مقدمة في الوعي التاريخي
وشروط قراءة التاريخ
الأستاذ صائب عبد الحميد
لم يرق مفهوم "التاريخ" عند أكثرنا عن رواية في هذا الكتاب أو ذاك تتحدّث عن زمنٍ
مضى... وليس ثمّة معنىً لـ"فهم التاريخ" و "وعي التاريخ" نثيره سؤالاً، أو مداراً
لبحث، فليس التاريخ ـ وفق التصوّر الغالب لدى غير أهله ـ سوى معرفة يتفاوت فيها
الناس تبعاً لعاملين فقط، هما: سعة الإطلاع، وقوّة الحافظة.
ووفق هذا التصوّر لا يعدو التاريخ أن يكون عبارة عن طبقات متراكمة، بعضها فوق بعض،
يمكن تمييزها جيداً بحدود فاصلة، كالتي نراها بين طبقات البناء، أو رفوف المكتبة،
وإنما تختلف هذه الطبقات في أبعادها الثلاثة بحسب الامتداد الزمني وتعدد الأحداث
السياسية الهامّة... طبقات متراكمة هامدة، لا روح فيها.
غير أن نفراً من أهل المعرفة بالتاريخ تنبّهوا إلى أنَّ حوادث التاريخ شأنها شأن
حوادث الطبيعة، التي لم توُلد من العدم، بل إن لكل حادث سبباً، فأحداث التاريخ هي
الأخرى لها أسباب، فبأيّ منطق نعزل الحدث عن سببه، وننظر إليه فرداً مستقلاً هبط من
السماء لا والد له ولا ولد؟
إذن ثمّة روح تسري في عمق التاريخ، تدعونا إلى معرفة "السبب" في كل حادث من
حوادثه... فأصبح لـ "وعي التاريخ" معنىً، يتحدّد في أن الحدث التاريخي لا يُقرأ
بمعزل عن سببه، ومعرفة السبب هي التي تفسِّر لنا هذا الحدث.
وبقي هذا التصوّر يمثّل النمط الأمثل لـ "وعي التاريخ" وقراءته إلى زمنٍ متأخر، بل
لا يزال هو الغالب الشائع في أوساطنا الثقافية حتى يومنا هذا، إلا لدى النفر القليل
ممَّن تخصّص في التاريخ أو تعمّق فيه.
لقد اكتشف هذا الصنف الأخير أن الحديث عن "السبب" لا يمثِّل إلا الحدّ الأدنى من
"وعي التاريخ". ذلك أن للحدث التاريخي ـ مهما كان صغيراً ـ عناصر، يدخل فيها المكان
والزمان وسائر المعادلات الاجتماعية والنفسية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وأن
كل هذه العناصر تجتمع في صناعة الحدث التاريخي، وحتى حين يتغلّب بعضُ هذه العناصر
ليصبغ الحدث بصبغته، فهو لا يلغي وجود العناصر الأخرى على أي حال، من هنا انبعث
الحديث عن "الأسباب" وليس "السبب" في فهم الحدث التاريخي وتفسيره... فامتدت الروح
في أعماق التاريخ وآفاقه، واختفى أثر الطبقات ليبدو التاريخ حركة متواصلة، لا معنى
للبحث عن حدود فاصلة بين أدوارها.
ومن خلال النظرة الفاحصة في مدوّنات مؤرّخينا المؤسسين، فنادراً ما نجد ملامح لهذا
الفهم، إذ تتراكم فيها الأحداث أشلاء ممزّقة، لا يربطها جسد واحد، ناهيك عن وجود
الروح فيها، بل أسهم أصحاب الحوليات في تهشيم الحدث الواحد منها حتى لتجد نفسك تركض
وراء أجزائه تحاول جمعها... من هنا تبرز قيمة السبق الإبداعي الذي ظهر في منهج جديد
يقوم على توحيد صورة الحدث التاريخي وربط أعضائه ببعضها، ذلك الذي سبق إليه
اليعقوبي –المتوفّى حدود سنة 294هـ، والذي انتهى من كتابة تاريخه سنة 256هـ، ليستحق
به لقب "المؤرخ الفاتح" في عصره، وعليه مضى أبو حنيفة الدينوري (281هـ) في "الأخبار
الطوال".
ولكن بدلاً من أن يشكّل هذا المنهج الجديد وعياً تاريخياً عاماً، عاد الطبري
(310هـ) إلى تهشيم الحدث التاريخي بمبضع السنين، في تاريخه الحولي الجامع الذي مضى
عليه سائر المؤرخين من بعده، وحتى ابن خلدون نفسه، مع ما وضعه في مقدّمته من قوانين
بالغة الأهميّة في وعي التاريخ وتفسيره.
