مقومات نجاح صاحب المنصب أو المسؤول عند علي عليه السلام
  • عنوان المقال: مقومات نجاح صاحب المنصب أو المسؤول عند علي عليه السلام
  • الکاتب:
  • مصدر: شعبة الدرسات والبحوث عن مصادرها بتصرف
  • تاريخ النشر: 0:16:13 2-9-1403

إنّ العالم اليوم بمدارات شعوبه المتعددة بحاجة ملحة إلى التعرف على معايير المنصب عند صاحب ذكرى الغدير عليه السلام، وما هي مقاييسه في التنصيب، وضوابطه لقيادة المراكز العليا المدنية والعسكرية، بمختلف مستوياتها.

حتى يحتفظ المنصب برمزيته للمسؤولية عن التقويم والتصحيح مهما أمكن، وأنه تكليف لا تشريف، بل هو مقياس الكفاءة والنزاهة والأمانة، أكثر من كونه امتيازاً في السلطة والمال.

لأنّ المنصب عند أمير المؤمنين عليه السلام أمانة، يُختبر بأدائها المنصِّب والمنصَّب، وهما مسؤولان عنها؛ قال عليه السلام لبعض كبار موظفيه: «أشْرَكْتُكَ فِي أمَانَتِي».(نهج البلاغة:412 برقم41)

وقال عليه السلام: «بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ… وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ وَالسَّلام».(نهج البلاغة: 411، برقم 40)‏

وقال عليه السلام أيضاً لبعض عمّاله: «وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَأَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَك‏».(نهج البلاغة: 366، برقم 5)

ولم يكتف عليه السلام بتشخيص الخلل والتذكير بمسؤولية أمانة المنصب، بل عالجه وعرّف بطرق التصحيح وتلافي التقصير، حاثاً على تعميم ثقافة أمانة المنصب بين الموظفين، ذكراً ثواب الأمين.

فقال عليه السلام: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ،‏ لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا؛ وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ يَسِيرٌ، وَأَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ…، فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ، وَوُكَلاَءُ الأُمَّةِ، وَسُفَرَاءُ الأَئِمَّةِ، وَلاَ تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ، وَلاَ تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ…، وَلاَ تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً، وَلاَ الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ، وَلاَ الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً، وَلاَ دِينَ اللهِ قُوَّةً…». (بحار الأنوار:33/472)

موجهاً بهذا إلى ضرورة تقديم الخدمات، وتلبية الطلبات المشروعة، وعدم قمع أحدٍ من المطالبين بتحسين وضعه، ومؤكداً على ضرورة تقييم الأداء الحكومي دائماً، بما ينعكس إيجاباً على الاهتمام بالشعب وحماته من أصناف الجيش والقوى الأمنية الأخرى.

وقال عليه السلام: «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ‏ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق…، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ بِمَا عَرَّفَكَ مِنْ كِتَابِهِ وَبَصَّرَكَ مِنْ سُنَنِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله عَلَيْكَ بِمَا كَتَبْنَا لَكَ فِي عَهِدْنَا هَذَا لاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ فَإِنَّهُ لاَ يَدَ لَكَ بِنَقِمَتِهِ وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِه…».(نهج البلاغة:427، برقم53)

مبيّناً ضرورة الاهتمام بكافة المواطنين ولو كانوا من الأقليات، ولزوم العدل بينهم، وأنْ يتم التعامل على أنّ الجميع شركاء في البلد والمصير، فلابد من محبة الجميع ومودّتهم.

وقال عليه السلام: «وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلاَ تَبْجَحَنَ‏ بِعُقُوبَةٍ وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ [عَنْهَا] مِنْهَا مَنْدُوحَةً وَلاَ تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَر…، وأَنْصِفِ اللهََ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ [هَوًى فِيهِ‏] فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَه…».(نهج البلاغة: 428، برقم54)

مشدداً بهذا على حرمة انتهاك الحقوق، واستعمال القسوة والصرامة، وناهياً عن استخدام المنصب أداةً للعقوبة والشدة؛ لما يتسببه ذلك من إفساد الحاكم لنفسه بإصلاحه لغيره، ومخاطرة بالنفس وتعريضها للمحاسبة الإلهية.

وقال عليه السلام: «وَلْيَكُنْ أَحَبَ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا [لِرِضَا] لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ [بِرِضَا] بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ [رِضَا] رِضَى الْعَامَّة، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي البَلاَءِ وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالإِلْحَافِ وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّة…».(نهج البلاغة: 429)

محذّراً بهذا من الإصغاء إلى الدائرة الخاصة والخط الأول المحيط بذي المنصب؛ لما يسببه ذلك من هياج غيرهم من المعارضة، واشتداد التمرد العام.

