روى ابن بكير عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: قلت له: إني أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك فإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى أرجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح.
فقال: يا ابن بكير، أما تحب أن يراك الله فينا خائفاً، أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه، وكان محدثه الحسين(علیه السلام) تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع، فإن فزع وقرته(قوته) الملائكة وسكنت قلبه بالبشارة[1].
مدخل:
من الشعائر المنصوصة التي وردت روايات أهل البيت(علیه السلام) في الحث عليها زيارة المولى أبي عبد الله الحسين(علیه السلام)، وقد وردت نصوص في ذلك، بعضها تضمن الإشارة إلى محبوبية زيارته في أوقات خاصة، وبعضها تضمنت الإشارة إلى محبوبية زيارته بشكل عام.
ولو لاحظنا النصوص الواردة في هذا المضمار وجدنا أنها تعرضت إلى زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) من دون تفريق بين كون الزيارة في حالة الخوف وعدم الأمن حتى على النفس، فضلاً عن المال والأهل، أم كانت في حالة الأمان والسعة والرخاء والراحة.
ومن الواضح أن هذا ليس من صغريات المعارضة بين الطائفتين السابقتين، ضرورة أنه ليس المقام مقام تنافٍ حتى يقال بأنه لابد من التوفيق بينهما، بل هما مشيران إلى نحوين من أنحاء الزيارة، فمرة كذا وأخرى بكيفية ثانية.
ومن تلك الروايات التي تعرضت لمحبوبية الزيارة حتى في حالة الخوف الرواية التي افتـتحنا بها المقام، وقد تضمنت حث الإمام الصادق(علیه السلام) أصحابه عبد الله بن بكير على الزيارة حتى لو كان هناك خوفاً، بل لم تقتصر الرواية على حثه على ذلك، وإنما تضمنت أيضاً الإشارة إلى الأثر المترتب على زيارته إلى قبره(علیه السلام) في مثل تلك الحالة، أعني حالة الخوف، فقال(علیه السلام): أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه، وكان محدثه الحسين(علیه السلام) تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع، فإن فزع وقرته(قوته) الملائكة وسكنت قلبه بالبشارة.
وبل تضمنت بعض النصوص أن ترك زيارة قبره(علیه السلام) بسبب الخوف، وعدم الأمان سبب لأن يرى الإنسان في الدنيا الحسرة، فعن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال لي: يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين(علیه السلام) لخوف، فإن من ترك زيارته رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله(ص) وعلي وفاطمة والأئمة(علیه السلام)[2].
كما أن جملة من النصوص تضمنت أن الثواب على قدر شدة الخوف، فكل ما كان الخوف أشد، كان الثواب أعظم وأكثر، ففي حديث لمحمد بن مسلم، قال: قال لي أبو جعفر محمد بن علي(علیه السلام): هل تأتي قبر الحسين(علیه السلام)؟…
قلت: نعم على خوف و وجل.
فقال: ما كان من هذا أشدّ فالثواب على قدر الخوف، ومن خاف في إيتانه آمن الله روعته يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وانصرف بالمغفرة، وسلمت عليه الملائكة، وزاره النبي(ص) ودعا له، وانقلب بنعمة الله وفضل لم يمسسه سوء واتبع رضوان الله[3].
إشكال:
هذا ومع وجود هذه الروايات ذات الألسنة المختلفة في بيان فضل زيارة المولى أبي عبد الله الحسين(علیه السلام) حال الخوف، إلا أنه ربما يمنع من القبول عنها بإشكالات ثلاثة، أولهما مفاده إنكار أصل صدور هذه الروايات، ولو في الجملة، وثانيها مفاده أنه لو سلم بصدور النصوص إلا أنها محكومة بقاعدة لا ضرر، بينما الثالث منها يلتـزم بكونها صادرة عن الإمام المعصوم(علیه السلام) لكنها لا تـثبت قضية عامة بحيث يمكن الاستفادة منها في كل حين، فيتمسك بثبوت الأمر فيها في كل وقت، وتلك الإشكالات هي:
الأول: أن يقال بأن هذه النصوص مخالفة لظاهر القرآن الكريم، إذ أن الباري سبحانه وتعالى قد منع من إلقاء النفس في التهلكة، قال تعالى:- (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)[4]، وقد ذكر الفقهاء(رض) أن الآية الشريفة تشير إلى قاعدة عقلية مفادها: أن كل تكليف يخشى منه ويخاف على النفس أو على العرض، أو على المال، بحيث يصدق عليه أنه وقوع في الهلاك بحسب المتعارف، يستوجب سقوط التكليف، هذا إذا لم يكن له بدل، أما لو كان له بدل، فإنه ينـتقل حينئذٍ إلى بدله، أو ينـتقل إلى القضاء إن كان مما ثبت له قضاء[5].
