لم أحب إنساناً كحبي للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فلقد امتزج حبه بعظمي ولحمي ودمي، وبشري وكل خلية من خلايا جسمي.
وقد انعكس هذا الحب تفاعلاً مع حياته الشريفة.. فكنت أتتبع كل شيء عن حياته.. وأصغي إلى كل كلمة من كلماته.. وأترقب حركاته وسكناته.. ونومه ويقظته.. وقيامه وقعوده.
ثم صرت أفرح لفرحه.. وأبكي لبكائه.. وأغضب لغضبه.. ورحت أتأمّل في حياة الإمام علي عليه السلام، وكأنّي أعيش معه في مكة المكرمة.. وفي المدينة المنورة.. وفي الكوفة.. وكأنّي أراه وهو يخطب على المنبر، ويمشي في الأسواق، ويساعد المحتاجين، ويستمع لشكوى المظلومين، ويصلّي، ويقنت، ويركع، ويسجد.
هكذا رأيت علياً
عشت مع الإمام علي عليه السلام في حياته من المهد إلى اللحد، فرأيته إنساناً في أعلى درجات الإنسانية، وإماماً معصوماً مفترض الطاعة على البرية.
ورأيته يحمل بين جنبيه قلباً يسع العالم كلّه، ويفيض بالحنان والرحمة والرأفة.
رأيته في المحراب يذوب في رحاب الله تعالى، وعلى المنبر خطيباً واعظاً وثائراً يقذف حمماً بركانية.
وفي الحياة يعمل ويكدح ويتعب، وفي المجتمع يعين المحتاج، ويحنو على المساكين، ويكفل الأيتام، ويعين الأخوان، ويصاحب الأصحاب.
ولا غرو، فهو وارث الأنبياء والمرسلين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« من أحب أن ينظر إلى إسرافيل في هيبته، وإلى ميكائيل في رتبته، وإلى جبرئيل في جلالته، وإلى آدم في علميه، وإلى نوح في خشيته، وإلى إبراهيم في خلّته، وإلى يعقوب في حزنه، وإلى يوسف في جماله، وإلى موسى في مناجاته، وإلى أيّوب في صبره، وإلى يحيى في زهده، وإلى عيسى في عبادته، وإلى يونس في ورعه، وإلى محمد في حسبه وخُلقه، فلينظر إلى عليّ، فإنّ فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء جمع الله فيه ولم يجمعها في أحد غيره».(الفضائل العلوية)
وهو الجامع لصفات الجمال والكمال، حتى إنّه جمع الصفات المتضادة كما قال الشاعر:
جُمعت في صفاتك الأضداد
فلهذا عزّت لك الأنداد
ناسك فاتك، حليم شجاع
عالم حاكم، فقير جواد
شيم ما جُمعن في بشرقطّ
ولا حاز مثلهن العباد
يقول السيد الطباطبائي: (وإنّ العجيب في أمر الإمام علي عليه السلام أنّه بلغ الغاية في مختلف جهات الفضائل الإنسانية، فهو بحق الإمام في كل باب، والمثال الحق في كل غاية كريمة، على خلاف ما نجده من حال النوابغ، وشخصيات الأفذاذ من رجال التاريخ.
إننا نجد الرجل إذا كان شجاعاً باسلاً، شديد البأس، رابط الجأش، لا تزعزعه الأهوال، ولا تروعه مقارعة الأبطال – نجده عادة – قصير الباع في التدبير والتفكير، قليل الحظ من الرأفة والرقة.
ونجد الرجل العابد المتزهد المتورع، مغرقاً في الزهد والعبادة، وعارفاً بسبل رياضة بدنه، ومجاهدة نفسه، ولكنّه قاصر في سياسة الدولة، وإدارة الأمّة، لا يقوى على تمييز النصيحة من الخديعة، ولا يلتفت على المكائد ولطائف الحيل.
