قال الله تعالى في كتابه الكريم: {ادْعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدين}.[النحل:١٢٥]
وقال سيدي ومولاي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَشَدُ مِنْ يُتْمِ الْيَتِيمِ الَّذِي انْقَطَعَ عَنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ يُتْمُ يَتِيمٍ انْقَطَعَ عَنْ إِمَامِهِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَلاَ يَدْرِي كَيْفَ حُكْمُهُ فِيمَا يُبْتَلَى بِهِ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ أَلاَ فَمَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا عَالِماً بِعُلُومِنَا وَهَذَا الْجَاهِلُ بِشَرِيعَتِنَا الْمُنْقَطِعُ عَنْ مُشَاهَدَتِنَا يَتِيمٌ فِي حَجْرِهِ أَلاَ فَمَنْ هَدَاهُ وَأَرْشَدَهُ وَعَلَّمَهُ شَرِيعَتَنَا كَانَ مَعَنَا فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى».(الاحتجاج للطبرسي:١/١٦)
فما أحوج الناس إلى مرافد المعرفة الإيمانية الأصيلة، والصحيحة لبناء العقيدة السليمة التي عانت من الاضطهاد بسبب الظروف العصيبة التي مرّت بها الأجيال عبر سنوات طويلة من الظلم، والجور والاستبداد، التي حالت دون الوقوف على مناهل المعرفة العقائدية الحقّة.
لماذا أخفيت أحاديث فضائل أمير المؤمنين عليه السلام؟
لا نبالغ إن قلنا إنَّ كثيراً من الأحاديث النبوية الشريفة التي اختصّت بذكر فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قد دُفِنَت من صدور الرواة، ولم يصرّحوا بها، وذلك لعدّة أسباب، أهمها الخوف من الحاكم أو السلطان، بسبب الاضطهاد الفكري، ومحاولات طمس فضائل علي وأبنائه عليهم السلام، وأحقّيّتهم بالخلافة المنصوص عليها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله فمن شواهد ذلك ما رواه الحافظ الموفّق بن أحمد البكري المكي الحنفي الخوارزمي بإسناده عن سليمان بن مهران الأعمش، قال: (بينا أنا نائم في الليل إذ انتبهت بالجرس على بابي، فناديت الغلام فقلت: من هذا؟ قال: رسول أبي جعفر أمير المؤمنين وكان إذ ذاك – الحاكمة – [من بني العباس] قال: فنهضت من نومي فزعاً مرعوباً فقلت للرسول ما وراءك؟ هل علمت لم بعث إليّ أمير المؤمنين في هذا الوقت؟
قال: لا علم لي، فقمت متفكّراً لا أدري على ماذا أنزل الأمر، أفكِّر فيما بيني وبين نفسي على ماذا أصير إليه وأقول لِمَ بعث إليّ في هذا الوقت وقد نامت العيون وغارت النجوم؟! ففكرت ساعة، ثم ساعة، فقلت: إنّما بعث إليّ في هذه الساعة ليسألني عن فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام فإنْ أنا أخبرته فيه بالحق أمر بقتلي وصلبي، فأيست والله من نفسيّ وكتبت وصيّتي، والرسل يزعجونني ولبست كفني وتحنطت بحنوطي وودعت أهلي وصبيتي…».(المناقب:٢٨٤)
فهكذا كان حال الرواة المقربين من السلطة الحاكمة، يعيشون في حالة خوف وحذر، وكثيراً ما يتعرّضون لتهمة التحدّث بروايات الفضائل، فيزج بهم في المعتقلات والسجون، أو يتعرّضوا للقتل أو التعذيب، أو غير ذلك من أساليب القمع والاضطهاد، فحتى أحمد بن حنبل المقرّب من المتوكّل العبّاسي الذي كان يغدق عليه بالأموال والهدايا (فتشت داره بسعاية كاذبة أساسها أنّه آوى علوّياً خارجاً على – الحاكم – في بيته).(ابن حنبل حياته وعصره:٦٤)
فإذا كان حال الرواة، والعلماء المقربين من السلطان الحاكم في زمن العباسيين فما بالك في حالهم في عهد بني أميّة؟ بل كيف كان يعيش العلماء، والناس الموالون لأهل البيت عليهم السلام؟!
