الكونفشيوسية دين الصين وفلسفتها
  • عنوان المقال: الكونفشيوسية دين الصين وفلسفتها
  • الکاتب: الشبكة الإسلامية
  • مصدر: الشبكة الإسلامية
  • تاريخ النشر: 18:13:59 1-9-1403

تبوأ كنفوشيوس منزلة عالية في تاريخ الصين منذ ما يزيد على خمسة وعشرين قرناً، وحلّ في سويداء قلوب الصينيين وعقولهم، وغدت فلسفته هي الظاهر الباطن في تحديد سلوكيات الصينيين ونمط تفكيرهم .

فمن هو كنفوشيوس ؟ وكيف نشأ ؟ وما هو دينه أو فلسفته ؟ وما هو تراثه ونتاجه العلمي ؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما نحاول الإجابة عليه في هذه السطور التي كتبناها تسليطا للضوء على هذه الديانة أو الفلسفة التي بسطت سيطرتها على تلك الرقعة الكبيرة من العالم ( الصين ) .

أوّلاً : من هو كنفوشيوس : اسمه كونج - فو - دزه أو كونج المعلم كما كان تلاميذه يسمونه، ولد سنة 551 ق. م في مدينة (تشو - فو) إحدى مدن (لو lu ) الصينية .

وكعادة الصينيين في خصوبة خيالهم، فقد نسجوا قصصاً خرافية حول مولد كنفوشيوس فزعموا: أنّ الأشباح أخبرت أمّه الشابة بمولده، وأنّ الأرواح الإناث كانت تمدّها بالهواء وهي تلده في أحد الكهوف. وتقول تلك الأقاصيص أيضاً : أنّه كان له ظهر كظهر التنين، وشفتا ثور، وفم في سعة البحر .

عاش كونج - فو - دزه أو كما ينطقها الغربيون كنفوشيوس فقيراً، حيث مات والده وهو ابن ثلاث سنين فربته والدته، فكان يدرس ويعمل بعد الفراغ من المدرسة ليساعد على إعالة والدته .

وعندما بلغ التاسعة عشرة من عمره تزوّج، ولم تمض عليه خمس سنوات حتى طلق زوجته بعد أن رزق منها بابن، ويقال أنّه لم يتزوج بعدها قط.

واشتغل في سنّ الثالثة والعشرين بالتعليم، واتخذ داره مدرسة له، وكان التعليم آنذاك مختصا بالطبقة الارستقراطية، فكسر ذلكم القانون بتعليمه أولاد الفقراء أيضاً، وكان يتقاضى من تلاميذه ما يستطيعون أداءه من الرسوم مهما كانت قليلة .

ولم يكن له في بادئ الأمر إلاّ عدد قليل من التلاميذ، ولكن سرعان ما تواترت الإشاعات

بسعة علمه، ومبلغ ذكائه، فالتفّ الناس حوله، حتى استطاع في آخر أيام حياته أن يفخر بأنّه قد تخرّج على يديه ثلاثة آلاف شاب غادروا منزله ليشغلوا مراكز خطيرة في العالم .

تعرض كنفوشيوس في أثناء حياته للتشرد والإبعاد نتيجة اشتغاله بالسياسة، وطلبه المناصب، حيث رأى حروباً وفوضى سياسية اعتقد أنّه لا حلّ لها إلاّ من خلال حكومة صالحة تطبق مبادئ الفلسفة لتسيير دفة الحكم، حتى أثر عنه قوله :( لو وجد من الأمراء من يوليني عملا لقمت في اثني عشر شهراً بأعمال جليلة ولبلغت (الحكومة) درجة الكمال في ثلاث سنين ).

إلاّ أنّه لم يكن يقبل بأيّ ولاية تعرض عليه إذا رأى في مبادئ أصحابها ما يتناقض مع مبادئه .

ويقال : أنّه توّلى بعض الولايات في بعض مراحل عمره فعمّ العدل، ونعمت المدينة بالأمن والأمان، وتقول الرواية الصينية أنّ المدينة في أيامه قد اجتاحتها موجة جارفة من الشرف والأمانة، فكان إذا سقط شئ في الطريق بقي حيث هو أو أعيد إلى صاحبه.

