بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
وبعد...
فهذه رسالة وجيزة تناولتُ فيها خبر: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر في أيّام مرض موته أبا بكر بالصلاة بالمسلمين، وأنّه خرج إلى المسجد وصلّى خلفه معهم... بالبحث والتحقيق، وإنّه بذلك لحقيق:
لتعلّقه بأحوال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسيرته المباركة...
ولتمسّك القائلين بخلافة أبي بكر من بعده به...
وللأحكام الشرعية والمسائل الاعتقادية المستفادة منه...
ولأُمور غير ذلك...
لقد بحثتُ عن الخبر من أهمّ نواحيه، وسبرُت ما قيل فيه، وتوصّلتُ على ضوء ذلك إلى واقع الحال... وحقّ المقال...
فإلى أهل التحقيق والفضل... هذا البحث غير المسبوق ولا المطروق من قبل، أرجو أن ينظروا فيه بعين الإنصاف... بعيداً عن التعصّب والاعتساف... وما توفيقي إلاّ بالله.
علي الحسيني الميلاني
أسانيد الحديث ونصوصه
لقد اتّفق المحدِّثون كلّهم على إخراج هذا الحديث، فلم يخلُ منه (صحيح) ولا (مسند) ولا (معجم)... لكنّا اقتصرنا هنا على ما أخرجه أرباب (الصحّاح الستّة) وما أخرجه أحمد في (المسند) لكون ما جاء في هذه الكتب هو الأتمّ لفظاً والأقوى سنداً، فإذا عُرف حاله عُرف حال غيره، ولم تكن حاجة إلى التطويل بذكره.
الموطّأ:
جاء في (الموطّأ): « وحدّثني عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج في مرضه فأتى فوجد أبا بكر وهو قائم يصلّى بالناس، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن كما أنت ; فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلّي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس، وكان الناس يصلّون بصلاة أبي بكر »(1).
_____________________
(1) الموطّأ 1/136 كتاب صلاة الجماعة باب صلاة الإمام وهو جالس الرقم 18.
تأمّلات في متن الحديث ومدلوله
قد عرفت أنّ الحديث بجميع طرقه وأسانيده المذكورة ساقط عن الإعتبار.
فإن قلت: إنّه ممّا اتّفق عليه أرباب الصحاح والمسانيد والمعاجم وغيرهم، ورووه عن جمع من الصحابة، فكيف تقول بسقوطه بجميع طرقه؟
قلت أولا: لقد رأيت في « النظر في الأسانيد والطرق » أنّ رجال أسانيده مجروحون بأنواع الجرح، ولم نكن نعتمد في « النظر » إلاّ على أشهر كتب القوم في الجرح والتعديل، وعلى كلمات أكابر علمائهم في هذا الباب.
وثانياً: إنّ الذي عليه المحقّقون من علماء الحديث والرجال والكلام: أنّ الكتب الستّة فيها الصحيح والضعيف والموضوع، وإنّ الصحابة فيهم العدل والمنافق والفاسق وهذا ما حقّقناه في بعض بحوثنا(1).
نعم، المشهور عندهم القول بأصالة العدالة في الصحابة، والقول بصحّة ما أُخرج في كتابي البخاري ومسلم، لكنهما مشهوران لا أصل لهما.
أمّا بالنسبة إلى حديث « صلاة أبي بكر » فلم أجد أحداً يطعن فيه، لكن لا لكونه في الصحاح، بل الأصل في قبوله وتصحيحه كونه من أدلّة خلافة أبي بكر عندهم، ولذا تراهم يستدلّون به في الكتب الكلامية وغيرها.
____________________
(1) راجع رسالتنا في حديث أصحابي كالنجوم، ومحاضرتنا في الصحابة.
من كلمات المستدلّين بالحديث على الإمامة
قال القاضي عضد الدين الايجي ـ في الأدلّة الدالّة بزعمه على إمامة أبي بكر ـ:
« الثامن: إنّه صلّى الله عليه وسلّم استخلف أبابكر في الصّلاة وما عزله فيبقى إماماً فيها، فكذا في غيرها، إذ لا قائل بالفصل،ولذلك قال عليٌّ رضي الله عنه: قدّمك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر ديننا، أفلا نقدّمك في أمر دنيانا؟!(1).
وقال الفخر الرازي ـ في حجج خلافة أبي بكر ـ:
« الحجّة التاسعة: إنّه عليه السلام استخلفه على الصلاة أيّام مرض موته وما عزله عن ذلك، فوجب أن يبقى بعد موته خليفةً له في الصلاة، وإذا ثبتت خلافته في الصلاة ثبتت خلافته في سائر الأُمور، ضرورة أنّه لا قائل بالفرق »(2).
وقال الأصفهاني:
«الثالث: إنّ النبي استخلف أبابكر في الصلاة أيّام مرضه، فثبت استخلافه في الصلاة بالنقل الصحيح، وما عزل النبي أبابكر رضي الله عنه عن خلافته في الصلاة، فبقي كون أبي بكر خليفةً في الصلاة بعد وفاته، وإذا ثبت خلافة أبي بكر في الصلاة بعد وفاته، ثبت خلافته بعد وفاته في غير الصلاة، لعدم القائل بالفصل »(3).
وقال النيسابوري صاحب التفسير، بتفسير آية الغار:
« استدلّ أهل السُنّة بالآية على أفضليّة أبي بكر وغاية اتّحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره، وإلاّ لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة، وأنّه كان ثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العلم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ما صبَّ في صدري شيء إلاّ وصببته في صدر أبي بكر(4). وفي الدعوة إلى الله، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم عرض الإيمان أولا على أبي بكر فآمن، ثمّ عرض أبو بكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان بن عفّان وجماعة أُخرى من أجلّة الصحابة، وكان لا يفارق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجالس والمحافل، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة... »(5).
وقال الكرماني بشرح الحديث:
« وفيه فضيلة أبي بكر رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة، وتنبيه على أنّه أحقّ بخلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غيره »(6).
وقال العيني:
« (ذكر ما يستفاد منه)، وهو على وجوه: الأول: فيه دلالة على فضل أبي بكر رضي الله تعالى عنه. الثّاني: فيه أنّ أبابكر صلّى بالناس في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت في هذه الإمامة التي هي الصغرى دلالة على الإمامة الكبرى. الثالث: فيه أنّ الأحقّ بالإمامة هو الأعلم »(7).
وقال النووي:
« فيه فوائد: منها: فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم وتفضيله، وتنبيه على أنّه أحقّ بخلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غيره. ومنها: أنّ الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلّي بهم، وأنّه لا يستخلف إلاّ أفضلهم. ومنها: فضيلة(8) عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه، لأنّ أبابكر لم يعدل إلى غيره »(9).
وقال المناوي بشرحه:
« تنبيه، قال أصحابنا في الأُصول: يجوز أن يجمع عن قياس، كإمامة أبي بكر هنا، فإنّ الصحب أجمعوا على خلافته ـ وهي الإمامة العظمى ـ ومستندها القياس على الإمامة الصغرى، وهي الصلاة بالناس بتعيين المصطفى صلّى الله عليه وسلّم »(10).
وفي « فواتح الرحموت بشرح مسلَّم الثبوت » في مبحث الإجماع: « (مسألة: جاز كون المستند قياساً، خلافاً للظّاهرية) وابن جرير الطبري، (فبعضهم منع الجواز) عقلا (وبعضهم منع الوقوع) وإن جاز عقلا (والآحاد) أي أخبار الآحاد (قيل كالقياس) اختلافاً. (لنا: لا مانع... (وقد وقع قياس الإمامة الكبرى) وهي الخلافة العامة (على إمامة الصلاة... والحقّ أنّ أمره صلّى الله عليه وسلّم إيّاه بإمامة الصلاة كان إشارة إلى تقدّمه في الإمامة الكبرى على ما يقتضيه ما في صحيح مسلم... »(11).