وهذا يعني أن الآية الشريفة تشير إلى ترك كل ما يوجب الهلاك، أياً ما كان، سواء كان في الطريق الدنيوي، أم كان في الطريق الأخروي، ولذا لو كانت كثرة الصيام، أو كثرة قيام الليل، سبباً من أسباب وقوع المكلف في التهلكة، فإنهما منفيان بمقتضى هذه القاعدة العقلية القرآنية.
ومن الواضح أننا لو راجعنا التاريخ لوجدناه ينقل لنا كيف كانت الشدة تقع على الذين يسعون إلى زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) أو يقومون بزيارته، وقد أشارت النصوص التي قدمنا نقلها إلى ذلك، لأن ذكر الراوي أن هناك خوفاً يشير إلى الحالة التي كان عليها الوضع في تلك الفترة.
بل يمكن أن يلحظ ذلك من خلال ما جرى على القبر الشريف من الحكام في كل عصر، إذ من المعلوم أن القبر الشريف تعرض للهدم غير مرة من قبل حكام كل عصر، فهدمه الدوانيقي، كما هدمه ولده هارون، وأخيراً المتوكل كرر الهجوم على المرقد الطاهر أكثر من مرة، فقد ذكر غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده) في بحاره باباً بعنوان جور الخلفاء على قبره الشريف، فعن إبراهيم الديزج قال: بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيـير قبر الحسين(علیه السلام) وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي: أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لينبش قبر الحسين، فإذا قرأت كتابي فقف على الأمر حتى تعرف فعل أو لم يفعل.
قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمد بن عمار ما كتب إليه، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار، ثم أتيته، فقال لي ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرت به، فلم أر شيئاً ولم أجد شيئاً، فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت فما رأيت، فكتب إلى السلطان أن إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً وأمرته فمخره بالماء، وكربه بالبقر، قال أبو علي العماري: فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر، فقال لي: أتيت في خاصة غلماني فقط، وإني نبشت فوجدت بارية جديدة وعليها بدن الحسين بن علي، ووجدت منه رائحة المسك فتركت البارية على حالها وبدن الحسين على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء، وأمرت البقر لتمخره وتحرثه، فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه، فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلظة، لئن ذكر أحد هذا لأقتلنه[6].
فكيف بعد هذا يتصور أن هناك تكليفاً يصدر من المعصوم(علیه السلام) بمحبوبية زيارة المرقد الطاهر، إن هذا لا ينسجم مع القرآن الكريم، لأنه ينفي كل تكليف يوجب وقوع المكلف في التهلكة بمقتضى الآية القرآنية الشريفة التي قدمنا ذكرها، وعليه تكون النصوص المذكورة معارضة لظاهر القرآن الكريم، فتسقط عن الاعتبار.
الثاني: من القواعد الفقهية المسلمة عند الفقهاء قاعدة لا ضرر ولا ضرار، ومفادها نفي كل حكم ضرري في الشريعة الإسلامية، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون هناك تكليف يتوجه للمكلف مع كون التكليف الموجه إليه ضررياً، ولذا لو كان التكليف الموجه يشتمل على الضرر، كان مقتضى قاعدة لا ضرر نفيه، فيحكم عندها بعدم ثبوته عليه، والانتقال إما إلى بدله لو كان له بدل، أو الانتقال إلى القضاء لو كان مما يقضى.
ومن الواضح أن مقامنا يصلح صغرى لهذه الكبرى، إذ بمقتضى ما كان جارياً على القبر الشريف من سلاطين الجور، وحكام كل عصر، أو بمقتضى الحالة الخوفية التي كان يعيشها أصحاب الأئمة(علیه السلام) نتيجة التشديد الشديد عليهم من قبل الحكام في تلك الفترة، تكون زيارة المولى الحسين(علیه السلام) ضررية، وبالتالي بمقتضى أن الحديث الشريف ينفي كل حكم وتكليف ضرري، فلا ريب في كونها منفية عن المكلفين حينئذٍ، ولا يثبت بذلك محبوبيتها.