وبقدر ما تولى كنفوشيوس من مناصب بقدر ما تعرّض لنكبات السياسة وتقلب أحوال أهلها، حيث اضطر في فترة ما أن يهرب مع عدد قليل من مريديه المخلصين مغضوباً عليهم في وطنهم، فأخذوا يتنقلون من إقليم إلى إقليم يلقون في بعضها مجاملة وترحاباً، ويتعرّضون في بعضها الآخر لضروب من الحرمان والأذى.

ولما بلغ كنفوشيوس التاسعة والستين من عمره، أكرمه بعض الحكام فجعله مستشاراً عنده فكان الولاة يأتونه مستنصحين ومسترشدين به، وقضى كنفوشيوس الأعوام الخمسة الباقية من حياته، يعيش حياة بسيطة معززاً مكرماً، قضى معظم وقته في عزلة أدبية، منصرفاً إلى نشر الكتب الصينية وكتابة تاريخ الصينيين.

مات كنفوشيوس في الثانية والسبعين من عمره، وواراه تلاميذه التراب باحتفال مهيب، وبنوا حول قبره أكواخا لهم، أقاموا فيها ثلاث سنين يبكونه كما يبكي الأبناء آباءهم. وبعد أن مضت تلك المدّة غادروا جميعاً أكواخهم إلاّ دزه - كونج وهو أخلص تلاميذه، فقد كان حبه إياه يفوق حبهم جميعاً، فبقي بجوار قبر أستاذه ثلاث سنين أخرى واجماً حزيناً على موت معلمه.

 

تراث كنفوشيوس :

مات كنفوشيوس وخلف وراءه خمسة مجلدات يقال أنّه كتبها بنفسه، وتعرف في الصين باسم ( الجنجات الخمسة) أو (كتب القانون الخمسة)، وهذه الكتب هي :

1- اللي - جي أو سجل المراسم وهو كتاب يشتمل على القواعد القديمة من آداب اللياقة، والأسس الدقيقة لتكوين الأخلاق ونضجها، بما يساعد على استقرار النظام الاجتماعي .

2- كتب ذيولاً وتعليقات على كتاب (إلاي - جنج) أو (كتاب التغيرات) وموضوعه علم ما وراء الطبيعة، رغم حرصه على ألاّ يلج بفلسفته إلى هذا المجال المستعصي على عقل الإنسان وحسه .

3- كتاب (الشي - جنج) وهو كتاب أناشيد قام بترتيبه وتبويبه، كما شرح فيه كنه الحياة، ومبادئ الأخلاق الفاضلة .

4- كتاب (التشو - شيو) وهو كتاب تاريخ سجل فيه أهم الأحداث التي وقعت في مدينته (لو) .

5- (الشو - جنج) وهو كتاب تاريخ آخر ولكنه أشمل، حيث جمع فيه أهم وأرقى ما وجده في حكم الملوك الأولين من الحوادث والقصص .

ولم يكن وهو يعمل في هذه الكتب يرى أن وظيفته هي وظيفة المؤرخ، بل كان فيها كلها معلماً ومهذّباً للشباب ، فقد أضاف إلى الحوادث الواقعية خطباً وقصصاً من عنده صبّ فيها أكثر ما يستطيع من الحضّ على الأخلاق الكريمة، والإعجاب بالحكمة.

ويضيف الصينيون إلى هذه الكتب الخمسة أربعة كتب أخرى، هي مما ألفها مريدو مريديه، إلاّ أنّها سجلت في إيجاز ووضوح منقطعي النظير آراء وأقوال كنفوشيوس كما ذكرها أتباعه، وقد جمعت تلك الكتب بعد عشرات السنين من وفاته .

وأوّل هذه الكتب : كتاب (لوق يو) أو (الأحاديث والمحاورات) المعروف عند قرّاء اللغة الانجليزية باسم ( مجموعة الشذرات ) أي شذرات كنفوشيوس .