لكنّك قد عرفت أنّ الحديث ليس له سند معتبر في الصحاح فضلا عن غيرها، ومجرّد كونه فيها ـ وحتّى في كتابي البخاري ومسلم ـ لا يغني عن النظر في سنده وعلى هذا، فلا أصل لما ذكروا، ولا أساس لما بنوا في العقائد وفي الفقه وفي علم الأصول.
______________________
(1) هذا كلام موضوع قطعاً، والذي جاء به... مرسلا كما في الاستيعاب 3/97 هو الحسن البصري المعروف بالإرسال والتدليس والانحراف عن أميرالمؤمنين عليه السلام!!
(2) الأربعين في اُصول الدين: 2/292.
(3) مطالع الأنظار في شرح طوالع الأنوار في علم الكلام: 233.
(4) هذا حديث موضوع، اُنظر: الرسالة في الأحاديث المقلوبة.
(5) غرائب القرآن ورغائب الفرقان 3/471.
(6) الكواكب الدراري 5/52.
(7) عمدة القاري 5/203.
(8) وذلك لأنّ أبابكر قال لعمر: صلِّ للنّاس... وكأنّ أقوال أبي بكر وأفعاله حجّة؟! على أنّهم وقعوا في إشكال في هذه الناحية، كما ستعرف!
(9) المنهاج ـ شرح صحيح مسلم 4/116.
(10) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 5/665.
(11) فواتح الرّحموت بشرح مسلَّم الثبوت 2/239ـ240.
لا دلالة للاستخلاف في إمامة الصلاة على الخلافة
وعلى فرض صحّة حديث أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أبابكر بالصلاة في مقامه فإنّه لا دلالة لذلك على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى لأنّ النبي كان إذا خرج عن المدينة نصب فيها من يصلّي بالناس بل إنّه استخلف ـ فيما يروون ـ ابن أُمّ مكتوم للإمامة وهو أعمى، وقد عقد أبو داود في (سننه) باباً بهذا العنوان فروى فيه هذا الخبر وهذه عبارته: « باب إمامة الأعمى: حدّثنا محمّد بن عبدالرحمن العنبري أبو عبدالله، ثنا ابن مهدي، ثنا عمران القطّان، عن قتادة، عن أنس: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلف ابن أُمّ مكتوم يؤمّ الناس وهو أعمى »(1) فهل يقول أحد بإمامة ابن أُمّ مكتوم لأنّه استخلفه في الصلاة؟!
ولقد اعترف بما ذكرنا ابن تيميّة ـ الملقب بـ « شيخ الإسلام » ـ حيث قال: « فالاستخلاف في الحياة نوع نيابة لابدّ منه لكل وليّ أمر، وليس كلّ ]من[ يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمّة يصلح أن يستخلف بعد الموت، فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلف في حياته غير واحد، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته،كما استعمل ابن أُمّ مكتوم الأعمى في حياته وهو لا يصلح للخلافة بعد موته، وذلك كبشير بن ]عبد[ المنذر وغيره »(2).
بل لقد رووا أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم صلّى خلف عبدالرحمن بن عوف، وهو ـ لو صحّ ـ لم يدلّ على استحقاقه الخلافة من بعده، ولذا لم يدّعها أحد له لكنّه حديث باطل لمخالفته للضرورة القاضية بأنّ النبي لا يصلّي خلف أحد من أُمّته فلا حاجة إلى النظر في سنده.
وعلى الجملة، فإنّه لا دلالة لحديث أمر أبي بكر بالصلاة، ولا لحديث صلاته صلّى الله عليه وآله وسلّم خلفه على امامته من بعده، حتّى لو تمّ الحديثان سنداً.
وأمّا سائر الدلالات الاعتقادية والفقهية والأُصولية التي يذكرونها مستفيدين إيّاها من حديث الأمر بالصلاة في الشروح والتعاليق فكلّها متوقّفة على ثبوت أصل القضية وتماميّة الأسانيد الحاكية لها وقد عرفت أن لا شيء من تلك الأسانيد بصحيح، فأمره
صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرضه أبابكر بالصلاة في موضعه غير ثابت.
_______________________
(1) سنن أبي داود 1/203 كتاب الصلاة باب إمامة الاُعمى الرقم 595.
(2) منهاج السُنّة 7/339.
وجوه كذب أصل القضيّة
بل الثابت عدمه... وذلك لوجوه عديدة يستخرجها الناظر المحقّق في القضيّة وملابساتها من خلال كتب الحديث والتاريخ والسيرة... وهي وجوه قويّة معتمدة، تفيد ـ بمجموعها ـ أنّ القضيّة مختلقة من أصلها، وأنّ الذي أمر أبابكر بالصلاة في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم في أيّام مرضه ليس النبي بل غيره.
فلنذكر تلك الوجوه باختصار:
1 ـ كون أبي بكر في جيش أُسامة
لقد أجمعت المصادر على قضية سرية أُسامة بن زيد، وأجمعت على أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر مشايخ القوم: أبابكر وعمرو... بالخروج معه وهذا أمر ثابت محقّق... وبه اعترف ابن حجر العسقلاني في (شرح البخاري) وأكّده بشرح « باب بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم أُسامة بن زيد رضي الله عنهما في مرضه الذي توفّي فيه » فقال: « كان تجهيز أُسامة يوم السبت قبل موت النبي بيومين ; فبدأ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في اليوم الثالث، فعقد لأُسامة لواءً بيده، فأخذه أُسامة فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرب، وكان ممّن ندب: مع أُسامة كبار المهاجرين والأنصار منهم: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم، فتكلّم في ذلك قوم... ثمّ اشتدّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: أنفذوا بعث أُسامة.
وقد روي ذلك عن الواقدي وابن سعد وابن إسحاق وابن الجوزي وابن عساكر... »(1).
فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بخروج أبي بكر مع أُسامة، وقال في آخر لحظة من حياته: « أنفِذوا ـ أو: جهّزوا ـ بعثَ أُسامة » بل في بعض المصادر « لعن الله من تخلّف عن بعث أُسامة »(2).
هذا أوّلا.
وثانياً: لقد جاء في صريح بعض الروايات كون أبي بكر غائباً عن المدينة. ففي (سنن أبي داود) عن ابن زمعة: « وكان أبو بكر غائباً، فقلت: يا عمر، قم فصلّ بالناس ».
وثالثاً: في كثير من ألفاظ الحديث « فأرسلنا إلى أبي بكر » ونحو ذلك، ممّا هو ظاهر في كونه غائباً.
وعلى كلّ حال، فالنبي الذي بعث أُسامة، وأكّد على بعثه، بل لعن من تخلّف عنه... لا يعود فيأمر بعض من أمر بالخروج معه بالصلاة بالناس، وقد عرفت أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا غاب أو لم يمكنه الحضور للصلاة، استخلف واحداً من المسلمين وإن كان ابن أُمّ مكتوم الأعمى.
________________________
(1) فتح الباري 8/192.
(2) شرح المواقف 8/376 الملل والنحل 1/14 لأبي الفتح الشهرستاني، المتوفّى سنة 458، توجد ترجمته والثناء عليه في: وفيات الأعيان 4/273، تذكرة الحفّاظ 4/1313 طبقات الشافعية للسبكي 6/128، شذرات الذهب 4/149، مرآة الجنان 3/289ـ290 وغيرها.
2 ـ التزامه بالحضور للصلاة بنفسه ما أمكنه
وكما ذكرنا، فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان يستخلف للصلاة إلاّ في حال خروجه عن المدينة، أو في حال لم يمكنه الخروج معها إلى الصلاة وإلاّ، فقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم ملتزماً بالحضور بنفسه ويدلّ عليه ما جاء في بعض الأحاديث أنّه لَمّا ثقل قال: « أصلّى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماءً... » فوضعوا له ماءً فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه(1)وهكذا إلى ثلاث مرّات... وفي هذه الحالة صلّى أبوبكر بالناس، فهل كانت بأمر منه؟!