الثالث: أن يستفاد من مبنى بعض أعاظم العصر(دامت أيام بركاته) ولعله مراد الإمام الراحل(قده) من القول بدخالة الزمان والمكان في مجال الاستنباط، وقبل التعرض لبيان أصل الإشكال لا بأس ببيان أصل الكبرى، فنقول:
الأدلة التي يتمسك بها الفقهاء على أنحاء ثلاثة:
الأول: الدليل الذي يكون له عموم، بحيث يمكن للفقيه أن يتمسك به ويطبقه في موارد متعددة، وذلك مثل لو قال المولى: أكرم العلماء، فإن لفظة العلماء تنطبق على كل من كل له علم من العلوم، ولا ينحصر ذلك بخصوص العلوم الدينية، وهذا يعطي سعة في دائرة التطبيق فيمكن أن يطبق الحكم المذكور وهو الإكرام على جميع العلماء وإن كانوا ليسوا من علماء الدين.
الثاني: الدليل الذي يكون خاصاً، بحيث أنه يضيق سعة دائرة الحكم، فبدل أن يكون الحكم واسعاً شاملاً لكافة الأفراد ينحصر الأمر حينئذٍ في جملة معينة منهم فقط، وقد يكون ذلك من خلال إخراج بعض الأفراد من تحت العموم، أو من خلال تخصيص الحكم ببعض دون بعض، فيقال مثلاً: لا تكرم العلماء النحويـين، فإن هذا تضيـيقاً للدائرة، فبعدما كانت شاملة لهم ضاقت فما عادت تشملهم، أو يقال مثلاً: لا تكرم إلا الفقهاء من العلماء، فإن هذا يؤدي إلى حصر المكرمين من العلماء في خصوص الفقهاء دون البقية.
هذا وقد تستفاد الخصوصية في الدليل من خلال الظروف الموضوعية التي صدر الدليل فيها، بحيث أن الجواب الصادر من الإمام(علیه السلام) قد لوحظت فيه تلك الظروف الزمنية، وهذا يمنع من إثبات عموم للدليل، مثلاً: وردت رواية عن الإمام الجواد(علیه السلام) يسأل فيها: أيهما أفضل، زيارة أبيك الرضا(علیه السلام)، أم زيارة جدك الحسين(علیه السلام)، فأجاب(علیه السلام): إن زيارة أبي الرضا(علیه السلام) أفضل، لأنه لا يزوره إلا الخواص من شيعته.
ولذا أفتى بعض العلماء(ره) باستحباب زيارة الإمام الرضا(علیه السلام) في غير الأوقات المخصوصة على زيارة الإمام الحسين(علیه السلام).
لكن الظاهر أن هذا النص يفيد حكماً خاصاً، ولا يفيد حكماً عاماً، بمعنى أنه لا يمكن أن يتمسك به لإثبات محبوبية زيارة الإمام الرضا(علیه السلام) مطلقاً على زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) لا لأجل ورود نصوص كثيرة تشير إلى زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) ومحبوبيتها، وإنما لأن سعة دائرة هذا الحديث خاصة تختص بفترة زمنية محددة صدر فيها نتيجة وجود ظروف موضوعية كانت قائمة في تلك الفترة، وذلك لأننا لو رجعنا للتاريخ لوجدنا أنه بعد رحلة الإمام موسى(علیه السلام) ظهر مذهب الوقف، وأخذ يزحف في الوسط الإسلامي وبقوة، وقد كانت هناك وقفات متكررة من الإمام الرضا(علیه السلام) أمام هذا التيار، وواصل الإمام الجواد(علیه السلام) نفس المنهج الذي بدأه أبوه(علیه السلام)، وهذه الرواية تشير إلى ذلك المنهج المتبع، لأنه(علیه السلام) عندما يشير إلى أفضلية وزيارة أبيه(علیه السلام) يريد أن يبين أنه إمام مفترض الطاعة، وأن من لم يقل بإمامته فهو منحرف، وهذا يعني أنه لا إطلاق لهذا الحديث.
وكذا أيضاً يمكن أن يقال أيضاً بالنسبة لحرمة التجسيم والرسم، بمعنى أن ما دل على الحرمة لا إطلاق له بحيث يثبت البناء على الحرمة بقول مطلق، وإنما هو مخصوص بفترة زمنية معينة نتيجة وجود ظروف خاصة دعت إلى القول بذلك، لأن الأمة بعد لا زالت قريبة عهد بالأوثان والأصنام.
وبناءاً على هذا، لا يمكن أن نستفيد حكماً عاماً من نص إلا بعد أن نعمد لدراسة الظروف الموضوعية التي صدر فيها ذلك النص، لأن لزمان صدور النص ومكان صدوره مدخلية في فهم المراد منه.