فكان الرواة في زمن بني أميّة يخشون حتّى مجرد الرواية عن آل البيت عليهم السلام حتّى أصبحت الصحاح شبه خالية عن أحاديث أهل البيت عليهم السلام (قال مصعب بن عبد الله: سمعت الدراوردي يقول: لم يرو مالك عن جعفر حتى ظهر أمر بني العباس).(سير أعلام النبلاء:٦/٤٣٩)
فهذا أحد الأسباب المهمة التي أخفت حقائق كثيرة، وأحاديث كثيرة عن فضائل أهل البيت عليهم السلام.
ومن هذه الأسباب منع عمر بن الخطّاب من تدوين الحديث، فكان يقول: أقلّوا الحديث عن رسول الله، وزجر غير واحد من الصحابة عن بثّ الحديث، فقد قال أبو هريرة: (ما كنّا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قبض عمر كنّا نخاف السياط).(المعجم الأوسط للطبراني:١/٥٧٦، ح٢١١٧)
والباحث اللبيب يدرك أنّ السبب الحقيقي والوحيد الذي دعاه لمنع كتابة الحديث في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله الذي دعاه لمنع كتابة الحديث في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله – وذلك في قصة رزيّة الخميس المذكورة في صحيح البخاري وفي غيره من الصحاح – هو السبب نفسه الذي دعاه إلى منع كتابة الحديث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو نفس السبب الذي دعا الحكّام الأمويين والعباسيين إلى محاربة كلّ مَن يتحدَّث بأحاديث الولاية، أو يذكر فضائل أهل البيت عليهم السلام، وهذا الأمر في غاية الوضوح فلا يحتاج إلى تأمّل شديد، أو دقّة نظر.(صحيح البخاري:٣٩، ح١١٤، كتاب المغازي)
ومن مظاهر كتمان الحقيقة والخوف من السلطة الحاكمة ما تراه جلياً في قول أبي هريرة: (ولو أحدثكم بكل الذي أعلم لقطعتم عنقي من ها هنا وأخذ قفاه بحرف كفه [ثم رفع يده للدعاء قائلاً:] اللهم لا تدركن أبا هريرة إمرةُ الصبيان).(المصنف لابن أبي شيبة:٧/٥٠٩، ح٣٧٦١٦)
فما منع أبا هريرة من التصريح شيءٌ سوى الخوف من السلطة الحاكمة، وما هو هذا الخبر الذي لو أباح به لقتلوه؟!، وما علاقته بالإمارة وإمرة الصبيان، حتى يدعو أبو هريرة على نفسه بالموت قبل حلولها؟! فكل هذا الكلام فيه تعريض إنْ لم نقل تصريح بغصب الخلافة من صاحبها الشرعي.
ومن الأسباب التي أدّت إلى ضياع أحاديث الخلافة، والولاية: تكتّم بعض الرواة لأسباب غامضة: فقد روى الحاكم النيسابوري: (… عن ابن عباس عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «نظر النبي إليّ فقال: يا علي، أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوّك عدوي، وعدوّي عدو الله، والويل لمن أبغضك بعدي».
ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وأبو الأزهر بإجماعهم ثقة، وإذا تفرد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح.
سمعت أبا عبد الله القرشي يقول: سمعت أحمد بن يحيى الحلواني يقول: (لما ورد أبو الأزهر من صنعاء وذاكر أهل بغداد بهذا الحديث أنكره يحيى بن معين، فلما كان يوم مجلسه، قال في آخر المجلس: أين هذا الكذّاب النيسابوري الذي يذكر عن عبد الرزاق هذا الحديث؟
فقام أبو الأزهر، فقال: هو ذا أنا، فضحك يحيى ابن معين من قوله وقيامه في المجلس فقَرَّبه وأدناه، ثم قال له: كيف حدثكَ عبد الرزاق بهذا، ولم يحدث به غيرك؟
فقال: اعلم يا أبا زكريا، أنّي قدمت صنعاء وعبد الرزاق غائب في قرية له بعيدة فخرجت إليه، وأنا عليل، فلما وصلت إليه سألني عن أمر خراسان، فحدثته بها وكتبت عنه، وانصرفت معه على صنعاء، فلما ودعته، قال لي: قد وجب عليّ حقك، فأنا أحدثك بحديث لم يسمعه مني غيرك، فحدثني والله بهذا الحديث، لفظاً فصدقه يحيى بن معين واعتذر إليه).(المستدرك على الصحيحين:٣/٣٣٩-٣٤٠، ح٤٦٩٨)
ومن هنا نعلم أنّه ليس من المستبعد أنْ يكون عبد الرزاق قد أخفى أحاديث كثيرة مثل هذا الحديث الذي خصّه بأبي الأزهر إكراماً له؛ لقوله: (قد وجب عليّ حقك)، وهذا يعني أنّ هذا الحديث من الأحاديث المعتبرة والصحيحة عند عبد الرزاق، فإذا كان ذلك فلماذا كان عبد الرزاق يكتم هذا الحديث؟!