والمرحلة الأكثر تقدّماً في وعي التاريخ نلمسها بدءاً من المسعودي(354هـ) في مروج
الذهب وحتى في التنبيه والإشراف رغم إيجازه الشديد، متمثّل في تعمّق مفهوم النقد
التاريخي، والعناية بالسبب والتحليل والمقارنة... ثم جاء الفتح الجديد على يد
مسكويه(421هـ) في تجارب الأمم الذي عبّر فيه بوضوح تام عن أن التاريخ حركة متصلة،
وليس طبقات متراكمة، فكان بمثابة البداية لأعلى درجات الوعي التاريخي، بداية تجد
الإبداع يتجلّى حتى في عنوانها المنتخب تجارب الأمم.
لكنّا مع كل هذا التقدم مازلنا نعيش حدود السبب الواحد، المباشر، كما هو ظاهر جداً
عند ابن الأثير(630هـ) في "الكامل في التاريخ"، ولم نقف على بُعدين آخرين
–الاجتماعي والاقتصادي- بشكل واضح ومفهوم إلاّ عند ابن خلدون(808هـ).
ومن ناحية أخرى كان "النقد التاريخي" على صعيدي النص والمصدر يتقدّم أيضاً ولكن
بنحو أسرع ونضجٍ أكبر، فمنذ بدء التدوين التاريخي كان لنقد الإسناد أثره الكبير في
قبول الرواية التاريخية وردّها، ذلك أن المؤرخين الأوائل قد تعاملوا مع التاريخ
تعاملهم مع الحديث، وبقي الإسناد عنصراً ثابتاً في أعمال المؤرخين حتّى الواقدي
(207هـ) وغيره، وإن انقطع هذا الفن عند اليعقوبي –الذي اكتفى بذكر مصادره في
مقدمته- فإنه عاد بشكل واضح عند الطبري.
فلما حُفظت الأسانيد في مصادرها صار المؤرخون يستغنون عنها اكتفاء بذكر المصدر،
طلباً للسهولة... وكذا مع فقد المصادر، إذ لا تكاد تجد مؤرخاً لا يعرّج على نقد
مصادر التاريخ قبل الشروع في تاريخه، وفي مطاوي عمله أيضاً، وربما تكون مقدّمة
المسعودي، ثمّ رؤاه النقدية لمصادره في بطون كتابيه من أكثر الشواهد المتقدّمة على
ذلك... كما ترقّى المسعودي إلى نقد المتون مستفيداً من معرفة عنصر فائق الأهمية،
ألا وهو "العوامل المؤثِّرة في تدوين التاريخ" من عوامل سياسية وقومية وقبلية
ومذهبية وذاتية، تلك التي شخصها ابن خلدون فيما بعد تحت عنوان "الدوافع نحو الكذب
في التاريخ".
ومن هذين البُعدين: العناصر المساهمة في صنع الحدث، والعوامل المؤثّرة في التدوين،
يُشكِّل الوعي التاريخي بمعناه الكامل.
ومن هنا ندّعي أن المقدِّمة الأولى في قراءة التاريخ والإفادة منه هي التوفّر على
العلم الحقيقي بهذين البعدين معاً، أو على الأقل المعرفة الواضحة بهما معاً. علماً
أن مجرّد المعرفة إنما يفيد في إمكان القراءة الواعية، لكنه لا يكفي لتحقق الإفادة
الصحيحة من التاريخ.
فالمعرفة الواضحة بذينك البُعدين تعيننا على تشخيص عدّة أمور أساسية، منها:
1. منهج المؤرِّخ.
2. أسلوبه في التعامل مع الرواية التاريخية.
3. مدى نجاحه في الوصول إلى الرواية الصحيحة أو الأقرب إلى الصحّة.
4. الضوابط التي اعتمدها في الانتخاب والنقد والتحليل.
5. الوقوف على مثل هذه الأمور سيُمكننا من إجراء دراسة مقارنة بين المصادر
التاريخية من أجل التحقيق في الحدث التاريخي الواحد وصولاً إلى صورته الأكمل
وصياغته الأصدق.
6. اكتشاف الأسباب الحقيقية للحدث، أيْ العناصر المختلفة التي أسهمت في صناعته، مع
المعرفة التقريبية بنسبة الأثر الذي يمثّله كل واحدٍ من هذه العناصر.