بل في بعض الأحاديث أنّه كان إذا لم يخرج لعارض حضره المسلمون إلى البيت فصلّوا خلفه.
فقد أخرج مسلم عن عائشة، قالت: « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه، فصلّى رسول الله جالساً فصلّوا بصلاته قياماً ».
وعن جابر قال: « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره »(2).
وأخرج أحمد عن عائشة: « أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى في مرضه وهو جالس، فصلّى وخلفه قوم قياماً... »(3).
ويشهد لِما ذكرنا ـ من ملازمته للحضور إلى المسجد والصلاة بالمسلمين بنفسه ـ ما جاء في كثير من أحاديث القصّة من أنّ بلالا دعاه إلى الصلاة، أو آذنه بالصلاة، فهو كان يجيء متى حان وقت الصلاة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويعلمه بالصلاة، فكان يخرج بأبي هو وأُمّي بنفسه ـ وفي أيّ حال من الأحوال كان ـ إلى الصلاة ويصلّي بالناس.
________________________
(1) في أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يغمى عليه ـ بما للكلمة من المعنى الحقيقي ـ أو لا، كلاماً بين العلماء لا نتعرّض له، لكونه بحثاً عقائديّاً ليس هذا محلّه.
(2) صحيح مسلم 1/391 كتاب الصلاة باب ائتمام المأموم بالإمام. الأرقام 412 و 413.
(3) مسند أحمد 7/86 حديث السيدة عائشة الرقم 23782.
3 ـ استدعاؤه عليّاً عليه السّلام
فأبوبكر وغيره كانوا بالجرف ـ الموضع الذي عسكر فيه أُسامة خارج المدينة ـ وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلّي بالمسلمين وعليٌّ عنده إذ لم يذكر أحد أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره بالخروج مع أُسامة...
حتّى اشتدّ به الوجع... ولم يمكنه الخروج... فقال بلال: « يا رسول الله، بأبي أنت وأُمي من يصلّي بالناس؟ »(1) هنالك دعا عليّاً عليه السّلام قائلا: « ابعثوا إلى علي فادعوه » فقالت عائشة: « لو بعثت إلى أبي بكر » وقالت حفصة: « لو بعثت إلى عمر » فما دُعي عليٌّ ولكن القوم حضروا أو أُحضروا!! « فاجتمعوا عنده جميعاً. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انصرفوا. فإن تك لي حاجة أبعث إليكم، فانصرفوا »(2).
إنّه كان يريد عليّاً عليه السلام ولا يريد أحداً من القوم، وكيف يريدهم وقد أمرهم بالخروج مع أُسامة، ولم يعدل عن أمره؟!
______________________
(1) مسند أحمد 4/60 مسند أنس بن مالك الرقم 12680.
(2) تاريخ الطبري 2/439.
4 ـ أمره بأن يصلّي بالمسلمين أحدهم
فإذ لم يحضر عليُّ، ولم يتمكّن من الحضور للصلاة بنفسه، والمفروض خروج المشايخ وغيرهم إلى جيش أُسامة، أمر بأن يصلّي بالناس أحدهم وذاك ما أخرجه أبو داود عن ابن زمعة فقال:
« لما استعزّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة فقال: مروا من يصلّي بالناس ».
وفي حديث أخرجه ابن سعد عنه قال: « عدتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي توفّي فيه، فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مر الناس فليصلّوا.
قال عبدالله: فخرجت فلقيت ناساً لا أُكلّمهم، فلمّا لقيت عمر ابن الخطّاب لم أبغ من وراءه، وكان أبو بكر غائباً، فقلت له: صلِّ بالناس يا عمر. فقام عمر في المقام فقال عمر: ما كنت أظنّ حين أمرتني إلاّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صلّيت بالناس.
فقال عبدالله: لمّا لم أر أبابكر رأيتك أحقّ من غيره بالصلاة »(1).
وفي خبر عن سالم بن عبيد الأشجعي قال: « إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا اشتدّ مرضه أُغمي عليه، كلّما أفاق قال: مروا بلالا فليؤذّن، ومروا بلالا فليصلّ بالناس »(2).
وقد كان من قبل قد استخلف ابن أُمّ مكتوم ـ وهو مؤذّنه ـ في الصلاة بالناس كما عرفت.
________________________
(1) الطبقات الكبرى 2/170.
(2) بغية الطلب في تاريخ حلب 9/4152، لكمال الدين ابن العديم الحنفي، المتوفّى سنة 660. ترجم له الذهبي واليافعي وابن العماد في تواريخهم وأثنوا عليه. وقال ابن شاكر الكتبي: « وكان محدّثاً حافظاً مؤرّخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً مجوّداً... » فوات الوفيات 3/126.
5 ـ قوله: إنّكنّ لصويحبات يوسف
وجاء في الأحاديث أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعائشة وحفصة: « إنّكنّ لصويحبات يوسف! » وهو يدلّ على أنّه قد وقع من المرأتين ـ مع الإلحاح الشديد والحرص الأكيد ـ ما لا يرضاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فما كان ذلك؟ ومتى كان؟
إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا عجز عن الحضور للصلاة بنفسه، وطلب عليّاً فلم يُدع له ـ بل وجد الإلحاح والإصرار من المرأتين على استدعاء أبي بكر وعمر، فأمر من يصلّي بالناس، والمفروض كون المشايخ في جيش أُسامة ـ أُغمي عليه كما في الحديث، وما أفاق إلاّ والناس في المسجد وأبوبكر يصلّي بهم فعلم أنّ المرأتين قد قامتا بما كانتا ملحّتين عليه ونفذّتاه فقال: « إنّكنّ لصويحبات يوسف » ثمّ بادر إلى الخروج معجّلا معتمداً على رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض كما سيأتي.
فمن تشبيه حالهنّ بحال صويحبات يوسف يعلم ما كان يخفين في أنفسهنّ، ويستفاد عدم رضاه صلّى الله عليه وآله وسلّم بفعلهن مضافاً إلى خروجه...
فلو كان هو الذي أمر أبابكر بالصلاة لما رجع باللّوم عليهنّ، ولا بادر إلى الخروج وهو على تلك الحال.
ولكن شرّاح الحديث ـ الّذين لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة ـ اضطربوا في شرح الكلمة ومناسبتها للمقام:
قال ابن حجر: « إنّ عائشة أظهرت أنّ سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها، كونه لا يسمع المأمومين القراءة، لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك هو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرّحت هي فيما بعد بذلك... وبهذا التقرير يندفع إشكال من قال: إنّ صواحب يوسف لم يقع منهنّ إظهار يخالف ما في الباطن »(1).
قلت: لكنّه كلام بارد، وتأويل فاسد.
أمّا أوّلا: ففيه اعتراف بأنّ قول عائشة: « إنّ أبا بكر رجل أسيف فمر عمر أن يصلّي بالناس » مخالفة للنبي وردّ عليه منها، بحيث لم يتحمّله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال هذا الكلام.
وأمّا ثانياً: فلأنّه لا يتناسب مع بلاغة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحكمته، إذ لم يكن صلّى الله عليه وآله وسلّم يشبّه الشيء بخلافه ويمثّله بضدّه، وإنّما كان يضع المثل في موضعه ولا ريب أنّ صويحبات يوسف إنّما عصين الله بأن أرادت كلّ واحدة منهنّ من يوسف ما أرادته الأُخرى وفُتنت به كما فُتنت به صاحبتها، فلو كانت عائشة قد دفعت النبي عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام الجليل له، ولم تفتتن بمحبّة الرئاسة وعلوّ المقام، لكان النبي في تشبيهها بصويحبات يوسف قد وضع المثل في غير موضعه، وهو أجلُّ من ذلك، فإنّه نقص وحينئذ يثبت أنّ ما قاله النبي إنّما كان لمخالفة المرأة وتقديمها بالأمر ـ بغير إذن منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لأبيها، لأنّها مفتونة بمحبّة الاستطاعة والرغبة في تحصيل الفضيلة واختصاصها وأهلها بالمناقب كما قدّمناه في بيان طرف من أحوالها.