الثالث: ما يعبر بالقضية في واقعة، بمعنى أنها تشير إلى حالة خاصة، ولا تتعدى تلك الحالة أو تلك الفترة، مثل أن يكون الجواب الصادر من المعصوم(علیه السلام) يختص بالسائل فقط، فلا يكون شاملاً لغيره، لأن الإمام(علیه السلام) قد راعى جملة من الظروف الخاصة التي تختص بالسائل، وأجابه بما يكون متوافقاً مع ظروفه.
بعد هذه المقدمة نقول:
إن إشكال المستشكل يـبتني على القول بالأمر الثاني، بمعنى أن النصوص المذكورة عندنا ليست عامة وشاملة لكافة الأزمنة والأوقات، بل هي خاصة بتلك الفترة الزمنية، والنكتة التي دعت إلى القول بذلك أن الظروف الخارجية كانت تفرض أن يأمر الأئمة(علیه السلام) بزيارة الإمام الحسين(علیه السلام) لأنها كانت تمثل مواجهة سياسية ووقوف في وجه السلطات الخارجية، كما تشير إلى بطلان حكومة كل حاكم جائر، كما يمكن القول بأنه في تلك الفترة الزمنية كانت زيارة الإمام الحسين(علیه السلام) تمثل الواجهة الحقيقية لإبراز الانتماء لمذهب أهل البيت(علیه السلام) ولذا أشر الأئمة(علیه السلام) للإتيان بها في تلك الظروف، لا لأنها مطلوبة في كل وقت وحين.
وعليه لا يستفاد منها ثبوت الاستحباب بقول مطلق، بل يلتـزم بكون الاستحباب مختصاً بتلك الفترة لا غير.
علاج الإشكال:
لكن الصحيح عدم ورود هذا الإشكال بتقريـباته الثلاثة، لأنه يمكننا الجواب عن كل واحد منها، وبالتالي يـبنى على بقاء المستفاد من النصوص على حاله.
الجواب عن الثالث:
فالتقريب الثالث، وهو الذي أشار إلى أن النصوص إنما صدرت لمصلحة خاصة في تلك الفترة الزمنية، وقد دعت تلك المصلحة إلى الإصرار على الإتيان بالزيارة من قبل الأئمة(علیه السلام)، يرفضه ما نراه من تكرار الأمر من قبل الأئمة(علیه السلام)، فهذا الإمام الهادي(علیه السلام) يصاب بمرض فيـبحث عن من يُستأجر لكي يمضي فيدعو له تحت القبة الشريفة لقبر المولى أبي عبد الله الحسين(علیه السلام)، فعن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إليّ أبو الحسن(علیه السلام) في مرضه وإلى محمد بن حمزة، فسبقني محمد، فأخبرني محمد: ما زال يقول ابعثوا إلى الحير(الحائر) ابعثوا إلى الحير(الحائر).
فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحير(الحائر)؟ ثم دخلت عليه وقلت له: جعلت فداك أنا أذهب إلى الحير.
فقال: انظروا في ذلك-إلى أن قال- فذكرت لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع الحير؟ هو الحير، فقدمت العسكر فدخلت عليه، فقال لي: اجلس، حين أردت القيام، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال، فقال لي: ألا قلت أن رسول الله(ص) كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر، وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله عز وجل أن يقف بعرفة، وإنما هي مواطن يحب الله أن يُذكر فيها، فأنا أحب أن يدعى لي من حيث يُحب الله أن يُدعى فيها[7].
فمن الواضح أن هذا ليس لمجرد بيان أن قضية الإمام الحسين(علیه السلام) تمثل قضية سياسية يواجه أهل البيت(علیه السلام) من خلالها الحكام الطغاة، أو لأجل إبراز عنصر التولي وإظهار تمام الولاء لهم(علیه السلام)، والبراء من أعدائهم، بل إن هناك أمراً أبعد لا ينحصر في خصوص مثل هذه الأمور، وهو ما أشار له النص المذكور من أن لله تعالى مواطن يحب أن يذكر فيها، فهذا لا علاقة له لا بمعارضة سياسية، ولا بقضية ولاية وانتماء أصلاً.
وهذا المعنى أيضاً ورد عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام)، فإنه مرض وأمر من عنده أن يستأجروا له أجيراً يدعو له عند قبر الحسين(علیه السلام)، فوجدوا رجلاً فقالوا له ذلك، فقال: أنا أمضي ولكن الحسين إمام مفترض الطاعة، وهو إمام مفترض الطاعة! فرجعوا إلى الصادق(علیه السلام) وأخبروه فقال: هو كما قال، ولكن أما عرف أن لله تعالى بقاعاً يستجاب فيها الدعاء، فتلك البقعة من تلك البقاع[8].