وهكذا، في مختلف الموارد، وسائر الأفراد، فإنّك لا تكاد تجد من يجمع أكثر الصفات والخصال الحميدة فضلاً عن كلها، وليس ذلك إلاّ لأنّ النّفس الإنسانية تمتلك قدراً محدوداً من الهمة، فإذا اجتمعت الهمة على أمر، ضعفت بطبيعة الحال في سائر الأمور الأخرى، وإذا وزعتها على مقاصد شتى، وقسمتها بينها ضعف الجميع، ولم يكن الوصول في الكل إلى درجة الكمال المطلوب، وذلك لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ…}.(الأحزاب:4)
أمّا الإمام عليه السلام فلم تكن فضائله النفسية ناشئة عن تهذيب سبقه تروّ وتأمّل فكريان، ولم يسلم أمره إلى هوى نفسه، لتختار له الجهة التي عليه أن يصرف همته فيها.
وإنّما أخذته جذبة إلهية أنسته غيره سبحانه، وأزالت من نفسه كل المآرب البشرية التي تشده إلى نفسه، وتقربه منها ولم تبق منها شيئاً، وانتزعت كل الشهوات الغريزية، التي توجهه نحو الملذات الآنية، فلا شيء بعد شده نحو نفسه، ولا شيء أيضاً يزين له الشهوات والملذات الدنيوية، بل كل همه هو الحق، والحق فقط فهو الغاية، وإليه سوف تكون النهاية.
وهذا هو الذي جعله عليه السلام يعطي كل موقف حقه، وهداه إلى الحق فالتزمه.
وكان معه، حتى عند اختلاف الدواعي والبواعث.(علي عليه السلام والفلسفة الإلهية:27.
لقد عاش عليه السلام عدة أجيال في حياة واحدة طوت تجارب ودهوراً طويلة، فهو كما قال لولده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: «أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ، قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِم…».(تحف العقول:70)
البعد الروحي
إذا كان للإمام علي عليه السلام أبعادٌ كثيرةٌ في شخصيته وكلها تجذب الإنسان لحبه والاقتراب منه، إلا أنّ أهم تلك الأبعاد هو البعد الروحي لدى الإمام عليه السلام.
فبه وصل الإمام عليه السلام إلى المقامات العالية في الدنيا والآخرة، وبه جذب القلوب إليه، وبه قلع باب خيبر.
ففي رسالته عليه السلام إلى سهل بن حنيف قال: «وَاللهِ مَا قَلَعْتُ بَابَ خَيْبَرَ وَرَمَيْتُ بِهِ خَلْفَ ظَهْرِي أَرْبَعِينَ ذِرَاعاً بِقُوَّةٍ جَسَدِيَّةٍ، وَلاَ حَرَكَةٍ غِذَائِيَّةٍ؛ لَكِنِّي أُيِّدْتُ بِقُوَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ، وَنَفْسٍ بِنُورِ رَبِّهَا مُضِيئَة».(أمالي الصدوق:514)
ولهذا البعد الروحي صار الإمام عليه السلام قبلة أهل الباطن، وقدوة العارفين وباب السالكين للقاء رب العالمين، وهو القائل عليه السلام: «أَنَا حَيَاةُ الْعَارِفِين».(فضائل ابن شاذان:81)
دعاء ورجاء
نعم هكذا عشت مع الإمام علي عليه السلام وهكذا رأيته، وإني أدعو الله تعالى من أعماق قلبي أن يوفّقني للسير على خطى علي عليه السلام، فأعبد الله كما عبد علي عليه السلام، وأجاهد كما جاهد علي عليه السلام، وأنطق كما نطق علي عليه السلام، وأحيا كما كان علي عليه السلام، وأموت كما مات علي عليه السلام.
إنني عاجز عن القيام بما كان عليه السلام ولكني أتمنى من كل قلبي أن اقترب منه، وأتشبّه بأفعاله، وقد قال عليه السلام: «أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَاد».(نهج البلاغة:417)
إلهي إن قلبي هاج بحب علي عليه السلام، وأنت الذي جعلت فيّ هذا الحب والشوق، فأسألك يا رب العالمين أن لا تحرمني رؤية علي عليه السلام عند الاحتضار.
قول إنّ الذي يموت يراني | حار همدان عن علي رواه | |
فتمنيت أن أموت مراراً | كل يوم وليلة لأراه |
وأدعوك يا مجيب الدعوات أن ترزقني شفاعة علي عليه السلام في القبر ويوم القيامة، وأن أسقى من حوض الكوثر بيده عليه السلام، وأن أحشر معه، إنّك أنت أرحم الراحمين ومجيب دعوة المضطرين.