وأمّا ثالثاً: فقد جاء في بعض الأخبار أنّه لمّا قالت عائشة: « إنّه رجل رقيق فمر عمر » لم يجبها بتلك الكلمة بل قال: « مروا عمر »(2) ومنه يظهر أنّ السبب في قوله ذلك لم يكن قولها: « إنّه رجل أسيف ».
وقال النووي بشرح الكلمة:
« أي في التظاهر على ما تردن وكثرة إلحاحكنّ في طلب ما تردنه وتملن إليه، وفي مراجعة عائشة جواز مراجعة وليّ الأمر على سبيل العرض والمشاورة والإشارة بما يظهر أنّه مصلحة وتكون تلك المراجعة بعبارة لطيفة، ومثل هذه المراجعة مراجعة عمر رضي الله عنه في قوله: لا تبشّرهم فيتَّكلوا، وأشباهه كثيرة مشهورة »(3).
قلت: وهذا أسخف من سابقه، وجوابه يظهر ممّا ذكرنا حوله، ومن الغريب استشهاده لعمل عائشة بعمل عمر ومعارضته لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مواقف كثيرة!!
وممّا يؤكّد ما ذكرناه من عدم تماميّة ما تكلّفوا به في بيان وجه المناسبة، أنّ بعضهم ـ كابن العربي المالكي ـ التجأ إلى تحريف الحديث حتّى تتمّ المناسبة، فإنّه على أساس تحريفه تتمّ بكلّ وضوح، لكنّ الكلام في التحريف الذي ارتكبه وسنذكر نصّ عبارته فانتظر.
_______________________
(1) فتح الباري 2/195.
(2) تاريخ الطبري 2/439.
(3) المنهاج شرح صحيح مسلم 4/118.
6 ـ تقديم أبي بكر عمر
ثمّ إنّه قد جاء في بعض الأحاديث تقديم أبي بكر لعمر ـ بل ذكر ابن حجر أنّ إلحاح عائشة كان بطلب من أبيها أبي بكر(1) ـ وقد وقع القول من أبي بكر ـ قوله لعمر: صلّ بالناس ـ موقع الإشكال كذلك، لأنّه لو كان الآمر بصلاة أبي بكر هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف يقول أبو بكر لعمر: صلّ بالناس؟! فذكروا فيه وجوهاً:
أحدها ما تأوّله بعضهم على أنّه قاله تواضعاً.
والثّاني ما اختاره النووي ـ بعد الردّ على الأوّل ـ وهو أنّه قاله للعذر المذكور، أي كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يُسمع الناس!
والثالث ما احتمله ابن حجر، وهو: أن يكون فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحمّلها من الخطر، وعلم قوّة عمر على ذلك فاختاره(2).
وهذه الوجوه ذكرها الكرماني قائلا: « فإن قلت: كيف جاز للصدّيق مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونصب الغير للإمامة؟! قلت: كأنّه فهم أنّ الأمر ليس للإيجاب، أو أنّه قاله للعذر المذكور، وهو أنّه رجل رقيق كثير البكاء لا يملك عينه. وقد تأوّله بعضهم بأنّه قال تواضعاً »(3).
قلت: أمّا الوجه الأوّل فتأويل ـ وهكذا أوّلوا قوله استخلفه الناس وبايعوه: « ولّيت أمركم ولست بخيركم »(4) ـ لكنّه ـ كما ترى ـ تأويل لا يلتزم به ذو مسكة، ولذا قال النووي: « وليس كذلك ».
وأمّا الوجه الثاني، فقد عرفت ما فيه من كلام النبي.
وأمّا الوجه الثالث، فأظرف الوجوه، فإنّه احتمال أن يكون فهم أبوبكر!! الإمامة العظمى!! وعلم ما في تحمّلها من الخطر؟! علم قوة عمر على ذلك فاختاره!! ولم يعلم النبي بقوّة عمر على ذلك فلم يختره!! وإذا كان علم من عمر ذلك فعمر أفضل منه وأحقّ بالإمامة العظمى!!
لكنّ الوجه الوجيه أنّه كان يعلم بأنّ الأمر لم يكن من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعمر كان يعلم أيضاً بذلك، ولذا قال له في الجواب: « أنت أحقّ بذلك »، وقوله لعمر: « صلّ بالناس » يشبه قوله للناس في السقيفة: « بايعوا أيّ الرجلين شئتم » يعني: عمر وأبا عبيدة.
_______________________
(1) فتح الباري 2/195.
(2) فتح الباري 2/195.
(3) الكواكب الدراري 5/70.
(4) طبقات ابن سعد 3/136.
7 ـ خروجه معتمداً على رجلين
إنّه وإن لم يتعرّض في بعض ألفاظ الحديث لخروج النبي صلّى الله عليه وآله إلى الصلاة أصلا، وفي بعضها إشارة إليه ولكن بلا ذكر لكيفيّة الخروج إلاّ أنّ في اللفظ المفصّل ـ وهو خبر عبيدالله عن عائشة، حيث طلب منها أن تحدّثه عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ جاء: « ثمّ إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجد من نفسه خفّةً، فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس ».
وفي حديث آخر عنها: « وخرج النبي يهادي بين رجلين، كأنّي أنظر إليه يخطّ برجليه الأرض ».
وفي ثالث: « فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفّةً، فقام يهادي بين رجلين، ورجلاه تخطّان في الأرض حتّى دخل المسجد ».
وفي رابع: « فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نفسه خفّةً، فخرج وإذا أبو بكر يؤمّ الناس ».
وفي خامس: « فخرج أبوبكر فصلّى بالناس، فوجد رسول الله من نفسه خفّةً، فخرج يهادى بين رجلين ورجلاه تخطّان في الأرض ».
أقول: هنا نقاط نلفت إليها الأنظار على ضوء هذه الأخبار:
1 ـ متى خرج أبوبكر إلى الصلاة؟
إنّه خرج إليها والنبي في حال غشوة، لأنّه لمّا وجد في نفسه خفّةً خرج معتمداً على رجلين.
2 ـ متى خرج رسول الله؟
إنّه خرج عند دخول أبي بكر في الصلاة، فهل كانت الخفّة التي وجدها في نفسه في تلك اللحظات صدفةً، بأن رأى نفسه متمكّناً من الخروج فخرج على عادته، أو أنّه خرج عندما علم بصلاة أبي بكر إمّا بإخبار مخبر، أو بسماع صوت أبي بكر؟ إنّه لا فرق بين الوجهين من حيث النتيجة، فإنّه لو كان قد أمر أبابكر بالصلاة في مقامه لما بادر إلى الخروج وهو على الحال التي وصفتها الأخبار!
3 ـ كيف خرج رسول الله؟
لم يكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقادر على المشي بنفسه، ولا كان يكفيه الرجل الواحد بل خرج معتمداً على رجلين، بل إنّهما أيضاً لم يكفياه، فرجلاه كانتا تخطّان في الأرض، وإنّ خروجاً ـ كهذا ـ ليس إلاّ لأمر يهمّ الإسلام والمسلمين، وإلاّ فقد كان معذوراً عن الخروج للصلاة جماعةً، كما هو واضح. فإن كان خروج أبي بكر إلى الصلاة بأمر منه فقد جاء ليعزله، كما كان في قضيّة إبلاغ سورة التوبة حيث أمر أبابكر بذلك ثمّ أمر بعزله وذاك من القضايا الثابتة المتّفق عليها، لكنّه لم يكن بأمر منه للوجوه التي ذكرناها.