وثانيها : ما جاء في الفقرتين الرابعة والخامسة من الشو الثاني وهو المؤلف المعروف عند الصينيين باسم (الداشوه أو التعليم الأكبر)، ويعزو الفيلسوف والناشر الكنفوشي جوشي هاتين الفقرتين إلى كنفوشيوس نفسه، كما يعزو باقي الرسالة إلى دزنج - تسان أحد أتباعه .

وثالثها : كتاب (جونج يونج) أو (عقيدة الوسط) وهو الكتاب الفلسفي من كتب الصين .

وآخر هذه الكتب هو (كتاب منشيس) وهذا الكتاب هو خاتمة الآداب الصينية القديمة.

أفكار كنفوشيوس :

لم يكن كنفوشيوس رجل عقيدة ودين مثلما كان فيلسوفاً وسياسياً، فقد كانت النزعة المسيطرة عليه هي تطبيق مبادئ الفلسفة على السلوك والحكم.

وقد سخر حياته لتطبيق نظريته في الحكم قولاً وعملاً، حتى كان يتمنى لو تتاح له الفرصة لتولي الحكم ليرى الناس حقيقة ما يدعوا إليه، ولا بأس أن نذكر شيئاً من أفكاره في الحكم والأخلاق ما دمنا نترجم له، لنثني بعدها بذكر موقفه من الإلهيات والشعائر والعبادات .

ترتكز فلسفة كنفوشيوس في إصلاح المجتمع على إصلاح الفرد، فهو يرى أنّ في صلاح الفرد صلاح لأسرته، وصلاح الأسرة صلاح للمجتمع قاطبة، ويرى أنّ وظيفة الحاكم أن يحكم الناس بالعدل، ولتحقيق العدل يوجب على الحاكم أن يمثل القدوة الصالحة لشعبه في الأخلاق والسلوك الحسن، ويوجب عليه أن أيضاً أن يولي ولاياتهم وأن يوكل أعمال الحكم للصالحين لتستقيم الأمور، ويحذّر كنفوشيوس الحاكم من احتكار الثروة في أيدي المتسلطين، فيوجب عليه أن يوزعها ففي توزيع الثروة جمع شتات الشعب، ويوجب على الحكام كذلك أن ينشطوا في نشر العلم، لأنّ التعليم إذا انتشر انعدمت الفروق بين الطبقات .

ويوجب على الحكومة أيضاً أن تغرس الأخلاق الطيبة بين الناس، ذلك أنّ الأخلاق إذا فسدت فسدت الأمّة معها. وآداب اللياقة هي التي تكون على الأقل المظهر الخارجي لأخلاق الأمّة .

ويوجب على الحكومة كذلك توفير الأمن الغذائي والأمن القومي لشعبها، وأن تزرع الثقة فيها في نفوس شعبها، حتى تحصل الموائمة بينها وبينه، فيعمّ النظام ويشيع الوئام .

وأمّا نظريته في الأخلاق فلا تقلّ أهمية عنده عن السياسية وشئون الحكم، بل إنّ بينهما تداخلاً لا يخفى، فالسياسة في المحصلة هي وظيفة أخلاقية يكون فيها الحاكم هو المثال الخلقي لشعبه، وقد ألّف كنفوشيوس كتباً في الأخلاق، وحتى كتب التاريخ كان يذكر فيها قصصاً يحضّ فيها على الأخلاق الكريمة .

هذا ما يتعلق بجانب الأخلاق والسياسة أمّا جانب الطقوس والعقائد فلم يأت بشيء من عنده إلا أنّه كان حريصاً على تقليد أهل عصره في ذلك، وكان يحثّ تلاميذه ألاّ يغفلوا عن الطقوس والمراسم التقليدية في عبادة الأسلاف، وتقديم القرابين لمعبوداتهم، إلا أنّه كان يتجنب البحث فيما وراء الطبيعة، ويحاول أن يصرف عقول أتباعه عن أمور الغيب، فكان إذا وجّه إليه سؤال في أمور الدين أجاب إجابة سلبية، فعندما سأله بعض تلامذته قائلاً : هل لدى الأموات علم بشيء أو هل هم بغير علم  أبى أن يجيب جواباً صريحاً . وعندما سأله آخر عن ( خدمة الأرواح ) ( أرواح الموتى ) أجابه:( إذا كنت عاجزاً عن خدمة الناس فكيف تستطيع أن تخدم أرواحهم ). وسأله آخر قائلاً : (هل أجرؤ على أن أسألك عن الموت) فأجابه:( إذا كنت لا تعرف الحياة فكيف يتسنى لك أن تعرف شيئا عن الموت).

