعاني منه في وقتنا الحاضر حـيث تـرتفع شعارات الحق بمختلف العناوين والمظاهر كشعار الوحدة والحرية والعدالة والتقدم، و لا شك ان هدف هـذه الشـعارات بـذاتها هدف حق ولكن من يرفعها انما يستغلها من اجل الباطل. فعلى الانسان ان يكون ذكيا واعـيا لا تخدعه الشعارات ولا تغره المظاهر.
و يلفتنا الامام الى هذه الحقيقة الهامة (استغلال الشعارات) حينما سـمع شعار الخوارج: لا حكم الا لله. وهـل يـوجد مسلم يعترض على هذا الشعار او يناقش فيه. لذا قال الامام: «كلمه حق يراد بها باطل».
و الاخطر من ذلك ان يمزج الحق بشيء من الباطل، او تطعم قضية باطلة بشيء من الحق، فهنالك يـسهل الانخداع ويمكن التضليل الا للواعي الذي يستطيع ان يشرح القضية ويكشّف الباطل فيها.
فمثلا: رياضة الجسم وتقوية عضلات امر حق، و لكن صرف هذا المقدار الطائل من الاوقات والجهود والاهتمام بالرياضة وبالشكل المعروف حاليا هذا امر بـاطل. و لكـنهما امران ممتزجان ولذلك امكن استقطاب الناس وانخداعهم.
و قد نبه الامام عليه السلام الى هذه الظاهــــــرة الخطيـــــرة بقوله:((فلو ان الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، و لو ان الحق خلص من لبس البـاطل انـقطعت عنه السن المعاندين، و لكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان، فهناك يستولي الشيطان على اوليائه وينجو {الذين سبقت لهم من الله الحسنى}.
و يقال ايضا: (و انما سميت الشـبهة شـبهة لأنها تشبه الحق).
فاذا عرف الانسان الحق، وجب عليه اتباعه والتزام موقفه، و ان كان ذلك يتعارض مع مصالحه واهوائه. وهنا تكمن مشكلة الحق في انه يتعارض غالبا مع انانية الانـسان واهـوائه، مـما يجعل الانسان يفارق موقف الحـق ويـتبع البـاطل إشباعا لشهواته وغرائزه.
يقول الامام علي عليه السلام: «ان الحق ثقيل مريء وان الباطل خفيف وبيء».
و يقول ايضا: «ان افضل الناس عند الله مـن كـان العـمل بالحق احب اليه وان نقصه وكرثه، من الباطل وان جـر اليـه فائدة وزاده».
مسؤوليتنا تجاه الحق
نستخلص مما سبق ان مسؤوليتنا تجاه الحق تتلخص في النقاط التالية:
1-البحث عن الحق”و خـوض الغـمرات للحـق حيث كان”
2-اتباع الحق «ان افضل الناس عند الله من كان العـمل بالحق أحب اليه. ..».
3-الوقوف الى جانب الحق وفي جبهته، فلا يصح للانسان ان يقف موقف المتفرج من صراع الحق والبـاطل. بـل يـجب عليه ان يدخل المعرفة الى جانب الحق. و الا تحمل مسؤولية خذلان الحق وانهزامه. يـقول”عـليه السلام”في الذين اعتزلوا القتال معه ضد الباطل: خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل:
و اذا انتصر الباطل فهل سـيسلم المـتفرجون مـنه، و هل سيتركهم الباطل يمارسون الحق بحريتهم؟كلا. يقول الامام: «لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، و لم تـهنوا عـن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، و لم يقوَ من قوي عليكم».
4-العمل مـن اجـل الحـق حيث يكرس الانسان حياته من اجل احقاق الحق ومقاومة الباطل. يقول الامام:”فلا يـكن افـضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة او شفاء غيظ ولكن اطفاء باطل او احـياء حـق”.
و مـا الشهادة والمنصب والامتيازات الا وسائل تعين الفرد على تحقيق اهداف الحق. اما اذا تحولت هذه الوسـائل الى اهـداف بحد ذاتها فقد خسر الانسان حياته.
قال عبد الله بن عباس دخلت على امـير المـؤمنين بـذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: «ما قيمة هذا النعل؟»، فقلت: «لا قيمة لها! فقال لي: «و الله لهي احب إلي من امـرتكم الا ان اقـيم حقا او ادفع باطلا».