4 ـ على من كان معتمداً؟
واختلفت الألفاظ التي ذكرناها فيمن كان معتمداً عليه مع الاتّفاق على كونهما اثنين فمنها: « رجلين أحدهما العبّاس » ومنها: « رجلين » ومنها: « فقال: انظروا لي من أتّكىء عليه، فجاءت بريرة، ورجل آخر فاتّكأ عليهما ». وهناك روايات فيها أسماء أشخاص آخرين.
ومن هنا اضطربت كلمات الشرّاح فقال النووي بشرح « فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس »:
« وفسّر ابن عبّاس الآخر بعليّ بن أبي طالب. وفي الطريق الآخر: فخرج ويد له على الفضل بن عباس ويد له على رجل آخر، وجاء في غير مسلم: بين رجلين أحدهما أُسامة بن زيد. وطريق الجمع بين هذا كلّه: أنّهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة صلّى الله عليه وسلّم تارةً هذا وتارةً ذاك وذاك، ويتنافسون في ذلك، وهؤلاءهم خواص أهل بيته الرجال الكبار، وكان العباس رضي الله عنه أكثرهم ملازمة للأخذ بيده الكريمة المباركة صلّى الله عليه وسلّم، أو أنّه أدام الأخذ وإنّما يتناوب الباقون في اليد الاخرى، وأكرموا العبّاس باختصاصه بيد واستمرارها له، لما له من السنّ والعمومة وغيرهما، ولهذا ذكرته عائشة رضي الله عنها مسمّىً وأبهمت الرجل الآخر، إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازماً في جميع الطريق ولا معظمه، بخلاف العبّاس، والله أعلم »(1).
وفي خبر آخر عند ابن خزيمة عن سالم بن عبيد: « فجاءوا ببريرة ورجل آخر، فاعتمد عليهما ثم خرج إلى الصلاة »(2).
ترى أنّ «الرجل الآخر » في جميع هذه الطرق غير مذكور، فاضطرّ النووي إلى ذكر توجيه لذلك، بعد أن ذكر طريق الجمع بين مختلف الأخبار، لئلاّ يسقط شيء منها عن الاعتبار!! بعد أن كانت القضيّة واحدة.
وروى أبو حاتم أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج بين جاريتين، فجمع بين الخبرين بأنّه « خرج بين الجاريتين إلى الباب، ومن الباب أخذه العبّاس وعليّ رضي الله تعالى عنهما، حتّى دخلا به المسجد »(3).
لكنّ خبر خروجه بين جاريتين وهم صدر من الذهبي أيضاً(4).
وذكر العيني الجمع الذي اختاره النووي قائلا: « وزعم بعض الناس » ثمّ أشكل عليه بقوله « فإن قلت: ليس بين المسجد وبيته صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم مسافة تقتضي التناوب » فأجاب بقوله « قلت: يحتمل أن يكون ذلك لزيادة في إكرامه صلّى الله عليه وسلّم أو لالتماس البركة من يده »(5).
وأنت تستشمّ من عبارته « وزعم بعض الناس » ثمّ من الإشكال والجواب عدم ارتضائه لما قاله النووي، وكذلك ابن حجر، فقد ردّ ـ كما ستعلم ـ على ما ذكره النووي فيما جاء في رواية معمر: « ولكنّ عائشة لا تطيب نفساً له بخير » ورواية الزهري: « ولكنّها لا تقدر على أن تذكره بخير ».
والتحقيق: إنّ القضيّة واحدة، و« الرجل الآخر » هو عليٌّ عليه السلام « ولكن عائشة... » أمّا ما ذكره النووي فقد عرفت ما فيه، وقد أورد العيني ما في رواية معمر والزهري ثمّ قال « وقال بعضهم: وفي هذا ردّ على من زعم أنّها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة ولا معظمها » قال العيني « قلت: أشار بهذا إلى الردّ على النووي ولكنّه ما صرّح باسمه لاعتنائه به ومحاماته له »(6).
قلت: والعيني أيضاً لم يذكر اسم القائل وهو ابن حجر، ولا نصّ عبارته لشدّتها، ولنذكرها كاملةً، فإنّه كما لم يصرّح باسم النووي كذلك لم يصرّح باسم الكرماني الذي اكتفى هنا بأن قال: « لم يكن تحقيراً أو عداوةً، حاشاها من ذلك »(7) وهي هذه بعد روايتي معمر والزهري: « وفي هذا ردّ على من تنطّع فقال: لا يجوز أن يظنّ ذلك بعائشة، وردّ على من زعم أنّها أبهمت الثاني لكونه لم يتعينّ في جميع المسافة وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العبّاس، واختصّ بذلك إكراماً له. وهذا توهّم ممّن قاله، والواقع خلافه، لأنّ ابن عبّاس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأنّ المبهم عليّ فهو المعتمد. والله أعلم »(8).
إلاّ أنّ من القوم من حملته العصبيّة لعائشة على أن ينكر ما جاء في رواية معمر والزهري، وقد أجاب عن ذلك ابن حجر حاملا الإنكار على الصحّة فقال: « ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبّر عنها بعبارة شنيعة »(9).
_______________________
(1) المنهاج شرح صحيح مسلم 4/117.
(2) عمدة القاري 5/188.
(3) عمدة القاري 5/188.
(4) عمدة القاري 5/190.
(5) عمدة القاري 5/188.
(6) عمدة القاري 5/192.
(7) الكواب الدراري 5/52.
(8 و9) فتح الباري 2/198.
8 ـ حديث صلاته خلف أبي بكر
وحديث أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أئتمّ في تلك الصلاة بأبي بكر ـ بالإضافة إلى أنّه في نفسه كذب كما سيأتي ـ دليل آخر على على أنّ أصل القضية ـ أعني أمره أبابكر بالصلاة ـ كذب وبيان ذلك في الوجوه الآتية.
9 ـ وجوب تقديم الأقرأ
هذا، وينافي حديث الأمر بالصلاة منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما ثبت عنه من وجوب تقديم الأقرأ في الإمامة إذا استووا في القراءة، وفي الصحاح أحاديث متعدّدة دالة على ذلك، وقد عقد البخاري باب « إذا استووا في القراءة فليؤمّهم أكبرهم »(1).
وذلك، لأنّ أبابكر لم يكن الأقرأ بالإجماع وهذا أيضاً من المواضع المشكلة التي اضطربت فيها كلماتهم.
قال العيني: « واختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة فقالت طائفة: الأفقه وبه قال أبو حنيفة ومالك والجمهور، وقال أبو يوسف وأحمد وإسحاق: الأقرأ » فأجاب عن الإشكال بعدم التعارض « لأنّه لا يكاد يوجد إذ ذاك قارىء إلاّ وهو فقيه » قال: « وأجاب بعضهم بأنّ تقديم الأقرأ كان في أوّل الإسلام »(2).
وقال ابن حجر بشرح عنوان البخاري المذكور: « هذه الترجمة منتزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري مرفوعاً وقد نقل ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أنّ شعبة كان يتوقّف في صحّة هذا الحديث. ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري... قيل: المراد به الأفقه. وقيل: هو على ظاهره.
وبحسب ذلك اختلف الفقهاء، قال النووي قال أصحابنا: الأفقه مقدّم على الأقرأ، ولهذا قدّم النبي صلّى الله عليه وسلّم أبابكر في الصلاة على الباقين، مع أنّه صلّى الله عليه وسلّم نصَّ على أنّ غيره أقرأ منه ـ كأنّه عنى حديث: أقرؤكم اُبيّ ـ قال: وأجابوا عن الحديث بأنّ الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ».
قال ابن حجر « قلت: وهذا الجواب يلزم منه أنّ من نصّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على أنّه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأنّ تقديم أبي بكر كان لأنّه الأفقه ».
قال: « ثمّ قال النووي بعد ذلك: إنّ قوله في حديث أبي مسعود: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُنّه، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم في الهجرة. يدلّ على تقديم الأقرأ مطلقاً. إنتهى ».