 

دين الصينيين:

لعل القارئ لاحظ أنّ كنفوشيوس لم يكن يُعنى كثيراً بمسائل الغيب والطقوس والشعائر، ولكنه لم يكن يعارض ما يمارسه الصينيون من تلك الشعائر والطقوس، بل كان يحثّ عليها على اعتبار أنّها تشكل الوحدة الثقافية للصينيين قاطبة.

ولعلّ من المناسب أن نذكر شيئاً من اعتقادات الصينيين تعريفاً بها لتكمتل صورة الدين في ذلكم البلد الواسع الأطراف، لعله أن يكون مجال دعوة جادة من أهل الحقّ ودعاة الإسلام :

1- يعتقد الصينيون بالإله الأعظم إله السماء، ويسمونه بالشانج - تي أي القوّة العليا المسيطرة على العالم، ويقيم له الإمبراطور احتفالاً سنوياً تقدّم فيه القرابين.

2- يعتقد الصينيون أيضاً بأنّ للأرض إلهاً . كما أنّ الشمس والقمر والكواكب والسحاب والجبال .. لكلّ منها إله .

3- يتوجه الصينيون أيضاً بالعبادة إلى أرواح آبائهم وأجدادهم وأسلافهم، ويرون أنّ لأولئك الأموات أرواحاً تضرّ وتنفع .

4- يؤمنون بأنّ ثمة أرواح خبيثة ترفرف من حولهم، لذلك يحرصون على ردّ عداوتها بالأدعية والرقى السحرية .

5- يؤمنون بالسحر والتنجيم، وكانوا يستأجرون المتنبئين ليكشفوا لهم عن مستقبلهم من أصداف السلاحف أو حركات النجوم، ويستأجرون السحرة ليوجهوا منازلهم نحو الريح والماء،  والعرّافين ليستنزلوا ماء الأمطار.  وكانوا يعرّضون للموت من يولد لهم من الأطفال في أيام ( النحس ).

6- يقرّب الصينيون في كلّ يوم قرباناً متواضعاً - ويكون في العادة شيئاً من الطعام - للموتى ويرسلون الدعوات الصالحات إلى أرواحهم.

هذه لمحة مختصرة حاولنا فيها أن نرسم صورة متكاملة إلى حد ما حول الكنفوشيوسية وبعض معتقدات الصينيين ، آملين من الله أن ييسر لتلك البلاد دعاة يهدون الناس إلى دين الإسلام دين النور والهدى .

ونحب أنّ ننبه أنّ الإنسان مهما أعجب ببعض أفكار كنفوشيوس ففي الإسلام منها وخير منها، فالإسلام يحثّ على الأخلاق ويولي أهمية بالغة لصلاح الحاكم، بل يوجب عليه أن يعتني بعماله فلا يولي إلاّ الصالحين، وأن يعتني كذلك بالرعية فيقوم على رعايتها، ويلزمه أن يحفظ لهم أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وأديانهم وأولادهم .

ولو ذهبنا نقارن بين الإسلام وما جاء به كنفوشيوس في السياسة والأخلاق لرأينا الإسلام قد جاء بخير مما جاء به كنفوشيوس . وزاد عليه حسن الاعتقاد في الله، وحسن عبادته والتوجه إليه، ونبذ الآلهة الباطلة المزعومة، ولا غرو أن يفضُلَ الإسلامُ الفلسفات الأرضية فهو وحي الله وهديه، وليس أفكاراً بشرية يعتريها ما يعتري البشر من الخطأ والنقص، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.