وقد بيّن عليه السلام بذلك صفات الموظف، ووصاياه له، داعماً فيه روح الإنسانية؛ لئلا تغلبها صفة المنصب القانونية؛ فالمنصب لغة (على وزن مسجد – وهو من الألفاظ المولّدة العامية -، بمعنى: العلو والرفعة).(شفاء الغليل للخفاجي:228)

أو (الحسب والمقام، ويستعار للشرف… ومنه: منصب الولايات السلطانية والشرعية، وجمعه: المناصب).(تاج العروس للزبيدي:2/438)

وهو مشتقّ من مادة (النون والصاد والباء، أصل صحيح، يدل على إقامة شيء).(مقاييس اللغة لابن فارس:5/434)

الأمر الذي يغرّ ويساعد على التفلّت من المسؤولية الإنسانية أو القانونية؛ بحسبان أنّ المنصب حاميه، مع أنّ ذلك كأصل اشتقاق مفردة المنصب لغة (من المجاز… نصبته لأمر كذا، فانتصب له، ونصب فلان لعمارة البلد).(أساس البلاغة للزمخشري:960)

من دون أن له ظلاً من الحقيقة.

 

أسباب نجاح صاحب المنصب أو المسؤول عند علي عليه السلام

إنّ من أسباب نجاح ذي المنصب، أنْ يستعين بفريق عمل متكامل، يضم مستشارين أكفاء خبراء وعاملين مختصين مهنيين موضوعيين في ما يقترحونه من رؤى أو خطط؛ مما يكشف عن استيفائهم لشرط العلم والحكمة؛ والجمع بين التصور والتطبيق:

    قال عليه السلام في وصية لمالك بن الحارث الأشتر: «وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَك».(نهج البلاغة:431، عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر)

لتمر المقترحات والخطط الاستراتيجية، عبر سلسلة من العقول، بما يوفر لها لفترة تقي العباد والبلاد آثار الفساد الإداري وتبعات الفساد المالي، وتضمن الاعمار والازدهار والنزاهة في خارطة طريق واضحة ومنتجة.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ الله تعالى سائل كلّ راع عمّا استرعاه‏، أحفظ ذلك أم ضيّعه حتّى يسأل الرّجل عن أهل بيته».(نهج الفصاحة:296)

    قال أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب له لمالك الأشتر حينما ولاه مصر: «وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ وَتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِين».(نهج البلاغة:429-430)

ناهياً عن الاستماع لتقارير الوشاة والمتقربين بذم الناس؛ لأنّ ذلك لا يبني بل يهدم، وعلى ذي المنصب تسيير الأمور بما يقطع دابر الفتنة ويصلح المفسد، وإنّ تشجيع المتزلفين بنقل الأخبار، مما يشيع العيوب ويساعد على انتشارها، فيتجرأ المتردد بارتكابها، فتسري بين أفراد المجتمع، وعندها تتضاعف المشكلة؛ من حيث أصل وجودها واتساع رقعتها؛ كبقعة الزيت في البحر، تميت الأحياء المائية، وتعيق الإبحار الاتجار.

    قال عليه السلام أيضاً في نفس الوصية لمالك الأشتر: «إِنَ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ [قَبْلَكَ لِلأَشْرَارِ] لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلَاتِكَ ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأَوْلِيَائِهِ وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنَّ كَثْرَةَ الإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّة».(نهج البلاغة:430)

منبهاً عليه السلام على أهمية اختيار الموظفين بمختلف الدرجات، والتأكد من عدم تورطهم بجريمة أو خيانة ضد الشعب، بل يلزم البحث عن ذوي النزاهة والكفاءة، وناهياً عليه السلام عن الاستماع لمدح المادح؛ حيث يؤدي إلى الغرور والتعالي وفقدان الإحساس بألم الخطأ في حق أحد، وهي من أسباب ازدياد نسبة الأنا، والرضا عن النفس والإعجاب، وهذه آفات توهم بخلاف الواقع الذي يعرفه الممدوح عن نفسه، ولا سبيل لمعالجتها إلاّ بأنْ يصغي لما يعرّف به نفسه بنفسه؛ لأنّه أدق وأصدق من غيره، ومن دون تعارض بين ذكر المؤهلات الشخصية، وبين رفض مدح المادحين المطرين؛ لأنّ استعراض أسباب الكفاءة بيان بحق وللحق كما احتج عليه السلام في مناشداته بما اختص به دون غيره، بينما لا يكون إطراء المطرين من الحق دائماً، بل بباطل وللباطل.(الاحتجاج للطبرسي:1/188)

ولذا كان عليه السلام لا يرضى أن يمدحه أحد، ويقول: «أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنْ غَيْرِي اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُون».(كتاب سليم بن قيس الهلالي:2/851)

وبهذا جمع عليه السلام بين تقديم المؤهلات والتعريف بالمقومات، وبين عدم فسح المجال للمجاملين المادحين.

 

مواقف الإمام علي عليه السلام في أوجه ممارسة المنصب

وما أحرانا أن نتأسى بأمير المؤمنين عليه السلام ونحن نحتفي بالغدير، ونستثمر هذه العلاقة الثنائية بين الغدير والمنصب، فنتخفف من أعباء مسؤولية المنصب، بالاهتداء بهدي صاحب الغدير عليه السلام.