بل إننا لو تأملنا في النصوص المتحدثة عن زيارته حال الخوف، لوجدنا أنها لا تشير إلى مثل هذا الأمر من قريب أو بعيد، بل إنها تشير إلى ما يحصله الزائر من ثواب وأجر، وهو قريب مما ورد في زيارة البيت العتيق، وما يكون لمن حج البيت من أجر ومثوبة، لو كان في طرقه للحج شيئاً من الخوف، أو كان يلقى شيئاً من الأذى.
على أن اختلاف ألسنـتها في مقام بيان محبوبية الزيارة في تلك الظروف، وبيان ما يخسره الزائر من تركه للزيارة، وأنه يرى الحسرة في الدنيا، يمنع من القبول بكون النصوص الصادرة خاصة بذلك الزمان.
وبالجملة، لا مجال لقبول هذا التقريب، بل هو متنافٍ مع ما دلت عليه النصوص الصريحة، والتي لا تنحصر بزمان دون زمان، ولا تشير إلى موضوع خاص، أو بعد معين.
التقريب الثاني:
أما التقريب الثاني، فالمعروف أنه لو كان هناك حكمان أحدهما أكثر أهمية من الآخر، فإن الثاني لا يرفع الأول، ومقامنا من هذا القبيل، إذ الظاهر أن الزيارة التي تعد إحدى الشعائر المنصوصة أهم عند الشارع المقدس من رفع الضرر الشخصي الواقع على المكلف، ولما كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن قاعدة لا ضرر لا تشمل المورد، بل إن المورد باقٍ على حاله، ولا مجال لرفعه بواسطتها.
على أنه يمكن ذكر جواب آخر، وهو إن هناك جملة من التكاليف الثابتة في الإسلام وهي ضررية، لا يشملها حديث نفي الضرر، كالقصاص، والحج والخمس والزكاة، وغير ذلك، فليكن مقامنا من ضمن تلك الأمور.
التقريب الأول:
وأما التقريب الأول، فالقاعدة المذكورة وإن كانت مسلمة، وهي قاعدة عقلية لا تقبل التخصيص ولا التخصص، لكننا نحتاج إلى ملاحظة سعة دائرة هذه القاعدة، بمعنى هل أنها تشمل مطل ما يوجب الإلقاء في التهلكة حتى لو كان ذلك لأجل غاية محبوبة، كما لو كان ذلك من أجل إبراز فضيلة دينية، أو كان ذلك من أجل إبراز موضوع أهم، وله أثر كبير على الشريعة والدين، أو أن القاعدة مختصة بكون الممنوع عنه هو الإلقاء في التهلكة حال كون الإلقاء عادياً، بمعنى أنه لا يترتب عليه كثير أثر لعدم كونه لغاية سامية، وفضيلة مقدسة؟…
الظاهر أن المستفاد من الآية الشريفة هو المعنى الثاني، وعليه لا تكون الآية ناهية عن الإلقاء في التهلكة لو كان ذلك من أجل غاية سامية، وذات قيمة عالية، وإلا لزم من ذلك أن يترك الجهاد، إذ لا ريب في أنه من أجلى مصاديق الإلقاء في التهلكة، مع أنه ممدوح، ومحبوب للشارع، وهذا يعني أن القاعدة المذكورة ليست ذات عموم كما يتصور لتكون شاملة لجميع موارد إتلاف النفس أو العضو، أو ما شابه.
ويشهد لما ذكرناه ما جرى لنبي الله يعقوب(علیه السلام)، وتحدث عنه القرآن الكريم، وكيف أنه ابيضت عيناه من الحزن على ولده يوسف(علیه السلام)، قال تعالى:- (وأبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم)[9]، وكذا أيضاً ما حدثنا التاريخ من بكاء الإمام زين العابدين(علیه السلام) على والده الإمام الحسين(علیه السلام) وطول مدة البكاء. والشواهد في هذا المجال عديدة وكثيرة، لكننا نعرض عن ذكرها مخافة الإطالة، ويمكن للقارئ العزيز المراجعة.
-------------------------------------------------------------------------------------
[1] كامل الزيارات ص 125.
[2] كامل الزيارات ب 45 ح 3.
[3] المصدر السابق ح 5.
[4] سورة البقرة الآية رقم 195.
[5] مواهب الرحمن ج 3 ص 126.
[6] بحار الأنوار ج 45 ب 50 من تاريخ الحسين بن علي سيد الشهداء ص 395.
[7] وسائل الشيعة ب 76 من أبواب المزار ح 3.
[8] المصدر السابق ح 2.
[9] سورة يوسف الآية رقم 84.