قال ابن حجر: « وهو واضح للمغايرة »(3).
أقول: فانظر إلى اضطراباتهم وتمحّلاتهم في الباب، وما ذلك كلّه إلاّ دليلا على عجزهم عن حلّ الإشكال، وإلاّ فأيّ وجه لحمل حديث تقديم الأقرأ على « صدر الإسلام » فقط؟ أو حمله على أنّ المراد هو « الأفقه »؟! وهل كان أبو بكر الأفقه حقّاً؟!
وأمّا الوجه الآخر الذي نسبه النووي إلى أصحابه، فقد ردّ عليه ابن حجر وتراهم بالتالي يعترفون بوجوب تقديم الأقرأ أو يسكتون!!
إنّ المتّفق عليه في كتابي البخاري ومسلم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان هو الإمام في تلك الصلاة. وكذا جاء في حديث غيرهما... فهذه طائفة من الأخبار صريحة في ذلك...
وطائفة أُخرى فيها بعض الإجمال... كالحديث عند النسائي: « وكان النبي بين يدي أبي بكر، فصلّى قاعداً، وأبو بكر يصلّي بالناس، والناس خلف أبي بكر ». والآخر عند ابن ماجة: « ثمّ جاء رسول الله حتّى جلس إلى جنب أبي بكر حتّى قضى أبو بكر صلاته ».
وطائفة ثالثة ظاهرة أو صريحة في صلاته خلف أبي بكر: كالحديث عند النسائي وأحمد: « إنّ أبابكر صلّى للناس ورسول الله في الصفّ » والحديث عند أحمد: « صلّى رسول الله خلف أبي بكر قاعداً » وعنده أيضاً: « وصلّى النبي خلفه قاعداً ».
ومن هنا، كان هذا الموضع من المواضع المشكلة عند الشرّاح، حيث اضطربت كلماتهم واختلفت أقوالهم فيه ; قال ابن حجر: « وهو اختلاف شديد »(4).
فابن الجوزي وجماعة أسقطوا ما أفاد صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلف أبي بكر عن الإعتبار، بالنظر إلى ضعف سنده، وإعراض البخاري ومسلم عن إخراجه(5). قال ابن عبدالبرّ: « الآثار الصحاح على أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الإمام »(6) وقال النووي: « وإن كان بعض العلماء زعم أنّ أبابكر كان هو الإمام والنبي مقتد به، لكنّ الصواب أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان هو الإمام. وقد ذكره مسلم »(7).
لكن فيه: أنّه إن كان دليل الردّ ضعف السند، فقد عرفت أنّ جميع ما دلّ على أمره أبابكر بالصلاة ضعيف، وإن كان دليل الردّ إعراض الشيخين، فقد ثبت لدى المحقّقين أنّ إعراضهما عن حديث لا يوهنه، كما أنّ إخراجهما لحديث لا يوجب قبوله. نعم، خصوم ابن الجوزي وجماعته ملتزمون بذلك.
وعبد المغيث بن زهير الحنبلي البغدادي وجماعة قالوا: كان أبوبكر هو الإمام، أخذاً بالأحاديث الصريحة في ذلك، قال الضياء المقدسي وابن ناصر: « صحّ وثبت أنّه صلّى الله عليه وسلّم صلّى خلفه مقتدياً به في مرضه الذي توفّي فيه، ثلاث مرّات، ولا ينكر ذلك إلاّ جاهل لا علم له بالرواية »(8).
لكن فيه: أنّها أحاديث ضعيفة جدّاً، ومن عمدتها ما رواه شبابة ابن سوار المدلّس المجروح عند المحقّقين على أنّ قولهما: « ثلاث مرّات » معارض بقول بعضهم « كان مرّتين » وبه جزم ابن حبّان(9) وأمّا رمي المنكرين بالجهل فتعصّب.
والعيني وجماعة على الجمع بتعدّد الواقعة، قال العيني: « وروي حديث عائشة بطرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وفيه اضطراب غير قادح.
وقال البيهقي: لا تعارض في أحاديثها، فإنّ الصلاة التي كان فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم إماماً هي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد، والتي كان فيها مأموماً هي صلاة الصبح من يوم الاثنين وهي آخر صلاة صلاّها صلّى الله عليه وسلّم حتّى خرج من الدنيا.
وقال نعيم بن أبي هند: الأخبار التي وردت في هذه القصة كلها صحيحة وليس فيها تعارض، فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد، في إحداهما كان إماماً وفي الأُخرى كان مأموماً »(10).
قلت:
أوّلا: إنّ كلام البيهقي في الجمع أيضاً مضطرب، فهو لا يدري الصلاة التي كان فيها إماماً أهي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد!؟ وكأنّ المهمّ عنده أن يجعل الصلاة الأخيرة ـ يوم الاثنين ـ صلاته مأموماً، كي تثبت الإمامة العظمى لأبي بكر بالإمامة الصغرى!!
وثانياً: إنّ نعيم بن أبي هند ـ الذي حكم بصحّة كلّ الأخبار، وجمع كالبيهقي بالتعدّد لكن من غير تعيين، لجهله بواقع الأمر! ـ رجل مقدوح مجروح لايعتمد على كلامه، كما تقدّم في محلّه.
وثالثاً: إنّه اعترف بوجود الاضطراب في حديث عائشة، وكذا اعترف بذلك ابن حجر، ثمّ ذكر الاختلاف، وظاهره ترك المطلب على حاله من دون اختيار، ثمّ أضاف أنّه « اختلف النقل عن الصحابة غير عائشة، فحديث ابن عبّاس فيه: أنّ أبابكر كان مأموماً وحديث أنس فيه: أنّ أبابكر كان إماماً. أخرجه الترمذي وغيره »(11).
والتحقيق:
إنّ القصّة واحدة لا متعدّدة، فالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج في تلك الواقعة إلى المسجد ونحّى أبابكر عن المحراب، وصلّى بالناس بنفسه وكان هو الإمام وصار أبوبكر مأموماً وأمّا قبلها فكان هو ـ صلّى الله عليه وآله ـ المصلّي بالمسلمين الموجودين في المدينة، أو كان يصلّي بهم أحدهم.
هذا هو التحقيق بالنظر إلى الوجوه المذكورة، وفي متون الأخبار، وفي تناقضات القوم، وفي ملابسات القصّة. ثمّ وجدنا إمام الشافعيّة يصرّح بهذا الذي انتهينا إليه قال ابن حجر: « وقد صرّح الشافعي بأنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يصلّ بالناس في مرض موته في المسجد إلاّ مرّة واحدة، وهي هذه التي صلّى فيها قاعداً، وكان أبوبكر فيها أوّلا إماماً ثمّ صار مأموماً يُسمع الناس التكبير »(12).
اذن، ما صلّى أبو بكر في مكان النبي إلاّ صلاةً واحدةً وهي الصّلاة الأخيرة، وقد صار فيها مأموماً!
ثمّ إنّ هذا الذي صرّح به الشافعي من أنّ أبابكر « صار مأموماً يُسمع الناس التكبير » ممّا شقّ على كثير من القوم التصريح به، فجعلوا يتّبعون أهواءهم في رواية الخبر وحكاية الحال، فانظر إلى الفرق بين عبارة الشافعي وما جاء مشابهاً لها في بعض الأخبار، وعبارة من قال:
« فكان أبوبكر يصلّي بصلاة رسول الله وهو جالس، وكان الناس يصلّون بصلاة أبي بكر ».
ومن قال:
« فكان أبوبكر يصلّي قائماً، وكان رسول الله يصلّي قاعداً، يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر ».
ومن قال:
« فصلّى قاعداً وأبو بكر يصلّي بالناس، والناس خلف أبي بكر ».
ومن قال:
« فكان أبو بكر يأتمّ بالنبي والناس يأتمون بأبي بكر ».