الافتراءات على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
texts مجلة الوارث - العدد 101 من معاناة الرواة كانوا يُجبرون على التقوّل على رسول الله صلى الله عليه وآله بما لم يقله فمن شواهد هذه المسألة ما رواه مسلم في صحيحه بسنده: (عن ابن علية قال زهير حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثني أبو حيان حدثني يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله قال ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدمت عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه…).(صحيح مسلم:١٠٢١، ح٢٤٠٨)
والشاهد قوله: (فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه)، فهو يعتذر إليهم طالباً عدم تكليفه بما لم يسمع، فإذا لم يكن هناك تكليف وإجبار لما قال لهم ذلك.
محاربة مَن يروي في فضائل أهل البيت عليهم السلام
ومن الأسباب التي أدّت إلى ضياع أحاديث الخلافة، والولاية أيضاً: هي تفشّي ظاهرة اتّهام الرواة بالتشيّع، والرفض، وعدم الاهتمام أو الأخذ بمرويّاتهم، وذلك إذا رَوَوا أحاديث في فضائل أهل البيت عليهم السلام، حتى أنّ الشافعي اتّهموه بالرفض، فلم يتحمّل كلّ هذا الجمود الفكري المتعصّب ضدّ أهل البيت عليهم السلام فانفجر صارخاً مدافعاً عن نفسه بقوله:
قالوا ترفضت؟ قلت: كلا
ما الرفض ديني ولا اعتقادي
لكن توليت غير شك
خير إمام وخير هادي
إن كان حب الولي رفضاً
فإنّني أرفض العباد
وقال أيضاً:
يا راكباً قف بالمحصب من منى
واهتف بساكن خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى
فيضاً كملتطم الفرات الفائق
إن كان رفضاً حبّ آل محمد
فليشهد الثقلان إنّي رافضي
(الصواعق المحرقة:٢٠٤-٢٠٥)
ولقد لاقى الموالون لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الاضطهاد والتعسّف والقتل بعد وفاة الرسول محمد صلى الله عليه وآله، ومن شواهد ذلك ما رواه الطبراني بسنده: (عن الحسن قال: كان زياد يتتبّع شيعة علي -عليه السلام – فيقتلهم، فبلغ ذلك الحسن بن علي – عليهما السلام – فقال: «اللهم تفرّد بموته فإنّ القتل كفارة»).(المعجم الكبير للطبراني:٢/٢٠١، ح٢٦٢٤)٣
فهذه بعض الأسباب التي أدّت إلى عدم استيعاب كتب السنة لكلّ ما روي بخصوص ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، وآل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أو أدّت إلى انفراد بعض الرواة برواية معيّنة دون أن يرويها غيره من الرواة.
ومع كل هذا وذاك فما عثرنا عليه من النصوص في كتب السنة، وأوردناه في هذا الكرّاس كافٍ لإثبات أحقّيّة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالخلافة مباشرة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد ذكرنا أوّلاً أدّلة ولاية أمير المؤمنين في القرآن، وثانياً أدّلة ولاية أمير المؤمنين في الأحاديث النبوية الشريفة، وذلك بالاعتماد على مصادر وكتب أهل السنة فقط، لإلزام المخالف الحجة الظاهرة التي لا ينكرها إلاّ المتعصب الحائد عن طريق الحق، أو الناصبي الذي يبغض أهل البيت عليهم السلام، وبإذن الله تعالى سيهتدي بها كلّ طالبٍ للحقيقة ومنصف يريد النجاة ويريد إرضاء الله تعالى.