الحملات الصليبية
جاك ريسلر
ليس في الإمكان الكلام على الحضارة العربية دون الحملات الصليبية وأثرها في المرحلة التي وقعت فيها.
أسبابها:
منذ أكثر من 400 سنة, كانت المسيحية تتراجع أمام الإسلام الذي كان يتقدم بقوّة في آسيا وإفريقيا، في صقلية وإسبانيا. ومن النّافل القول إنَّ المشروع الهائل للحملات الصليبية كان في المقام الأول ردَّ أوروبا المسيحية على آسيا الإسلامية، حيث كان ضريح المسيح.
ومنذ عدّة قرون، كان الحجّ إلى الأماكن المقدسة يمثّل في نظر نصارى العصر الوسيط قيمةً رفيعة. كان ميشليه يختصر تلك القيمة بقوله: (طوبى لمن يعود) والأكثر طوباوية هو الذي كان يمكنه القول، وفق عبارةٍ جريئة لشخصٍ معاصر: (أيها الربّ لقد متّ لأجلي، وأنا أموت لأجلك). زدّ على ذلك أنّ الحجاج كانوا يذهبون إلى الحج جماعاتٍ، جماعات.
إنّ تدمير خليفة فاطمي، سنة 1009, لكنيسة الضريح الأقدس، يبدو السبب الحاسم للحملات الصليبية.
في الواقع, من المفيد التذكير بأنّ النصارى, حتى في المرحلة التي كان العرب يستقبلون فيها الحجيج أحسن استقبال _ وهذه كانت قاعدتهم بوجهٍ عام _ إنما كانوا يستاؤون لمجرَّد كون الأماكن المقدسة في أيدي الكافرين. بيد أنَّ فكرة الحملات الصليبية ربما لم تفرض نفسها بشكلٍ حاسم، لو لم يكن هناك أسبابٌ أعمق، سياسية ودينية، وحتى دنيوية بالذات. ومهما يكن الأمر, فإنّ الإسلام الذي لم يعد يشكّل أي خطر منذ تفككه, عاد إلى الواجهة مجدداً وصار فجأة يمثّل خطراً على البلاد المسيحية, اعتباراً من القرن الحادي عشر, بعدما قام الأتراك بتجميع المسلمين حول الإسلام. وكان يبدو أنّ الجهاد قد استؤنف في كلّ مكان تقريباً. ففي المشرق، استولى السلجوقيون على بيت المقدس سنة 1078, وعلى إنطاكية سنة 1085. وفي أسبانيا، أحرز المرابطون سنة 1086 انتصار الزلاَّقة على الجيش المسيحي. كما أنّ الإمبراطور اليوناني ألكسيس عندما رأى من القسطنطينية سنة 1093 خيام جند سليمان المعسكرين على شاطئ البوسفور المقابل, بادر إلى إرسال وفود إلى مجمع بليزانس (Plaisance), للمطالبة بدعم المسيحيين الغربيين لمواجهة الأتراك. ورأت البلاد المسيحية أنّ الوقت قد آن للتخلص من ذلك الوضع.
و لربّما رأى البابا في ذلك الأمر فرصةً سانحةً لإعادة توحيد الكنيستين اليونانية (الرومية الأرثوذكسية) والرومانية، المنفصلتين منذ 40 سنة. ومن الممكن أن يكون قد رأى في الحملات الصليبية وسيلةً لوقف حروب العصابات المتواصلة التي كانت تقسم الأمراء الإقطاعيين. وذلك من خلال توجيه حماسهم الحربي نحو عمل ديني؟ كان أوربان الثاني يقول: (لا تكاد الأرض التي تسكنونها توفر الغذاء الكافي لأولئك الذين يزرعونها، ولهذا فإنكم تتذابحون. اسلكوا طريق الضريح الأقدس... وستكون ممالك آسيا من نصيبكم).
من الواضح تماماً أنّ فرسان العصر الوسيط الأجلاف لم يكونوا مدفوعين فقط بدوافع روحية. فالانتصارات التي كان النورمانديون قد أحرزوها سنة1091 على العرب في صقلية، كانت قد حضَّت المسيحيين على العمل. وكان هناك دوافع أخرى لا تقلُّ أهمية عن ذلك. فإذا كان بعض الأمراء الإقطاعيين لا يزالون يبحثون عن مغامرة مجيدة ومُفيدة، فإنّ الناس المساكين رأوا فيها دواءً لبؤسهم أكثر مما رأوها تضحية. ومع ذلك لا يستطيع أحدٌ الإنكار أنَّ الدافع الأكبر للحملات الصليبية كان بوجهٍ عام التقوى الصادقة, وأنَّ الحافز الأساسي كان (تحرير قبر المسيح)
توالت تسع حملات صليبية على فتراتٍ متقطعة ما بين 1096 و1291. وإنّ تجمّع ذلك العدد الغفير من الصليبيين _ الذين قُدّر عددهم بحوالي 700000 _, والدلالة التي يرتديها العدد الضئيل نسبياً للمسلمين الذين ساهموا فيها, والدروب التي سلكتها الأرهاط والجماعات المتداخلة، وما كانوا يعانون من آلامِ وتعاسات على تلك الدروب, لا مجال لإعادة رسمها هنا. فالصراع يتضّمن في خطوطه العريضة مرحلة غزوات الصليبين التي دامت 50 سنة أيضاً. والمرحلة الثالثة التي تشمل القرن الثالث عشر, تكوَّنت من تعاقبات النصر والهزيمة لكل من الفريقين المتحاربين, وانتهت أخيراً بطرد الصليبين الذين اضطروا للجلاء نهائياً عن الأرض المقدسة.