ومن قال:
« جاء رسول الله حتى جلس إلى جنب أبي بكر حتّى قضى أبوبكر صلاته ».
إنّهم يقولون هكذا كي يوهموا ثبوت نوع إمامة لأبي بكر!! وتكون حينئذ كلماتهم مضطربة مشوّشة بطبيعة الحال!! وبالفعل، فقد وقع التوهّم...
واختلف الشرّاح في القضيّة وتوهّم بعضهم فروعاً فقهيّة، كقولهم بصحّة الصلاة بإمامين!!: فقد عقد البخاري: « باب الرجل يأتمّ بالإمام ويأتمّ الناس بالمأموم » وذكر الحديث عن عائشة الذي فيه: « وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر »(13).
وقال العيني بعد الحديث « قيل للأعمش: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي وأبو بكر يصلّي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم! ».
قال: « استدلّ به الشعبي على جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، وهو مختار الطبري أيضاً، وأشار إليه البخاري ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ.
وردّ بأنّ أبابكر رضي الله عنه كان مبلّغاً، وعلى هذا، فمعنى الاقتداء اقتداؤه بصوته، والدليل عليه أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان جالساً وأبوبكر كان قائماً، فكانت بعض أفعاله تخفى على بعض المأمومين، فلأجل ذلك كان أبوبكر كالإمام في حقهم »(14).
أقول: ولذا شرح السيوطي الحديث في الموطّأ بقوله:
« أي يتعرّفون به ما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفعله لضعف صوته عن أن يُسمع الناس تكبير الانتقال، فكان أبو بكر يُسمعهم ذلك »(15).
ويشهد بذلك الحديث المتقدّم عن جابر: « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره ».
بل لقد عقد البخاري نفسه: « باب من أسمع الناس تكبير الإمام » وأخرج الحديث تحته(16)!!
_______________________
(1) صحيح البخاري 1/242.
(2) عمدة القاري 5/203.
(3) فتح الباري 2/217ـ218.
(4) فتح الباري 2/197.
(5) لابن الجوزي رسالة في هذا الباب أسماها « آفة أصحاب الحديث في الردّ على عبد المغيث » نشرناها لأول مرّة بمقدّمة وتعاليق هامّة سنة 1398.
(6) عمدة القاري 5/191.
(7) المنهاج شرح صحيح مسلم 4/113.
(8) عمدة القاري 5/191، لعبد المغيث رسالة في هذا الباب، ردّ عليها ابن الجوزي برسالته المذكورة.
(9) عمدة القاري 5/191.
(10) عمدة القاري 5/191.
(11) فتح الباري 2/197ـ198.
(12) فتح الباري 2/222ـ223.
(13) صحيح البخاري 1/252 كتاب الجماعة والإمامة باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم الرقم 681.
(14) عمدة القارى 5/190.
(15) تنوير الحوالك على موطأ مالك 1/156.
(16) صحيح البخاري 1/251 كتاب الجماعة والإمامة باب من أسمع الناس تكبير الإمام الرقم 680.
10 ـ لا يجوز لأحد التقدّم على النبيّ
هذا كلّه، بغضّ النظر عن أنّه لا يجوز لأحد أن يتقدّم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمّا بالنظر إلى هذه القاعدة ـ المسلَّمة كتاباً وسُنّةً ـ فجميع أحاديث المسألة باطلة. ولقد نصَّ على تلك القاعدة كبار الفقهاء، منهم: إمام المالكية وأتباعه، وعن القاضي عياض إنّه قول مشهور عن مالك وجماعة أصحابه، قال: وهذا أولى الأقاويل(1) وقال الحلبي بعد حديث تراجع أبي بكر عن مقامه: « وهذا استدلّ به القاضي عياض رحمه الله على أنّه لا يجوز لأحد أن يؤمّه صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه لا يصلح للتقدم بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، في الصلاة ولا في غيرها، لا لعذر ولا لغيره، ولقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعاً له صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال: صلّى الله عليه وسلّم: أئمّتكم شفعاؤكم. وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته صلّى الله عليه وسلّم خلف عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ركعةً، وسيأتي الجواب عن ذلك »(2).
قلت: يشير بقوله: « وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك » إلى قوله عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)(3)وقد تبع في ذلك إمامه مالك بن أنس كما في فتح الباري(4) لكن من الغريب جدّاً قول ابن العربي المالكي: « المسألة الخامسة قوله تعالى: (لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أصلٌ في ترك التعرّض لأقوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيجاب أتّباعه والاقتداء به، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه: مروا أبابكر فليصلّ بالناس. فقالت عائشة لحفصة قولي له: إنّ أبابكر رجلٌ أسيف، وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عليّاً(5) فليصلِّ بالناس، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصلّ بالناس.
يعني بقوله: صواحب يوسف الفتنة بالردّ عن الجائز إلى غير الجائز »(6).
أقول: إنّ الرجل يعلم جيّداً بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يتمثّل بقوله: « إنّكنّ صواحب يوسف » إلاّ لوجود فتنة من المرأتين، فحرّف الحديث من « فمر عمر » إلى « فمر عليّاً » ليتمّ تشبيه النبي المرأتين بصويحبات يوسف، لأنّ المرأتين أرادتا الردّ عن الجائز « وهو صلاة أبي بكر! » إلى غير الجائز « وهو صلاة عليّ! ».
إذن، جميع أحاديث المسألة باطلة.
أمّا التي دلّت على صلاة النبي خلف أبي بكر، فواضح جداً.
وأمّا الّتي دلّت على أنّه كان النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الإمام، فلاشتمالها على استمرار أبي بكر في الصلاة، وقد صحّ عنه أنّه في صلاته بالمسلمين عندما ذهب رسول الله إلى بني بن عوف ليصلح بينهم لمّا حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في الصلاة « استأخر » ثمّ قال: « ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله ».
وهذا نصّ الحديث عن سهل بن سعد الساعدي.
« إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى بني عمرو ابن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة، فجاء المؤذّن إلى أبي بكر فقال: أتصلّي للناس فأُقيم؟ قال: نعم. فصلّى أبوبكر. فجاء رسول الله والناس في الصلاة، فتخلّص حتّى وقف في الصفّ، فصفّق الناس، وكان أبوبكر لا يلتفت في صلاته.
فلمّا أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك. فرفع أبوبكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك، ثمّ استأخر أبوبكر حتى استوى في الصفّ، وتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى.
فلمّا انصرف قال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله ».
وقد التفت ابن حجر إلى هذا التعارض فقال بشرح الحديث:
« فصلّى أبوبكر، أي: دخل في الصلاة، ولفظ عبد العزيز المذكور: وتقدّم أبوبكر فكبّر. وفي رواية المسعودي عن أبي حازم: فاستفتح أبو بكر الصّلاة وهي عند الطبراني.
وبهذا يُجاب عن الفرق بين المقامين، حيث امتنع أبوبكر هنا أن يستمرّ إماماً وحيث استمرّ في مرض موته صلّى الله عليه وسلّم حين صلّى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرّح به موسى بن عقبة في المغازى، فكأنّه لمّا أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار، ولمّا أن لم يمض منها إلاّ اليسير لم يستمرّ »(7).
وهذا عجيب من ابن حجر!!
فقد جاء في الأحاديث المتقدّمة: « فصلّى » كما في هذا الحديث الذي فسّره بـ « أي: دخل في الصلاة »، فانظر منها الحديث الأوّل والحديث السابع من الأحاديث المنقولة عن صحيح البخاري.
بل جاء في بعضها: « فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفّة » فانظر الحديث الثامن من أحاديث البخاري.
لكنّ بعض الكذّابين روى في هذا الحديث أيضاً: « فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلف أبي بكر رضي الله عنه » قال الهيثمي: « رواه الطبراني وفي إسناد الطيراني عبدالله بن جعفر ابن نجيح وهو ضعيف جدّاً »(8).