ومن هنا سنقف على تاريخ متحرّك، ذي صور واضحة ومعالم شاخصة، مما لا يمكن تحقيقه دون
التوفّر على المعرفة الواضحة بالعناصر المسهمة في صناعة الحدث: (جغرافية، وزمانيّة،
واجتماعية، ونفسية، وسياسية، واقتصادية). ثمَّ العوامل المؤثّرة في تدوين التاريخ،
إيجاباً أو سلباً.
أمّا العلم الحقيقي بذينك البّعدين فهو العلم بكل ما يتعلّق بأركانهما من تفاصيل،
وبطرق الاستفادة منها في قراءة ونقد وتحليل وتفسير التاريخ، ثمَّ في الإفادة منه
لبناء الحاضر والتأسيس للمستقبل.
القراءة الناقصة للتاريخ
قُلنا الناقصة ويصحُّ أن يقال: "الخاطئة"
أيضاً، لأننا أردنا بها القراءة التي لا تتمخَّض عن نتائج صحيحة ومفيدة، وهي هذه
القراءات العاديّة التي يمارسها جمهور الناس وكثيرٌ من مثقفيهم، بل كثير من علمائهم
ومفكريهم حتّى حين لا يكون لديهم في وعي التاريخ قدمٌ راسخ وباعٌ طويل.
وإمعاناً في التركيز نستطيع أن نحصر مصادر القراءة الناقصة هذه بما يأتي:
1. الافتقار إلى الوعي التاريخي، أو المعرفة الواضحة التي تقدَّم تحديد معناها
وأبعادها.
2. الإصابة بذات العوامل التي تؤثِّر سلباً في تدوين التاريخ، فذات العناصر التي قد
يقع المؤرّخ تحت تأثيرها وهو يزاول عمله في التدوين. من عوامل ذاتية، أو إقليمية أو
طبقية، أو سياسية، أو قبلية، أو مذهبية، قد يقع القارئ أيضاً تحت تأثيرها.
وأكثر ما يظهر هذا في القراءة الانتقائية الغالبة لدى جمهور قرّاء التاريخ في سائر
الأمم. فكلُّ يتمسَّك بما يسند آراءه المسبقة، بغض النظر عن صدقه أو إمكان تحققه،
فيما يردّ على الفور كلَّ ما خالف آراءه المسبقة، حتى ولو كان مُحاطاً بكل دواعي
القبول، من إسناد وسياق ومطابقة وقرائن متقدِّمة ولاحقة، بل قد تراه يبذل جهداً
استثنائياً في تفنيده مرتكباً في ذلك أخطاءً شنيعة، ومغالطات بشعة.
فكما أن هذه الظاهرة هي أسوأ آفات التدوين، فهي أسوأ بالقراءة بالقوّة ذاتها.
3. من آثار النقطتين السابقتين: التوقّف عند مصدر واحد، أو نوع واحد من أنواع
المصادر التاريخية، واعتماده كليّاً على أنه يمثّل الحقيقة التاريخية التي لا غُبار
عليها.
والحال أنَّ الحدث التاريخي كما يدوّنه المؤرخ المنتمي إلى فصيلة اجتماعية أو
سياسية أو مذهبية معيّنة، فقد يدوّنه آخرون ينتمي كلٌّ منهم إلى فصيلة أخرى. وكما
يُعنى به المؤرّخ، فقد يُعنى به المحدِّث والشاعر والأديب، فالمتتبع يجد في تراث
المحدِّثين والشعراء والأدباء من الثروة التاريخية ما لا يمكن الاستغناء عنه بحال.
4. ما سنذكره في هذه النقطة هو رأي خاصّ كشفته لنا المتابعات، وخلاصته: إن من مصادر
الخطأ في قراءة التاريخ الوثوق بنُقول المتكلّمين وأهل الجدل العقيدي أو السياسي،
فالذي يفيده التتبع في آثارهم هو أنهم يوجِّهون الأحداث بما يقتضيه ميزان الكلام
والجدل لديهم لغرض الانتصار على الخصم دائماً، وغالباً ما يجرُّ هذا إلى تعمّد
مجانبة الدقة والأمانة في نقل الحدث أو النَّص التاريخي، ونستطيع أن نقدِّم على ذلك
عشرات الأدلة من مختلف طبقات المتكلّمين وفصائلهم، بل إلى هذا المصدر ـ بالدرجة
الأولىـ ترجع الكثير من الرؤى التاريخية الخاطئة أو القاصرة والتي مثَّلت اتجاهات
عريضة في قراءة ونقد التاريخ.
نكتفي بهذا القدر، راجين أن نوفَّق في فُرص لاحقة إلى ما هو أكثر تفصيلاً، وبالله
المستعان وهو وليّ التوفيق.