فقد مارس عملياً المنصب بعد ارتحال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك عندما احتكم إليه الصحابة ورجعوا إليه في المعضلات، فقام عليه السلام بما أسنده إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغدير، وفق مواتاة الفرص المتاحة له وباختلاف المراحل المتعددة، وإلا فقد تنوعت مشاركاته العملية.

لقد أجاب عليه السلام عن معضلات المسائل حتى: (كان عمر يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن؛ ويقول: لولا عليّ لهلك عمر).(الاستيعاب لابن عبد البر:3/1103)

وروى عبد الرحمن بن أذينة الغنوي، عن أبيه أذينة ابن مسلمة، قال: (أتيت عمر بن الخطاب فسألته: من أين أعتمر؟ فقال: إيت علياً فسله، فذكر الحديث، وفيه قال عمر: ما أجد لك إلا ما قال علي).(الاستيعاب:3/1104)

كما قال عثمان بن عفان: (لولا علي لهلك عثمان).(زين الفتى للعاصمي:1/318)

بل إنّ معاوية الذي أعلن انشقاقه عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وشهر السيف بوجه أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبايعه، لما جاءه رجل من أهل الشام، يقال له ابن خيبري، (وجد مع امرأته رجلاً فقتله، أو قتلهما معاً، فأشكل على معاوية ابن أبي سفيان القضاء فيه، فكتب إلى أبي موسى الأشعري، يسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك، فسأل أبو موسى عن ذلك علي بن أبي طالب، فقال له علي: «إنّ هذا الشيء ما هو بأرضي، عزمت عليك لتخبرني»، فقال له أبو موسى: كتب إليّ معاوية بن أبي سفيان أن أسألك عن ذلك، فقال علي: «أنا أبو الحسن: إن لم يأت بأربعة شهداء، فليعط برمته»).(الموطأ للإمام مالك:2/737،برقم18)

لقد أنقذ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (المجنونة التي أمر برجمها، و… التي وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمها، فقال له علي: «إنّ الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}»، وقال له: إنّ الله رفع القلم عن المجنون»، فكان عمر يقول: لولا علي لهلك عمر).(الاستيعاب:3/1103)

وبهذا يكون عليه السلام خلّص محكوماً بتنفيذ الإعدام من الموت، مبيناً خطأ الحكم، وأنّه عليه السلام نتيجة طبيعية لتداخل السلطات التشريعية والتنفيذية مع القضائية، بينما يجب انفصالها وعدم التداخل بينها؛ لئلا تحصل انتهاكات لحقوق الإنسان، ولذلك قال عمر: (علي أقضانا).(الاستيعاب:3/1105)

عندما (كانت وقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين… قال عمر لعلي: ما تقول أنت يا أبا الحسن؟، فقال علي عليه السلام: «إنّك… إن شخصت أنت من هذا الحرم انتقضت عليك الأرض من أقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العيالات أهم إليك مما قدامك، وإن العجم إذا رأوك عياناً قالوا: هذا ملك العرب كلها، فكان أشد لقتالهم، وإنا لم نقاتل الناس على عهد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ولا بعده بالكثرة، بل اكتب إلى أهل الشام أن يقيم منهم بشامهم الثلثان، ويشخص الثلث، وكذلك إلى عمان، وكذلك سائر الأمصار والكور).(الأخبار الطوال للدينوري:135)

مما يدل على حكمة وحنكة واهتمام بالإسلام والمسلمين، وتسامٍ فوق شخصنة المواقف.

لقد أشار عليه السلام على عثمان بإجراء إصلاحات جذرية، إدارية وغيرها؛ وذلك عندما شكا الناس (ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته لهم واستعتابه لهم، فدخل عليه، فقال: «إِنَ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُم… فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ فَإِنَّكَ وَاللهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى وَلاَ تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ وَإِنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وَإِنَّ أَعْلاَمَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَهَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً… وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلاَ عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا؛ وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللهَ [أَنْ‏] أَلاَّ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الأُمَّةِ الْمَقْتُولَ فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا فَلاَ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً فَلاَ تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلِ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُر».(نهج البلاغة:234-235)

الأمر الذي يدل على مشاركات واسعة أملاها عليه شعوره عليه السلام بمسؤولية المنصب، حيث لم يكتف باتخاذ موقف المعارض أو المحايد، عندما رأى مصلحة الإسلام في التصريح بعدم موافقته على الإجراءات التعسفية والغبن الذي يلحق الناس، فأقدم على التوجيه والتصحيح وإرشاد ونصيحة، ما وسعه ذلك، وقد بيّن العواقب في هذه الإجراءات، مبرهناً على صحة أنّه لا يصلح الأمة إلا الإمامة، وإلا كان هدر الحقوق العامة أو الخاصة وتضييعها، وهو محرم ارتكابه على من يمكنه التغيير أو المشاركة فيه، ومبيناً أنّ المخرج من الأزمات هو تغليب المصلحة العامة ضمن ثلاثة الدين والوطن والإنسان على الخاصة الشخصية، وهذا مما أسهم في تخليد سيرة علي عليه السلام في تاريخ الإنسانية، مهما حاول خصومه التأثير على بريقه ووهجه.