فظهر أن لا فرق ولا يجوز لأبي بكر ولا لغيره من أفراد الأُمّة التقدّم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا في الصلاة ولا في غيرها.
_______________________
(1) نيل الأوطار 3/182.
(2) السيرة الحلبية 3/388.
(3) سورة الحجرات 49:1.
(4) فتح الباري 2/223.
(5) فكان الحديث بثلاثة ألفاظ 1 ـ « فمرغيره » 2 ـ « فمر عمر » 3 ـ « فمر علّياً » وهذا من جملة التعارضات الكثيرة الموجودة بين ألفاظ هذه القضيّة الواحدة!! لكنّا نغضّ النظر عن التعرّض له خوفاً من الإطالة إلاّ أنّه لا مناص من ذكر الأمر الأغرب من هذا الرجل! وهو التناقض والتعارض الموجود بين هذا الذي نقلناه عن كتابه (أحكام القرآن) وبين الموجود في كتابه الآخر (العواصم من القواصم: 192) حيث يقول في سياق ردّه وطعنه على الإماميّة!!: « ولا تستغربوا هذا من قولهم، فهم يقولون إن النبي كان مدارياً لهم معيناً لهم على نفاق وتقية، وأين أنت من قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين سمع قول عائشة: مروا عمر فليصل بالناس ـ: إنكن لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصلّ بالناس ».
(6) أحكام القرآن 4/145.
(7) فتح الباري 2/214.
(8) مجمع الزوائد 5/330 كتاب الخلافة باب الخلفاء الأربعة الرقم 8933.
11 ـ خطبة النبي بعد الصلاة
ثمّ إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم قام معتمداً على علي والفضل حتى جلس على المنبر وعليه عصابة، فحمد الله وأثنى عليه وأوصاهم بالكتاب وعترته أهل بيته، ونهاهم عن التنافس والتباغض، وودّعهم(1).
_______________________
(1) جواهر العقدين: 234.
12 ـ رأي أميرالمؤمنين في القضيّة
وبعد أن لاحظنا متون الأخبار ومداليلها، ووجدنا التعارض والتكاذب فيما بينها، بحيث لا طريق صحيح للجمع بينها بعد كون القضيّة واحدة واستخلصنا أنّ صلاة أبي بكر في مرض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم تكن بأمر منه قطعاً فلنرجع إلى مولانا أميرالمؤمنين عليه السّلام، لنرى رأيهُ في أصل القضيّة فيكون شاهداً على ما استنتجناه، ولنرى أيضاً أنّ صلاة أبي بكر بأمر من كانت؟؟
لقد حكى ابن أبي الحديد المعتزلي عن شيخه أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني حول ما كان بين أميرالمؤمنين وعائشة، جاء فيه:
« فلمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرضه، أنفذ جيش أُسامة وجعل فيه أبابكر وغيره من أعلام المهاجرين والأنصار، فكان عليٌّ عليه السّلام حينئذ بوصوله إلى الأمر ـ إن حدث برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حدث ـ أوثق، وتغلّب على ظنّه أنّ المدينة ـ لو مات ـ لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكليّة، فيأخذه صفواً عفواً، وتتمّ له البيعة فلا يتهيّأ فسخها لو رام ضدٌّ منازعته عليها. فكان من عود أبي بكر من جيش أُسامة ـ بإرسالها إليه وإعلامه بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يموت ـ ما كان، ومن حديث الصلاة بالناس ما عرف.
فنسب عليٌّ عليه السلام إلى عائشة أنّها أمرت بلالا ـ مولى أبيها ـ أن يأمره فليصلّ بالناس، لأنّ رسول الله كما روي قال: « ليصلّ بهم أحدهم » ولم يعيّن، وكانت صلاة الصبح، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو في آخر رمق يتهادى بين عليّ والفضل بن العبّاس، حتّى قام في المحراب ـ كما ورد في الخبر ـ ثمّ دخل فمات ارتفاع الضحى، فجعل يوم صلاته حجّةً في صرف الأمر إليه وقال: أيّكم يطيب نفساً أن يتقدّم قدمين قدّمهما رسول الله في الصلاة؟! ولم يحملوا خروج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الصلاة لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن.
فبويع على هذه النكتة التي اتهمها عليٌّ عليه السلام على أنّها ابتدأت منها.
وكان عليٌّ عليه السّلام يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيراً ويقول: إنّه لم يقل صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّكنّ لصويحبات يوسف إلاّ إنكاراً لهذه الحال وغضباً منها، لأنّها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وإنّه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب، فلم يُجد ذلك ولا أثّر، مع قوّة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر ويمهّد له قاعدة الأمر، وتقرّر حاله في نفوس الناس ومن اتّبعه على ذلك من أعيان المهاجرين والأنصار.
فقلت له رحمه الله: أفتقول أنت إنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يعيّنه؟!
فقال: أمّا أنا فلا أقول ذلك، ولكنّ عليّاً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً »(1).
_______________________
(1) شرح نهج البلاغة 9/196 ـ 198.
نتيجة البحث
لقد استعرضنا أهمّ أحاديث القضيّة، وأصحهّا، ونظرنا أوّلا في أسانيدها، فلم نجد حديثاً منها يمكن قبوله والركون إليه في مثل هذه القضية، فرواة الأحاديث بين « ضعيف » و« مدلّس » و« ناصبيّ » و« عثماني » و« خارجيّ » وكونها في الصحاح لا يجدي، وتلقّي الكلّ إياها بالقبول لا ينفع.
ثمّ نظرنا في متونها ومداليلها بغضّ النظر عن أسانيدها، فوجدناها متناقضة متضاربةً يكذّب بعضها بعضاً بحيث لا يمكن الجمع بينها بوجه بعد أن كانت القضيّة واحدة، كما نصّ عليه الشافعي ومن قال بقوله من أعلام الفقه والحديث.
ثمّ رأينا أنّ الأدلّة والشواهد الخارجيّة القويمة تؤكّد على استحالة أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي أمر أبابكر بالصلاة في مقامه.
وخلاصة الأمر الواقع: أنّ النبي لمّا مرض كان أبوبكر غائباً بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث كان مع أُسامة بن زيد في جيشه،وكان النبي يصلّي بالمسلمين بنفسه، حتّى إذا كانت الصلاة الأخيرة حيث غلبه الضعف واشتدّ به المرض طلب عليّاً فلم يُدعَ له، فأمر بأن يصلّي بالناس الموجودين بالمدينة أحدهم، فلمّا التفت بأنّ المصلّي بهم أبوبكر خرج معتمداً على أميرالمؤمنين ورجل آخر ـ وهو في آخر رمق من حياته ـ لأن يصرفه عن المحراب ويصلّي بالمسلمين بنفسه ـ لا أن يقتدي بأبي بكر! ـ وليعلن بأنّ صلاته لم تكن بأمر منه، بل من غيره!!.
ثمّ رأينا أنّ أميرالمؤمنين عليه السّلام كان يرى أنّ الأمر كان من عائشة و« عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ »(1).
وصلّى الله على رسوله الأمين، وعلى عليّ أميرالمؤمنين والأئمّة المعصومين، والحمد لله ربّ العالمين.
_______________________
(1) كما في الأحاديث الكثيرة المتفق عليها بين المسلمين، أنظر من مصادر أهل السُنّة المعتبرة: سنن الترمذي 5/398 كتاب المناقب باب مناقب عليّ بن أبي طالب الرقم 3734، المستدرك 3/135 كتاب معرفة الصحابة مناقب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب الرقم 4629، جامع الأُصول 7/176 كتاب الفضائل والمناقب باب فضائل الصحابة مجملا الرقم 6382، مجمع الزوائد 7/476ـ477 كتاب الفتن باب فيما كان في الجمل وصفين وغيرهما الرقم 12031، تاريخ بغداد 14/322 وغيرها.